منذ زمن بعيد توقّف عادل إمام عن أن يكون كوميدياً مضحكاً. وقبل ذلك،
توقّف عن أن يكون ممثلاً بالمعنى العميق للكلمة، على الرغم من انه ينتمي
الى قلة من الممثلين الذين استطاعوا الجمع بين قطبي الكوميديا والحرفة
التمثيلية المدعومة بموهبة حقيقية. عقد التسعينات كان اجتراراً لأدوات
الممثل التي شحذها جيداً خلال السبعينات والثمانينات. بينما قامت تجاربه
السينمائية منذ مطلع الالفية الجديدة على اجترار "اختراعاته" الكوميدية.
سقوط الممثل ومن ثم سقوط الكوميدي مهّد لسلسلة أفلام أخيرة، بات من الصعب
معها مجاراة "الزعيم"- كما يحلو لكثيرين من مريديه وله حتماً تسميته- في
لعبته الخطيرة التي ينحدر فيها مع كل تجربة جديدة الى قعر لم نكن لندرك
سلفاً انه من الممكن الوصول اليه. المشكلة تكمن في هذا التراجع المبرمج
و"المدروس" لمستوى أفلام عادل إمام لنقل منذ "هاللو أمريكا" (2000) مع
إبقاء الباب مفتوحاً أمام اجتهادات قد ترجع بداية الانحدار الى ما قبل هذا
الفيلم. فهذا التراجع الواضح هو الذي يجعلنا اليوم ننظر الى ثلاثية "بخيت
وعديلة" (لا سيما بجزئيها الاول والثاني) بشيء من الحنين المشوب بالحسرة.
ربما شذّ عن أفلام المرحلة الاخيرة "عمارة يعقوبيان"، وهو بطبيعة الحال ليس
فيلماً لعادل إمام. بل انه يمكن القول ان "محاصرة" السوبر ستار في عمل
ينتمي الى كاتبه ومخرجه (وحيد ومروان حامد) ورميه بين ثلة من النجوم
القدامى والجدد، رفع عن كاهل الممثل السبعيني عبء النجومية المطلقة التي
يتصرف من وحيها في أعماله، ونفى عنه أدواراً كثيرة بات حريصاً على لعبها في
الآونة الأخيرة (من بينها أدوار الدونجوان والمرشد ورأس حربة السلطة...)
فاستدار الى شخصية "ابراهيم الدسوقي" التي خرجت من بين يديه بالحد الأدنى
من الأداء التمثيلي والتعبير الإنساني. بعيداً من المغالاة في تقدير ذلك
الدور، تنبع مأساة عادل إمام الممثل من عبوره مراحل مسيرته السينمائية في
الإتجاه المعاكس. منذ التسعينات تحديداً، أصبح لدى المشاهد المتابع لمسيرته
قناعة شبه راسخة ان كل فيلم جديد سيفوق سابقه على مستوى السذاجة والتسطيح،
وقبل ذلك على مستوى أداء الممثل. لم يكسر عادل إمام تلك القاعدة مرة واحدة،
وفي الاساس لقد بلغ تراجعه اليوم مبلغاً لا يجدي نفعاً معه التمسك بإشارات
صغيرة تدل على أفضلية ما. تلك هي حال فيلمه الجديد "بوبوس" الذي وإن بدا
أفضل بقليل من "السفارة في العمارة" مثلاً أو من "مرجان أحمد مرجان"، إلا
ان المقارنة في حد ذاتها تبدو ضرباً من مقايضة أقصى السطحية بسطحية أقل
فجاجة. بمعنى آخر، لم يعد ينفع عادل إمام ذلك التفاوت بين عمل وآخر الذي
يمكن قياسه بدرجة او اثنتين. إذ ان المطلوب، في سبيل تصويب المسيرة، تحول
جذري في الاتجاه والزاوية.
الأزمة الاقتصادية على طريقة عادل
لا تخلو أفلام عادل إمام من المواضيع الرنانة والاشكالية أحياناً.
