عندما تنطلق الدورة الجديدة من مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي يوم
الأربعاء الخامس من أغسطس/آب المقبل، فإن مرحلة جديدة من المنافسة تنطلق
معها محمّلة هذه المرّة بالتساؤلات حول التغييرات التي لا يفتأ المهرجان
يشهدها، كما لو أنه افتقد هويّة ما يحاول استرجاعها منذ إقدامه على قرارات
اتخذها قبل أعوام قليلة واستقبلت، حتى من ذلك الحين، بتفاوت بين مرحب بحذر
وغير مرحّب على الإطلاق.
في الأساس، انطلق هذا المهرجان السويسري الواقع ما بين جبال الألب
والبحيرات قرب الحدود الإيطالية، قبل اثنتين وستين سنة. السنة ذاتها التي
انطلق فيها مهرجان “كان” السينمائي بفارق أن “لوكارنو”، عن حكمة وبصيرة
آنذاك، قرر تخصيص معظم عروضه، وكل عروض مسابقته، للأفلام التي يقدّمها
مخرجون جدد. بذلك أسهم المهرجان عاماً بعد آخر، وخصوصاً في السنوات الخمس
والعشرين الأخيرة في تقديم سينمائيين، كثير منهم باتوا عالميين.
من هؤلاء، في السنوات الأخيرة مثلاً، المخرج التركي فاتح أكين، الذي انتزع
ذهبية برلين قبل أربع سنوات عن فيلمه “صدام”، والمخرج الأمريكي بول توماس
أندرسن الذي قدّم قبل عامين “سيكون هناك دم”، أحد أفضل ما خرج عن السينما
الأمريكية من حينه، والمخرج فرنسوا أوزون الذي حقق دراميات بوليسية فرنسية
منذ تقديمه أول مرّة على شاشة لوكارنو سنة 1998.
هذا التوجّه تغيّر منذ أن قرر المهرجان قبل سنوات قليلة أنه إذا لم يتغيّر
فهو معرّض للتراجع وربما لاستحواذ مكانة ثانوية لا تليق بتاريخه.
نتيجة هذا الاتجاه، استحداث ثلاث مسابقات عوض الواحدة. الأولى هي “فهود
الغد” المخصصة للمخرجين الجدد في أعمالهم الأولى او الثانية، كما كان الحال
دائماً.
الثانية باسم “مخرجو الحاضر”، وهي مسابقة خاصّة بأفلام المخرجين الجدد
الذين يقدمون، في الأسلوب ولغة السرد والموضوع، أعمالاً بالغة الاختلاف
والتنوع، يصفها المهرجان بالراديكالية. المسابقة الثالثة هي “المسابقة
الدولية” وهذه مزيج لا يعرف التفرقة بين التجارب الحديثة والقديمة علماً
بأن كل هذه المسابقات دولية.
المحيّر هذا العام هو أن الأفلام التي ستشترك في مسابقة “فهود الغد” لم
يعلن عنها أسوة بأفلام المسابقتين الأخريين، رغم أن الإعلان الذي نشر
الأربعاء الماضي كان رسمياً ويوحي بأنه كان كاملاً ما يدفع للتساؤل عما إذا
كان ذلك إلغاء لهذه المسابقة او مجرد تأخير في ذكر عناوين أفلامها.
في شتّى الحالات ينخرط المهرجان في العملية الدعائية التي باتت تصاحب كل
المهرجانات الأولى، فهو يفخر هذا العام بأنه يعرض 25 فيلماً لم يسبق عرضها
في أي مكان من العالم.
فيلم الافتتاح سيكون “500 يوم من الصيف”، وهو الأول للمخرج الأمريكي مارك
وَب يعرض خارج المسابقة لجانب ثمانية عشر فيلما آخر جاءت من سويسرا
واليابان وروسيا وألمانيا والمجر وفرنسا والكثير منها أيضاً أعمال مشتركة
بين دول مختلفة. الفيلم، وهو دراما خفيفة للمخرج الجديد، سيعرض في قسم
“بياتزا جراندي” وهو يستمد تسميته من الساحة الكبيرة التي تتوسّط مدينة
لوكارنو حيث يتم تزويدها، كل ليلة، بنحو 5000 مقعد (وفي حالات أخرى بنحو
3000 مقعد آخر) تحتل الساحة كلها مواجهة شاشة ثابتة تُنصب بين طرفي الشارع
العريض.
على هذه الشاشة سيتم عرض ثمانية عشر فيلماً من بينها “الكنبة الزرقاء”
للإيطالي جيسبي بارسي، و”أحزان الحدود” للإيراني باباك جلالي، و”التقدمة”
للكندي برنارد إموند و”لا شيء شخصي” للأيرلندية ارسولا أنتونياك. كذلك
بينها “وصي شقيقتي” وهو فيلم بكائي تؤدي بطولته كاميرون ياز فيما يمكن
اعتباره أحد أفضل أدوارها الى اليوم.
