كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

المخرج محمد توفيق: الفيلم الروائي هو الحلم

بقلم: حسين السكاف

ملف السينما العراقية

   
 
 
 
 

ما بين اللقطة الأولي، تلك اللقطة المفعمة بحلم الطفولة، وبين مكابدة الغربة التي خطت بياضها علي خصلات شعر داكن السواد، الغربة المشبعة بأنين رذاذ الثلج الاسكندنافيَّ، تقف مرارة أكثر قرارات العالم ظلماً للإبداع. وما بين فيلمه الأول حرب أكتوبر وأحدث أفلامه شاعر القصبة ، ينساب زمن من الإبداع يمتد إلي أكثر من ثمانية وعشرين عاماً.

المخرج العراقي محمد توفيق، الذي ما أن أكمل دراسته للسينما والتمثيل في بغداد، حتي أخرج وفي نفس العام فيلمه التسجيلي حرب أكتوبر الذي تناول فيه جملة من النشاطات الفنية والثقافية التي أقيمت في بغداد بمناسبة مرور عام علي حرب تشرين الاول (أكتوبر) 1973، ثم تلاه بفيلم صانعة الأجيال الذي يتناول نضال المرأة العراقية والمنجزات والمكتسبات التي كانت ثمرة هذا النضال لصالح المرأة العراقية، حيث تم عرض هذا الفيلم في مؤتمر السنة العالمية للمرأة في المكسيك عام 1975.

منذ البداية وأحلامه تدور في فلك إخراج الأفلام الروائية، فلقد أعد محمد توفيق نفسه لتحقيق ذلك الحلم منذ أن عرف معني للسينما وهو في عمر الصبي، لذا ذاع صيته بين الوسط الفني العراقي عند أول فيلم روائي شارك فيه كمخرج مساعد، كان ذلك في فيلم بيوت في ذلك الزقاق للمخرج العراقي قاسم حول، وبعد ذلك فيلم الأسوار للمخرج العراقي محمد شكري جميل.

نال المخرج العراقي محمد توفيق وزوجته الفنانة جنين جواد المتخصصة في المونتاج السينمائي، ما ناله الكثير من المبدعين، من تهجير ونفي خارج الوطن، الوطن الذي ولدوا فيه وأعدوا أنفسهم إلي جمهوره، حيث اضطر محمد توفيق وزوجته جنين جواد الالتحاق بمؤسسات السينما الفلسطينية عام 1978 ببيروت، كانت الحرب الأهلية اللبنانية في ذروتها آنذاك، حيث عاش الاثنان ظروفاً أمنية غاية في السوء والتعقيد، أي في غابة من البنادق، ينامون كل يوم علي أزيز الرصاص والطائرات ويفيقون عليه، حيث أصبحت هذه السمفونية سمفونية الموت جزءاً من حياتهم اليومية.

رغم ظروف الحرب القاسية والبشعة، كانا مسلحين بالإرادة والإيمان بقضية شعب تعرض إلي أبشع ظلم في التاريخ المعاصر، ألا وهي قضية الشعب الفلسطيني. ورغم الإمكانات الشحيحة والبسيطة من حيث تمويل الأفلام، والغياب شبه الكامل للمعدات السينمائية من الكاميرات وأجهزة الصوت والمونتاج، وعدم وجود كوادر سينمائية مختصة، كانوا يحاولون جاهدين مع زملائهم أن يعملوا أفلاماً وثائقية عن بعض جوانب الثورة الفلسطينية من ناحية، ومن ناحية أخري توثيق جوانب أخري من حياة الثورة في لبنان، لتترك هذه الأفلام فيما بعد صداها المتميز أينما عرضت.

المخرج الفلسطيني

أصابتني الدهشة والفرحة في آن واحد وأنا أقرأ عنواناً لمقال كان قد نُشِرَ علي صفحات مجلة الحدث العربي بتاريخ 16 حزيران (يونيو) 1986 حيث جاء العنوان كالتالي لقاء مع المخرج الفلسطيني محمد توفيق كانت دهشتي بسبب معرفتي غير الشخصية بمحمد توفيق، فأنا أعرفه منذ العام 1977، ذلك الشاب العراقي الذي قرأت اسمه في صالة سينما بابل ببغداد علي مانشيت الفيلم العراقي بيوت في ذلك الزقاق ، وأعرف عنه أيضاً بأنه عراقي من مواليد قضاء تلعفر التابع لمدينة الموصل في شمال العراق، وسبب فرحتي بذلك العنوان لأنه أوحي إليّ بذلك القدر الهائل من الصدق والتفاني في أعماله السينمائية كمخرج عراقي خدمَ قضية العرب الكبري القضية الفلسطينية مما جعل من المشاهد العربي يتصور بأنه فلسطيني المولد والنشأة.