الإسلام السياسي والتطبيع والفساد والتطرف الديني والتعايش بين الأديان
والكبت الجنسي، هي بعض موضوعات أفلامه الأخيرة. ومستقبلاً قد نسمع عن
مشاريع له تتناول الاحتباس الحراري وأزمة المياه العالمية وربما الأحداث
الايرانية الاخيرة أو مشكلات لبنان الداخلية. كل شيء ممكن مادام الموضوع
يقف دائماً عند العنوان ولا يتخطى دور المطية التي تقود أدوات النجم
التهريجية القديمة الى شاطئ الضحكات المجانية، أقصى التمنيات لدى إمام
وطاقم عمله. على هذا المنوال، روّج لفيلمه الأخير، "بوبوس"، في وصفه عملاً
يتناول تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية على رجال الأعمال المصريين. والحق
ان المواقف التي يقوم الفيلم عليها يمكن إدراجها في خانة أي موضوع لأنها هي
الموضوع وكل ما عداها تبرير وغطاء. حتى الكتابة عن عادل إمام وأفلامه باتت
هي الأخرى تنفع نقداً عاماً لأفلامه الأخيرة كافة. والسبب أن النجم حشر
نفسه وأفلامه وجمهوره في زاوية ضيقة قاطعاً الطريق على كل محاولات التأويل
من داخل الفيلم أو من خارجه. فما الحكاية التي تبدأ مع رجل الأعمال "محسن
الهنيدي" (إمام) الموشك على الإفلاس بسبب الأزمة الإقتصادية سوى إطار خارجي
هدفه إسباغ صفة "فيلم" على سلسلة من المواقف التي قد ينفع قسم منها مادة
لأمسية كوميدية على طريقة "ستاند-أب كوميدي". من تلك المشاهد مشهد يتظاهر
فيه بلعب دور رئيس الجمهورية حسني مبارك، مستقبلاً أحد أبناء الشعب الفقير،
"رأفت" (اشرف عبد الباقي)، حاملاً شكواه من غلاء المعيشة واستحالة الزواج
وتكوين اسرة. وإذ يُراد للمشهد ان يندرج في إطار "نقد السلطة" الذي تحوّل
أحد أدوات النجم وألعابه الجماهيرية في الآونة الأخيرة، لا يستطيع المشاهد
الا أن يتلمس ظاهرية الموقف وسذاجته. حتى عندما توشك اللعبة على التفلت
قليلاً من السيطرة المحكمة من خلال مبادرة "رأفت" الى لعب شخصية الرئيس، لا
يلبث المشهد ان ينقطع قبل أن يبدأ نافياً شرف "انتحال" شخصية الرئيس عن أحد
سوى "الزعيم". وتلك دلالة، سواء أكانت مقصودة أم غير مقصودة، تكتسب معناها
من الواقع الذي يتيح للزعيم فقط سوق ذلك نوع من النقد الساذج للسلطة على
قاعدة "التنفيس". ولكنها ايضاً، أي الدلالة، وسواها من التفاصيل، تشير الى
حدة التماهي بين الممثل والانسان في شخص عادل إمام. وتلك معادلة تكرست منذ
تحول الممثل نجماً ومن ثم سوبر ستار لا يستطيع أحد منافسته على عرش
الإيرادات. منذ ذلك الحين، غلب هاجس النجومية والجماهيرية المطلقتين على
هاجس التمثيل، وأمسى الحفاظ عليهما عملية لهاث شرسة تبتلع اي محاولة
للتجديد او كسر الإطار. لا يشذ عادل إمام في ذلك السعي عن سعي الصناعات
السينمائية الكبرى، واشهرها هوليوود بالطبع، الى حفظ موقعها وضمان نجاحاتها
من خلال تكرار المعادلات المضمونة. ولكن الفارق الكبير يكمن في أن الأخيرة
صناعة ومؤسسة أما إمام فممثل أخذ على عاتقه دور السلطة. في المصنع
الهوليوودي، يتم استنساخ التجارب وتُستغل اسماء النجوم ومواهبهم. ولكن ذلك
لا يمنعهم من تطوير أنفسهم واستغلال أضيق مساحة للتوهج خارج إطار المعادلة
المحسوبة وإن من أجل المتعة الشخصية والاكتشاف فقط. في هذا الإطار، تحضر
اسماء كثيرة لعل أبرزها في السنوات الأخيرة روبرت دينيرو الذي ترك نفسه
لشتى أنواع الإستغلال التجاري من دون أن يعني ذلك تغيير مساره الى الأبد.
بخلافه، يحرص عادل إمام على أن تكون مشاريعه السينمائية لا شيء سوى استغلال
لموهبته ولتاريخه. هو من أحكم السيطرة على موهبته متحولاً من فنان موهوب
الى مدير لموهبته، وربما مدير سيء.
