عشر سنوات مضت على رحيل المشاغب الأكبر، عشر سنوات
انقضت بدون «يوسف شاهين»، المتنبئ المترقب، الغامض الصريح الذى لم،
وربما لن تشهد السينما المصرية فنانا مثله، وكلمة فنان هى الأصلح
لأنه لم يكن فقط مخرجًا، بل كان أيضًا كاتبًا ومنتجًا وممثلاً
ومؤلفا موسيقيا وصانع رقصات وعاملاً لا يتردد فى حمل المعدات أو
حتى (كنس) البلاتوه.. من سينما الأبيض والأسود، حيث بدأ مشواره
الفنى فى «بابا أمين»عام 1950 وحتى صرخته المدوية رغم سنوات عمره
الكثيرة فى «هى فوضى» عام 2007.. ظل «شاهين» لغزًا رغم إفصاحه عن
نفسه فى عشرات المشاهد من أفلامه، إلا أن ذلك البحر الواسع، الأكثر
اتساعًا من بحر إسكندريته، لا يزال يخبئ الكثير.. وضمن هذا الملف
حاولنا البحث عن كنوز جديدة فى فنه وحياته، واهتدينا إلى بعضها،
فدخلنا محرابه وتعمقنا فى نفسه وبحثنا فى عالميته، وكشفنا عن
علاقته بمن عملوا معه لمرة واحدة فقط.. ليترك بهم وبنا أثرًا
شاهينيًّا لا يزول، بل يجعلنا نسعى وراء المزيد.. متشوقين
لـ«شاهين» كمان وكمان.
####
عالمية.. أكبر من المهرجانات
كتب : منى بكر
«المخرج
العالمى».. لقب حصل عليه يوسف شاهين بعد نجاحه فى الوصول بأفلامه
إلى المهرجانات الدولية، لكن عالمية شاهين التى تحدث عنها
الكثيرون لا تنحصر فقط فى مشاركة أفلامه فى مهرجانات دولية أو
فوزه بجوائز عالمية، بل تمتد لتشمل نقادًا أجانب تحدثوا عنه فى
كتبهم وجامعات غربية احتفت بأفلامه وكتابًا رصدوا عبقريته فى أفلام
استمتعوا بها وقرروا نقلها للقارئ.
عالمية شاهين ليست عالمية السجادة الحمراء والأضواء
وفلاشات الكاميرات ولا هى عالمية فيلم حقق نجاحاً فى مهرجان دولى،
فما أكثر المهرجانات التى أصبحت تهتم بالشكل أكثر من المضمون،
وأصبحت العلاقات تؤثر فى اختيارات المسئولين عن بعض هذه
المهرجانات، وبالتالى أصبح الترشيح لجوائز أو حتى الفوز بها ليس هو
المقياس الوحيد للعالمية. شاهين المخرج العالمى.. هو أحد العباقرة
الذين وصلوا للعالمية من خلال الجمهور والنقاد والأكاديميين
والدارسين أيضاً
.
فبعد أحداث 11سبتمبر، قرر المنتج الفرنسى إنتاج
فيلم عن أحداث سبتمبر يشارك فيه 11 مخرجًا من عدة دول حول العالم،
وكان من بين هؤلاء يوسف شاهين. اختيار شاهين ليشارك فى إخراج هذا
الفيلم المهم لم يكن مفاجأة، فقد اهتم به المنشغلون بالفن فى
الخارج وأدركوا موهبته منذ بداياته. الفيلم الذى حمل اسم «11
سبتمبر» كان يهدف إلى رصد آثار أحداث الحادى عشر من سبتمبر من
وجهات نظر متعددة من خلال الأحد عشر مخرجًا. ومن بين المخرجين
الذين شاركوا شاهين فى إخراج الفيلم «عاموس جيتاى» من إسرائيل
و«شين بين» من الولايات المتحدة و«كلود ليلوش» من فرنسا و«كن لوش»
من بريطانيا إلى جانب «أليخاندرو ايناريتو» من المكسيك و«سميرة
مخملباف» من إيران و«ميرا ناير» من الهند و«إدريس أودراوجو» من
بوركينافاسو و«دانيس تانوفيك» من البوسنة.