محمد توفيق مخرج تميزه نظرته الخاصة عند تناوله موضوعاً معين، خصوصاً تلك التي تتعلق بموضوعة القضية الفلسطينية، حيث تتجلي نظرته الخاصة من خلال تناوله موضوعة العمل من زاويةٍ نَدَرَ أن تناولها غيره من المخرجين في هذا المجال، حيث عودتنا أفلامه علي تناول الجانب الإنساني من خلال إظهار أحلام وتطلعات والواقع الذي يعيشه ذلك الإنسان، فعدسة محمد توفيق تلاحق النفس البشرية في داخل ذلك الإنسان، وحيث الدم هو اللون والشكل المنساب علي الأفلام الفلسطينية، وهذا ما نلاحظه في الكثير من الأفلام الفلسطينية إلا أن أفلام محمد توفيق قد خلت من هذا المشهد الذي يزرع الخوف والإحباط لدي المشاهد العربي، لذلك نجده يركز علي الجوانب العاطفية والإنسانية في أفلامه، ليدخل إلي المشاهد العربي المدخل الصحيح والمدروس بشكله العلمي.

خمسة أفلام

أخرج محمد توفيق أثناء عمله مع منظمة التحرير الفلسطينية خمسة أفلام سينمائية، كان أولها فيلم مسيرة الإستسلام عام 1979، يتحدث الفيلم عبر الرسومات الكاريكاتورية للفنان ناجي العلي عن أهم الأحداث التي شهدتها الساحة العربية، أي منذ زمن حرب تشرين الاول (أكتوبر) حتي اتفاقيات كامب ديفيد 1979، وانعكاسات هذه الأحداث علي القضية الفلسطينية، ويعد هذا الفيلم من التجارب السينمائية النادرة، من حيث كونه أول فيلم سياسي يتناول وضعا عربيا متأزما عن طريق الرسومات الكاريكاتورية، فالفيلم اعتمد علي رسومات الفنان المبدع الشهيد ناجي العلي، ذلك الفنان الشجاع والجريء الذي توغل بريشته الجريئة في خفايا ودهاليز السياسة التي لم تطأها أقدام غيره من الفنانين، ولهذا دفع حياته ثمناً لشجاعته وجسارته.

اتخذ الفيلم من شخصية الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، الشخصية الرئيسية في الفيلم، حيث تقود شخصية السادات المرسومة بريشة الفنان ناجي العلي أحداث الفيلم من بدايته حتي النهاية. وبطريقة لا تخلو من الخبرة والدراية، أضاف المخرج محمد توفيق خطابات السادات الصوتية بدلاً من الموسيقي التصويرية في مواقع كثيرة من الفيلم للدلالة علي موضوعته، حيث استخدم خطابات لمناسبات عديدة مثل خطاب حرب أكتوبر، واتفاقيات كامب ديفيد، ومسألة الديمقراطية والحريات تحت مظلة حكمه. عندما عرض الفيلم لأول مرة علي نخبة من الفنانين والمثقفين وكان من ضمنهم الفنان الشهيد ناجي العلي، وبعد انتهاء عرض الفيلم صافح الفنان ناجي العلي المخرج محمد توفيق وقال له: اقتنعت الآن فقط كيف أن رسوماتي الكاريكاتورية قد تحولت إلي فيلم . والفيلم الثاني للمخرج محمد توفيق كان بعنوان يوميات مقاتل ، صُوِّر هذا الفيلم أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، هذا الاجتياح اللعين الذي دمر الكثير من معالم الثقافة والفن والفرح العربي في لبنان، دمر أيضاً نسخة فيلم يوميات مقاتل فلقد فُقِدت نسخة الفيلم علي أثر هذا الاجتياح، حيث لم يتم العثور علي أثر لنجاتيف نسخة السالب أو نسخة العمل لهذا الفيلم. ثم يليه الفيلم الثالث الذي شارك في العديد من المهرجانات السينمائية مثل، مهرجان قرطاج السينمائي في تونس، وكراكوف في بولندا، ومهرجان دمشق، وطشقند في أوزبكستان، إنه فيلم أم علي الذي أنجز عام 1983، أي بعد حرب 1982 وبعد مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية لبيروت بعام واحد، يتناول هذا الفيلم وعلي مدي عشرين دقيقة فقط، الأم المناضلة أم علي التي قدمت أربعة شهداء من أبنائها من أجل كرامتها وكرامة الشعب الفلسطيني للخلاص من ظلم الاحتلال الإسرائيلي، حيث يحتفي الفيلم بهذه الأم التي عملت في كل الظروف الصعبة مع المقاتلين الفلسطينيين في المعسكرات وقدمت لهم أفضل الخدمات، إنها أم تمتلك من الإرادة والطاقة والعطاء ما لم يمتلكه الكثير من الرجال، فأم علي هي تلك المرأة التي يعجز أقوي الرجال عن منافستها في الأيام الصعبة، وهي أيضاً تلك الفتاة اليانعة التي كانت تؤَمِنْ الأسلحة للثوار أيام ثورة عز الدين القسام في العام 1936، حينذاك كان عمرها لا يتجاوز الرابعة عشرة. أظهر لنا الفيلم هذه المرأة وهي تتصدر التجمعات والمواقف الطارئة، مدارس الأطفال، المستشفيات، التظاهرات، نقل الجرحي، التوعية الوطنية، إنها بحق امرأة تستحق مهرجاناً من الأفلام.