الضغط
تُرى ما الذي دفع بعادل إمام الى حدود خنق موهبته؟ هل هو الجمهور الذي
لا يطالبه بأكثر من ذلك؟ أم هي حال السينما المصرية التي تفتقد افلامها
عموماً الى الحد الأدنى من مقومات السينما التجارية؟ أم هو خوفه على إرثه
من موجة الكوميديين الجدد الذين اسهم في إطلاق عدد منهم؟ أم تراه ما عاد
يستسيغ المناوشة أو المحاربة من اجل فكرته؟ لعل كل تلك الاسباب مجتمعة أفضت
بتجربة عادل إمام الى هذه الخواتيم. بعيداً من محاولة انصافه او الدفاع عن
خياراته، وقع الممثل ضحية مجموعة من الاعتبارات أبرزها النوع السينمائي
الذي اشتهر به، الخلفية التي صنعت صورته الأولى وخياراته السينمائية خلال
فترة التسعينات. غني عن القول ان فكرة "البطل الشعبي" والكوميدي تحديداً
تحمل في طياتها أسباب القضاء على الممثل، ذلك انها سيف ذو حدين يسهل معه
الانزلاق الى شعبوية لا شفاء منها. وعلى الرغم من ان مصير عادل إمام ينطبق
على اي سوبر ستار، إلا ان تجربته كانت أكثر تعقيداً استناداً الى مساره.
ذلك ان خصوصية تجربة إمام تكمن في انه جاء من الصفوف الخلفية وشق طريقه الى
القمة بخصوصية فريدة استندت في بداياته الى التلقائية والطزاجة اللتين
فاجأتا الجمهور كما الممثلين. لكن بعد وصوله إلى النجومية الصارخة، تحوّلت
الطزاجة والتلقائية إلى لعبة مكررة وأقنعة ثابتة يضعها مع كل دور. ومع كل
نجاح، تعاظم خوفه على صورته التي كوّنها عند الجمهور. فاستبدل المغامرة
والتجديد بحركات تضحك الجمهور مع انها تتكرر. تلك "الشخصية" اذا صح القول،
هي التي صنعت مجد عادل إمام عند الجمهور وحوّلته إلى ما يشبه الايقونة.
ومازال النجم يتحرك داخل هذه الأيقونة في "بوبوس"، مستعيناً بأدواته
القديمة التي هي خلطة من الايحاءات الجنسية والنقد والسخرية السطحيتين
مغلفتين بغلالة من الفانتازيا التي باتت تسبغ الكثير من مشاهد أفلامه
الأخيرة. على هذا النحو، تتمثل السلطة في "بوبوس" بشخصية "نظام بيه" (عزت
أبو عوف) الذي يتابع من مكتبه الغامض كل حركة. إنه "الأخ الكبير" أو
Big Brother، مزيج من الواقع والخيال، صورة عن سلطة مفترضة مع انه سلطة واقعية.
ولكن مفردات الصورة والاضاءة والديكور تحيل ذلك الواقع على نوع من
الفانتازيا، تبقي محاولات النقد والتأويل معلقة بين الواقع والافتراض.
لا ينفصل مسار عادل إمام السينمائي الأخير عن مساره الحياتي إمعاناً
في إضفاء المزيد من التعقيد على ظاهرة النجم وصورته وخياراته. فالمتابع
لتصريحاته السياسية الأخيرة من دعمه ترشح جمال مبارك للانتخابات الرئاسية
(على اعتبار ان فوزه منوط بعملية انتخاب ديموقراطية وليس ثمرة نظام توريث
سياسي!) وإدانته المظاهرات الشعبية على انها لا تصب في مصلحة الوطن، وقربه
الشديد من رموز السلطة وزواج ابنته من ابن احد قادة الاخوان المسلمين...
يدرك تماماً ان الرجل حجز لنفسه موقعاً في شرائح السلطة هو الطالع من شرائح
شعبية بامتياز. ويقرأ أيضاً مسيرته السينمائية في فصلها الأخير كامتداد
لتلك الخيارات.
من بطل شعبي الى صوت للسلطة
لعل هذا التنافر بين ما جسّده عادل إمام في مخيلات الجمهور وبين ما
يذهب اليه في الواقع، هو السبب وراء تصدع صورته بشكل كبير بين الناس. على
الرغم من ان الجمهور العريض مازال يتهافت على أفلامه، الا ان الخيبة ظاهرة
لاسيما مع ايرادات فيلمه الجديد وفي الصدمة الجماهيرية حيال مواقفه
السياسية. قبل الجمهور العريض، كان عادل إمام قد خذل قطاعاً مختلفاً من
جمهور السينما الذي يطلق عليه وصف المثقف او النخبوي. هؤلاء رأوا في بدايات
إمام شكلاً جديداً من ممثلي السينما: صعلوك قادم من مقاهي القاهرة
وشوارعها، ينتمي الى مدرسة تمثيل غير تقليدية، مسيّس، صاحب موهبة لافتة
تستطيع إضافة طابعها على أي شخصية. وفوق كل ذلك، قادر على إرباك المشهد
السينمائي القائم والثابت بنجومه وشخصياته. على صعيد الجمهور العريض، كان
ابن الحارة الذي استطاع ان يخترق الصفوف ويوصل صوته عن اصحاب السلطة العليا
وبطل الحياة اليومية الذي لا يملك القوة ولا الأفكار الكبيرة وانما الذكاء
الفطري والنبل.
