ومن أكثر المشاهد دلالة في هذا
السياق، ذلك المشهد الذي يظهر رجلي الدين، المسيحي والمسلم، وهما يتوجهان
إلى أمكنة العبادة لأداء الصلاة، وكي لا يكشف أحدهما أمر الآخر، يضطر
المسيحي إلى دخول الجامع لأداء الصلاة، بينما يضطر المسلم إلى أداء صلاته
في الكنيسة، وتتوج هذه المشاهد المؤثرة بعلاقة حب شفافة تربط بين جرجس
(محمد إمام) ابن مرقص، وفاطمة (شيرين عادل) ابنة محمود. لكن الفيلم يعيدنا
مرة أخرى إلى تلك الخانة الضيقة، لتطفو معضلة “الديانة” على السطح من جديد،
فلدى اعتراف جرجس لفاطمة بأنه مسيحي ظناً منه أنها مسيحية، وبأنه لا توجد
مشكلة لأنهما من دين واحد، تخبره فاطمة، بدورها، بأنها مسلمة، فلا تتأخر
العائلتان، عندئذ، في التمترس خلف قناعاتهما الدينية، والبحث عما يفرق،
فيصطدم ذلك الحب العفوي بصلابة العقول المتحجرة، وتحصل قطيعة بين العائلتين
بسبب التعصب الديني الأعمى، وكأن دفاع حسن ومرقص عن الاعتدال والتسامح ما
هو إلا قناع مخادع يخفي حقيقة نفاقهما الذي يعلن عن شيء، ويمارس شيئا
مغايرا، وهذا ما يسعى الفيلم إلى تصويره عبر إدانة إزدواجية رجال الدين من
الديانتين، فهم يتحدثون فيما بينهم بنبرة طائفية واضحة، بينما تتغير لهجتهم
ويدعون إلى الوحدة الوطنية وضرورة حصول الطائفة المقابلة على حقوقها عند
اعتلائهم المنابر العلنية.
لكن سيناريو الفيلم سرعان ما يعود إلى تأكيد
المقولة الرئيسة، المتمثلة في أن النزعة الإنسانية المنزهة عن كل غرض،
هي التي تسود، فعند وقوع أعمال شغب في المنطقة بين أفراد من الديانتين،
وتتطور إلى عنف دام، نجد أن محمود يعتني بعائلة بولص، وهذا الأخير
يحاول إنقاذ عائلة محمود من الحريق في إشارة إلى أن التعايش الإنساني
الرافض للتمييز هو الحل الأمثل كما فعلت العائلتان حين تصدتا للعنف،
بعدما تضررتا، بالمقدار نفسه، ذلك أن مثيري الشغب من المتعصبين لم
يميزوا بين مسلم ومسيحي ما يؤكد أن ذهنية التطرف تسعى دائما إلى تفكيك
أواصر المجتمع، وبث التفرقة بين أفراده.
تتجسد تفاصيل هذه الحكاية عبر لغة بصرية جذابة،
ومن خلال أسلوب فني يمزج بين الحس النقدي الساخر، وبين عمق المضامين،
وقد نجح المخرج الشاب رامي إمام في إيصال تلك المضامين إلى المُشاهد
بأبسط المفردات يسرا، وأقلها استفزازا، ولعل هذا ما يفسر نجاح الفيلم،
وتقبله من أقطاب كلا الديانتين، ورغم أن فيلموغرافيا هذا المخرج لا
تشير إلى تجارب سينمائية مماثلة باستثناء فيلمه اللافت “أمير الظلام”،
فإنه في هذا الفيلم قد تخطى الاستسهال الذي ظهر في أفلامه: “غبي منه
وفيه”، “بوحة”، “دستة أشرار”، “كلاشينكوف”، ليؤكد بان السينما المصرية،
رغم اتهام النقاد لها بالوقوع في فخ الكوميديا الرخيصة، والأفلام
الشبابية المتواضعة، لا تفتقر إلى تلك المواهب التي تنجز مشاريعها
الطموحة بين حين وآخر، وتثبت جدارة السينما المصرية في الوفاء لتاريخها
السينمائي الحافل.
يجمع الفيلم، الذي أنتج العام 2008م، بين رمزين
سينمائيين هما عادل إمام، وعمر الشريف في أول تجربة سينمائية مشتركة
بينهما، ومن الطبيعي أن اجتماع نجمين بهذا المستوى الرفيع يضفي على
الفيلم أهمية إضافية تضاف إلى جماليات الفيلم الأخرى، التي تظهر في
الموسيقى والسيناريو والمونتاج، فمع تيترات الفيلم نسمع الموسيقى
التصويرية المتناغمة لياسر عبد الرحمن، والتي يمتزج من خلالها صوت
الابتهالات الدينية، وآذان الجوامع بأصوات القداس الكنيسي، والتهاليل
الكنيسية في تناسق مدهش يعلن عن هوية الفيلم. المونتاج، بدوره، كان
موفقا في تكريس تلك الهوية ذات الطابع الإنساني المحض، إذ تتوزع لقطات
الفيلم بين بيوت الله، لتعانق الكاميرا، حينا، الجوامع، وحينا آخر،
الكنائس، ولتخلق حوارا بصريا؛ مشحونا بالدلالة، بين الأديان، إذ لطالما
شكل هذا الحوار حاجة ماسة في هذه المرحلة الملتبسة. ويتجاوز المونتاج
وظيفته، في بعض الأحيان، ليرسم لوحات تنطق بما عجز الكاتب يوسف معاطي
عن كتابته، كذلك المشهد الذي يدمج بين لقطة قريبة ليدي جرجس وفاطمة وقد
تماسكتا بود وحنان، مع لقطة لأبويهما وقد جمعت يديهما الأصفاد بعد أن
ألقت الشرطة القبض عليهما بالخطأ، وهي إشارة رمزية إلى الأقدار
والمصائر المشتركة، مهما اختلفت الأفكار والمرجعيات.
هذا التوزيع المدروس تظهره تلك
اللقطات المتزامنة؛ المتقابلة والمشغولة بعناية إذ تنتقل الكاميرا بين
الضفتين اللتين يجمعهما نهر الحياة الواحد، وتفلح في إتاحة فرص متساوية
أمام الشخصيتين، وكأن الشكوى التي يكررها المسلمون تجاه الأقباط بأنهم
يسيطرون على قطاع المصارف والبنوك ويملكون ثروات طائلة، والشكوى المقابلة
التي يرددها الأقباط تجاه المسلمين في كونهم يستحوذون على المناصب الرسمية
الرفيعة في بلد مثل مصر قد تلاشت أمام عدسة رامي إمام الذكية، فهو يقسم
مشاهد الفيلم بإنصاف بين بطليه، في محاولة للوصول إلى هواجس الإنسان وهمومه
وتطلعاته وآماله بمعزل عن الاصطفاف المصطنع، والحواجز الوهمية، وذلك تجسيدا
للمقولة الفذة التي كان يكررها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد: “ليس
لأحد أن يحتكر الحقيقة أو الجمال أو الذكاء، ففي موعد النصر ثمة متسع
للجميع”!!.