أما فيلم الطفل واللعبة الذي أُنجز في عام 1986، فهو فيلم قصير تدور أحداثه حول الغارة الإسرائيلية علي مقر منظمة التحرير الفلسطينية بمنطقة حمام الشط بتونس عام 1985، حيث يظهر آثار وتبعات هذه الغارة، يكاد هذا الفيلم أن يكون الوحيد الذي أنجز عن هذه الغارة والوحشية، حيث يطرح المخرج محمد توفيق موضوعة هذا الفيلم من خلال طفل فلسطيني، يتناول لحظات من حياة هذا الطفل بعد الغارة، حيث نراه يراقب مجموعة الأطفال وهم يمارسون لعباً مختلفة، يتم تركيز العدسة علي وجه الطفل وملامحه وردود فعله أثناء مراقبته للأطفال وهم يلعبون، يستطيع المشاهد أن يلمس ما يرتسم علي ملامح هذا الطفل من انفعالات إنسانية طفولية وتلك الرغبة العارمة التي تعتريه للمشاركة في اللعب معهم، ومن حين لآخر تنتقل العدسة علي لعب الأطفال وبشكل خاص علي أقدامهم، ومن خلال ذاكرة الطفل تنقلنا عدسة المخرج إلي الماضي القريب بطريقة (فلاش باك) حيث منطقة حمام الشط لتسليط الضوء علي الخراب والدمار والضحايا التي خلفتها هذه الغارة الوحشية علي منطقة آهلة بالأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء.

وتعود الكاميرا مرة أخري إلي ساحة اللعب لنري الأطفال يغادرون الساحة وتركز عدسة الكاميرا علي الشخصية الأساسية للفيلم وهو الطفل الذي لم نر منذ البداية إلا ملامح وجهه لنكتشف بأن الطفل هو أحد ضحايا الغارة التي أفقدته القدرة علي المشاركة مع أترابه في اللعب حيث انه أصبح معاقاً مقطوع الساقين .

اعتمد المخرج محمد توفيق في فيلمه هذا علي الصورة بشكل أساسي بدون اللجوء إلي الحوار أو تعليق مستعيناً بموسيقي تصويرية مرافقة. مثل هذا الفيلم دولة فلسطين في مهرجان قرطاج السينمائي، قسم المسابقة الرسمية لعام 1986، وشارك في مهرجان القاهرة الدولي الثالث لسينما الأطفال، قسم المسابقة الرسمية.