في السبعينات والثمانينات، جسد أحلام الطبقة الوسطى باستعادة مكانتها
الضائعة. انتقل من الادوار الثانية إلى قمة النجومية الطاغية بأفلام عن
أبطال جدد (شعبان ورمضان ورجب)، اقتنصوا "الفرصة" لتحقيق الثراء المفاجئ في
ظل فوضى الانفتاح وصراع الحيتان.
اختار الجمهور عادل إمام خلطة بين القيم النبيلة والفهلوة. بين بقايا
الاحلام الكبرى وصفقات النجاح الفردي. بين الموهبة المدعومة بلطشة الوعي
السياسي وبين الانتهازية التي تلعب على دغدغة مشاعر الجمهور الواسع وتداعب
السلطة وتخفي الرغبة في الثراء بكلام مجاني عن "فن الجماهير".
كانت افلامه وقتذاك خارج طموح السلطة، كما حدث في فيلم "الغول" الذي
حذفت الرقابة المشهد الذي يقتل فيه الغول الفاسد. وفي الثمانينات أيضاً،
مرحلته الذهبية، غامر بالخروج على صورته المألوفة في أفلام مثل "الأفوكاتو"
لرأفت الميهي، و"الحرّيف" لمحمد خان وسواهما. ولكن حتى في الافلام التي لم
يغامر فيها كثيراً، حافظ على مستوى جيد.
حملت التسعينات صورة عادل إمام صوت السلطة في محاربة الارهاب من خلال
سلسلة أفلام، تدنت عن أعماله السابقة متجنبة السقوط المدوي الذي آلت اليه
أعماله الأخيرة، وفرضته لاعباً في الحياة السياسية. ولعل من مظاهر ذلك تحول
مسألة شخصية كزواج ابنته الى ملف عام يسائل النجم عن معنى مصاهرته "طيور
الظلام" (تيمناً بعنوان الفيلم الذي قدمه عام 1995 عن الاخوان المسلمين) في
سياق لهاثه السينمائي للنيل منهم.
"بوبوس" أو الخيبة مجدداً
حالياً، لم يعد عادل إمام مهتماً حتى بالقضايا العامة الا في وصفها
عناوين جاذبة أو مضللة لأفلام تتكرر وتتشابه. حدث هذا بالتوازي مع انفصال
مساره عن سينمائيين لا نقول مؤلفين، وانما يحملون على الأقل هاجساً فنياً
متوسطاً. انتهى تعاونه مع شريف عرفة ونادر جلال ورأفت الميهي... صار يلجأ
الى مخرجين جدد فارضاً شروطه على العمل الفني بكامله. ترافق ذلك ايضاً مع
صعود "الكوميديين الجدد" (محمد هنيدي ومحمد سعد وسواهما) من الذين صنعوا
بأفلام صغيرة وأقل من متواضعة نقطة تحول، وارثين عن "الزعيم" اسلوبه الأخير
في احتكار النجومية وتكرار المواقف وإفلاس الكوميديا. لعل من أكثر اللحظات
إفلاساً في فيلم "بوبوس" (تأليف يوسف معاطي وإخراج وائل إحسان) تلك المشاهد
التي تستعير من أفلام عادل إمام السابقة مواقف بحذافيرها ليس لعبقريتها
ولكن لأنها تبدو لعبة مضمونة. لعل استفحال الكوميديين الجدد بالمشهد
السينمائي المصري من الذين لم يحفروا مسيرة وان متقلبة كمسيرة عادل إمام
ولم يشتغلوا على مواهبهم ولا ثقافتهم، يبّين بوضوح أكبر الطاقة المهدورة
لممثل من طينة عادل إمام، ندرك تماماً قدراته الكامنة غير المستثمرة منذ
زمن بعيد. لعل تلك الحقيقة هي وحدها التي تحمل كثيرين- من بينهم كاتبة هذه
السطور- الى مشاهدة فيلم جديد له أملاً بمعجزة أن يفلت شيء من تلك الموهبة
على حين غرّة من صاحبها.
المستقبل اللبنانية في
17/07/2009 |