وختام هذه العروض فيلم ألماني وثائقي بعنوان “حصانان لجنكيز خان” لمخرج
منغولي جديد اسمه بياماسورن دفاء كان قدّم قبل أربع سنوات فيلماً
وثائقياً عنوانه “قصّة الجمل الناحب” أثار بعض الضجة الإيجابية من قِبل
النقاد لكنه لم يحتل المكانة التي قصد احتلالها.
في المسابقة الدولية فإن المعظم الكاسح من الأفلام المشتركة جديدة الى حد
أن لا معلومات عنها تم نشرها مسبقاً باستثناء الفيلم الروسي “بارابان” الذي
شهد عرضه العالمي الأول في روسيا في الشهر الماضي.
ومع أن المسابقة الدولية المفترض بها أن تحوي أسماءً معروفة لجانب الجديدة
تجمع عدداً من المخرجين الذين تجاوزوا التجربتين الأولى والثانية، الا أن
أسماء معظمهم مازالت محدودة الانتشار ما سيمنح الدورة تآلفاً وتجانساً في
نهاية الأمر.
وقد وفى العالم العربي بالوعد غير المعلن الذي قطعه على نفسه بأن يستبعد
نفسه ويسمح للآخرين باستبعاده عن طريق عدم تقديم ما يستحق المشاركة، لكن
المخرج “الإسرائيلي” أموس غيتاي موجود بالطبع بفيلم عنوانه “حرب أبناء
النور ضد أبناء الظلام”، ولنا أن نعرف ما يقصد.
لا جديد في “هاري بوتر” إلا زيادة
الايرادات
الليلة الأولى من عروض “هاري بوتر والأمير نصف الشقيق” جلبت من الولايات
المتحدة اثنين وعشرين مليون دولار. الناس، كما يقول مسؤول في شركة “وورنر”
الموزّعة “متحفزون لمغامرة جديدة ليس فقط جديدة بالنسبة للقصّة، بل من حيث
أن أبطال الفيلم دخلوا مرحلة المراهقة ما يجب أن يعكس روحاً مختلفة لهذا
الفيلم والفيلمين التاليين أيضا”.
لكن مهما قيل في أسباب ودوافع المشاهدين، وقول المسؤول في “وورنر” صائب ولو
أنه ليس كاملاً، فإن إنجاز هذا المبلغ في حفلات منتصف الليل في منتصف
الأسبوع الماضي أمر مدهش سيحمل منتجي
الفيلم على الرقص طوال الطريق الى “البنك”، كما يقولون.
بعيداً عن هذا الوضع التجاري للفيلم، فإن المتغيّرات التي تمر بها حلقات
هذا المسلسل (الذي يبدو طويلاً الآن) تنبع فعلاً، ولو جزئياً، من بلوغ
الأبطال الثلاثة، وباقي أولاد المؤسسة القابعة في الزمن الخيالي، مرحلة
المراهقة وما تجرّه من أزمات قد تبدو لنا نحن الناضجون اليوم عادية او ربما
ساذجة. في هذا الفيلم سنرى هاري بوتر، وفي وسط نزاعاته مع أعدائه الذين
يودّون قتله، وهو واقع في حب شقيقة فتاة لم تكن تعلم أنها أصبحت هدف
عاطفته. والفتاة هرموين، التي تؤدي دورها إيما واتسون، والتي كانت أوهمتنا
أن هاري بوتر سيكون فارس أحلامها، لا تنام الليل وهي تفكّر في صديقهما
المشترك رون (روبرت جرينت). وهذه المرّة أيضاً يختلف المكان الذي تقع فيه
الأحداث. ففي السابق كانت المدرسة المتخصصة بتعليم فن السحر تكمن في عالم
متواز (مثل عالم سلسلة “ماتريكس” إنما أقل عنفاً في الظاهر فقط). والآن
يدور الكثير من الأحداث في زمننا وعالمنا الذي نعرفه منتشراً فوق مدينة
لندن مهدداً من فيها. كل ذلك لأن الرغبة في الانتقام من هاري (دانيال
ردكليف) ورغبة هاري في معرفة الحقيقة حول من قتل والده ولماذا، يدفعان
الحكاية الى مواجهة لم تعد تستوعبها المدرسة كما كانت العادة من قبل.
في الحقيقة، تبدأ الأحداث في لندن ذاتها. اللندنيون يتوقّفون عما يقومون
بفعله وينظرون الى سحب غريبة تلبّد السماء. فجأة تهبط من هذه السحب زواعق
سوداء قاتلة تنشر الحمم فوق الضحايا. هذا من قبل أن نعرف عنها مرسلة من
شرير السلسلة الأكبر فولدمورت (راف فاينس). وبعد أن ينطلق الفيلم في هذه
البداية القويّة فإن ما ينجلي سريعاً أن فولدمورت وإن قرر أن يدفع الأبرياء
ثمن سحره الأسود، الا أن نقمته وغضبته ما زالا مُنصَبين على هاري الذي كان
واجهه في الحلقة الخامسة من المسلسل وانتصر عليه في فصل واحد من المعركة
على الأقل.