ثم نصل إلي الفيلم الخامس للمخرج محمد توفيق وهو فيلم الناطور الذي تم إخراجه عام 1988، يتناول المخرج محمد توفيق من خلال فيلم الناطور وبفترة زمنية قصيرة لا تتعدي 26 دقيقة وهي مدة الفيلم، قصة الإنسان المواطن الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي وما يعانيه من استلاب واستغلال تحت وطأة الممارسات اللاإنسانية، وهو يعي بأن أرضه تُسلب منه بالقوة تحت ضغوط نفسية وجسدية، فهذه التفاعلات موجودة في الماضي والحاضر، حيث يسلط مخرج الفيلم المزيد من الضوء علي هذه الوضعية لتعرية الحقائق التي يعاني منها المواطن الفلسطيني، لعب دور الشخصية الرئيسية للفيلم أبو القاسم الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور، اعتمد المخرج محمد توفيق علي المدرسة كمحور أساسي في فيلمه، لأنها هي التي تحتضن الأطفال، ولأن كل الأحداث التي تدور في الأرض الفلسطينية تمر عبر الأطفال باعتبارهم عنصراً أساسياً في تحريك الثورة وإثارة الغضب ضد المحتل. قصة الفيلم للصحافي والكاتب الفلسطيني أكرم هنية، ومن يقرأ هذه القصة تبهره قدرة الكاتب علي خلق الإحساس بمعاناة ناطور المدرسة أبو القاسم وبتذبذبه بين الاستسلام للأمر الواقع ورفض أوامر مدير المدرسة الصادرة إليه من الجيش الإسرائيلي والمتمثلة بمسح وعدم السماح بكتابة الشعارات المعادية للصهاينة علي سور المدرسة وجدرانها، لقد قام المخرج محمد توفيق بنقل واقع هذه القصة بكل أمانة وصدق مضيفاً لها خبرته في الاختزال والتركيز. مثل فيلم الناطور السينما الفلسطينية في مهرجان موسكو السادس عشر، ومهرجان القاهرة السينمائي الدولي الثاني عشر 1988، ومهرجان قرطاج السينمائي، المسابقة الرسمية 1988.

أعمال أخري

للمخرج السينمائي محمد توفيق برنامج حواري تلفزيوني مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش، كان البرنامج بعنوان سجل أنا عربي سُجِلَ هذا البرنامج عام 1986. يعد هذا البرنامج من البرامج المهمة التي سلطت الضوء علي الكثير من الجوانب المهمة في حياة الشاعر محمود درويش.

علي الرغم من أن المخرج محمد توفيق قد انتقل منذ العام 1993 إلي الدنمارك، وعلي الرغم من انقطاعه عن العمل في داخل المؤسسة الفلسطينية، إلا أننا نجده لا يزال يفكر بهذه القضية التي شغلت تفكيره سنوات عديدة، وعند أول ومضة لفكرة فيلم، يفاجئنا محمد توفيق بفيلم تحديات ساعي البريد عام 2002، يتناول الفيلم تحديات شاب دنماركي يدعي Alan يعمل ساعي بريد في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، يقوم إلي جانب عمله بنشاطات إنسانية تقف ضد الحروب وصانعيها عبر منظمة حركة السلام الدنماركية، وفي الفترة التي تشن فيها القوات الإسرائيلية هجومها الوحشي علي المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وتحديداً عند استلام شارون السلطة، حيث تعيد القوات الإسرائيلية احتلال المدن الفلسطينية، يسافر Alan إلي الأرض المحتلة، وفي الضفة الغربية بالتحديد ليشارك مع بعض أنصار السلام في العالم لإيقاف الهجمة الإسرائيلية الشرسة علي المدن الفلسطينية، حتي يتمكن من الدخول إلي كنيسة المهد لينضم إلي المقاتلين الفلسطينيين الذين كانوا محاصرين في الكنيسة. شارك هذا الفيلم في الدورة التاسعة عشرة لمهرجان قرطاج السينمائي 2002، قسم المسابقة الرسمية.

في عام 2000، حمل المخرج محمد توفيق عدته السينمائية مصطحباً ابنته رانيا التي تدرس السينما في إحدي جامعات كوبنهاغن، متوجهاً إلي باريس، حيث يقيم الشاعر والخطاط العراقي الفنان محمد سعيد الصكار، أثمرت هذه الرحلة بإنجاز فيلم سينمائي مدته 55 دقيقة، شمل أغلب الجوانب الفنية والأدبية والسياسية والاجتماعية من حياة الفنان محمد سعيد الصكار، إنه فيلم شاعر القصبة الذي ترك أثره الجميل لدي مشاهديه، خصوصاً العراقيين الذين يعرفون مبدعيهم عن كثب.

لكل تلك الأفلام التي أخرجها المخرج محمد توفيق، ميزة متقنة يستطيع المشاهد اكتشافها، إنها ميزة المونتاج، فهذه الأفلام خرجت من تحت أنامل ورؤية الفنانة المونتيرة جنين جواد التي شاركت محمد توفيق حياته الفنية والاجتماعية منذ أيام دراستهما الجامعية إلي الآن.

يبقي الفن بشكل عام مرآة الواقع الذي يعيشه الإنسان، وتبقي السينما هي العين الفاحصة التي تظهر خبايا ودواخل ذلك الإنسان.

نقلاً عن موقع "سينمائيون" (http://www.cinemaion.com/)

موقع سينمائيون في

04.03.2003

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)