المشكلة في هذا الفيلم تنبع من أن النمو البدني للممثل دانيال ردكليف، الذي
لا يزال محور كل الفيلم، لم يصاحبه نضج في الموهبة. يتمنّى المرء لو أنه
تعلم، من مدرسة السحر، قدراً من الأداء الجيّد بحيث يمنح شخصيّته بعض تلك
المعاني المفقودة. هاري/ دانيال يبدو غير مقنع وخالياً من العاطفة ليس لأن
دوره يتطلب ذلك، بل لأن الشاب -وقد لعب الدور منذ أن كان في الحادية عشرة،
لم يعد لديه ما يثيره وبالتأكيد ليس لديه ما يقدّمه فوق ما قدّم إلى اليوم.
جمعت السلسلة أكثر من 4 بلايين و500 مليون دولار حتى الآن، والمؤكد أن هذا
الفيلم سيضيف بضع مئات ملايين من الدولارات في غضون الأسابيع القليلة
المقبلة. هذه الحقيقة تدركها شركة “وورنر” التي كانت ابتاعت الروايات السبع
للمؤلفة البريطانية ج.ك. رولينينج وقررت قبل بضعة أشهر تقسيم الرواية
السابعة الى فيلمين، فقط للتأكد من أنها ستجمع عبرهما رصيداً آخر من أنفاس
ودولارات.
أوراق ناقد
غياب القضايا الجوهرية
تختلف الكتابة عن السينما اليوم عما كانت بالأمس من ناحية أنه في الماضي
كانت هناك قضايا تستوجب الطرح على الصفحات المطبوعة. مثلاً كانت هناك
الرغبة الماسّة لخلق تيار من السينما البديلة لما اعتبر سينما تجارية،
وكانت هناك الحاجة لحث السينمائيين العرب للبحث في القضايا التي تهم الناس
وفي طرح المزيد من المواضيع التي تتعلّق بالصراع بين العرب والكيان المحتل
من باب تأييد الجانب الفلسطيني في صراعه.
كان هناك الطموح لأن ترتقي السينما الجادة فتسود وينتشر العمل السينمائي
الجاد في كل الدول وتقوم المؤسسات الرسمية بمد يد العون الى المنتجين
والمخرجين الراغبين في تحقيق أفلام من هذا النوع.
طبعاً كان الكثير مما يطالب به المثقّفون والسينمائيون موجوداً، كذلك كان
الكثير من القضايا المطروحة غير واضحة في أساسها فتشجيع السينما البديلة
مثلاً لا يمكن أن يُفرض فرضاً على المشاهدين ولا هو أمر تلجأ اليه الحكومات
فتصدر قرارات بشأنه. كذلك مسألة تبيان الخطر السرطاني لدولة العدو في وقت
كان الغرب يعتّم إخبارياً على الاعتداءات “الإسرائيلية” على لبنان او سواها
وعلى سلسلة الاغتيالات التي كانت تقوم بها اليوم ولا تزال كلما رأت ذلك
مناسباً، ترتبط بضرورة تقديم سينما تعرف كيف تتوجّه للغرب. فالسينما مثل
اللغة المحكية، إذا لم تجدها فإن جدالك ضعيف وغير مفيد.
لكن على الأقل كانت هناك قضايا وهو ما يغيب عن المثقفين والسينمائيين
اليوم، فلا ذكر لسينما مختلفة او بديلة او مستقلّة ولا مجموعة من النقاد
السينمائيين الجادّين التي تستطيع أن تحفر خطّاً في الحياة الثقافية يعيد
بناء الثقافة السينمائية. ولا اهتمام رسمي بمؤسسات تنشر هذه الثقافة
وبالطبع لا يوجد من يتولّى، كما فعلت المؤسسات السينمائية في مصر والجزائر
وسوريا والعراق، مساعدة السينما الجادة على الحضور في موازاة السينما
الجماهيرية.
طبعاً، كان هناك الكثير من السلبيات في هذا الخصوص لكن ليس لدى كل المؤسسات
بل بعضها الذي انصرف لإنتاج أفلام إعلامية دعائية تشبه تلك المسلسلات
الإذاعية التي كانت منتشرة أيضاً. وكان هناك تجاوزات وقليل من التخبّط هنا
وهناك- لكن التطبيق حتى حين يخطئ لا يلغي المبدأ الذي كان صحيحاً.
بالمقارنة مع ما هو الحال اليوم، فإن التردي في العمل السينمائي، كتابة
ونقداً وإخراجاً وإنتاجاً، يعود الى هذا الاستسلام للأمر الواقع.
م .ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخليج الإماراتية في
19/07/2009 |