أما فيلم شاهين الذى كانت مدته إحدى عشرة دقيقة مثل
باقى المخرجين، فقد جاء منتقداً سياسات الخارجية الأمريكية، مما
جعل الإعلام الأمريكى وقتها يشن هجوماً حاداً عليه ويتهمه بأنه
معادٍ للولايات المتحدة. واختار شاهين نور الشريف وأحمد سيف الدين
كأبطال لفيلمه. وعلى الرغم من أن فيلم شاهين بالفعل ينتقد الولايات
المتحدة، فإنه وضع يديه على أسباب الخلاف أو الصراع بين العرب
والولايات المتحدة، وبالتالى الأسباب التى أدت إلى أحداث الحادى
عشر من سبتمبر. فقد قام نور الشريف بدور مخرج حزين على الأحداث
التى وقعت فى نيويورك قبل يوم واحد من المؤتمر الصحفى الذى كان
مقرراً للإعلان عن أحدث أفلامه. المخرج الذى يفترض أنه يمثل شاهين
نفسه ويتحدث بلسانه يقابل روح جندى أمريكى قتل فى بيروت عام 1983
ويذهبان معاً إلى منزل شاب فلسطينى فجّر نفسه ويحتفل أهله بشهادته
وبطولته، ثم يرى المخرج والجندى معاً الدمار والظلم الذى تشارك فيه
الولايات المتحدة فى فلسطين وتمر أحداث كثيرة تدين الولايات
المتحدة الأمريكية بدءاً من هيروشيما ووصولاً إلى فيتنام. ويحاول
البطل استرجاع البرجين، لكنه يقف عاجزاً أمام استرجاع الأرواح التى
راحت ضحية هذا الحادث الإرهابى.
وفى تجربة مماثلة، شارك شاهين فى إخراج فيلم بعنوان
«لكلٍ سينما» أو
«To Each His Own Cinema»
وذلك بمناسبة مرور 60 عاماً على مهرجان كان السينمائى فى فرنسا.
طلب مدير المهرجان وقتها من خمسة وثلاثين مخرجاً من خمس قارات وخمس
وعشرين دولة حول العالم إخراج ثلاثة وثلاثين فيلماً كل منها لا
يتعدى ثلاث دقائق. الفيلم اعتبر نوعاً من الاحتفاء بالسينما حول
العالم ودليلاً على عشق السينما والأفلام فى مختلف الثقافات.
وعلى المستوى الأكاديمى، نجد أن جامعة «هارفارد»
الأمريكية العريقة خصصت أسبوعًا لسينما يوسف شاهين تكريماً له عقب
وفاته. وعرضت الجامعة عشرة من أروع أفلام شاهين منها «باب الحديد»
و«عودة الابن الضال» و«هى فوضى» و«اسكندرية ليه» و«إسكندرية كمان
وكمان» و«الأرض» و«المصير» و«العصفور» و«حدوتة مصرية» إلى جانب
فيلم «القاهرة منورة بأهلها» الوثائقى. ونوهت الجامعة إلى أن نشأة
شاهين فى الإسكندرية، المدينة الساحلية ذات الميناء الشهير، أسهمت
فى إثراء حياته بثقافات متنوعة، وهو ما كان له دور كبير فى وصوله
إلى العالمية، بل إن هذا التنوع ظهر جلياً فى أفلامه التى تنوعت ما
بين الأفلام ذات الطابع المصرى إلى الأفلام السياسية.
ويبدو أن محاولات شاهين المستمرة لكسر القوالب
والخروج عن المألوف والذى أكسبه الكثير من العداءات فى الداخل، هو
نفسه ما لفت أنظار الجميع له فى الداخل والخارج، فشاهين، كما تراه
جامعة هارفارد، مخرج مصرى نجح فى الدمج بعبقرية بين التقاليد
المصرية والمعاصرة فى صورة فنية أزعجت البعض وصدمت البعض الآخر،
إلا أن الجميع لم يستطع إلا أن يعجب بسينما شاهين ويستمتع بها خاصة
هؤلاء المغرمين بالسينما.
أما «جامعة مونتجومرى»، فقد احتفلت فى أبريل عام
2013 بـ«شهر التراث العربى الأمريكى» بعرض فيلم «المصير» ثم عقد
ندوة لمناقشة القضايا التى طرحها شاهين فى فيلمه. وبنظرة سريعة
على الإعلان الذى نشرته الجامعة عن الندوة والفيلم نجد احتفاء
أكاديميًا بفنان مبدع ومخرج صاحب مدرسة خاصة. الإعلان أشار إلى أن
شاهين رسم ملحمة من خلال فيلم يدور حول قصة الفيلسوف القديم «ابن
رشد».
بينما عقدت جامعة «وسترن أستراليا» ندوة حول نفس
الفيلم، «المصير»، مؤكدة أن الفيلم الذى يبدأ بمشهد حرق لأحد
الأشخاص وينتهى أيضاً بحرق كتاب يحمل فكر أحد أشهر الفلاسفة فى
القرن الثانى عشر فى إشارة إلى أهمية الفلسفة فى الثقافة والسياسة
وحتى الدين. وناقشت الندوة كيف استخدم شاهين الغناء والشعر والرقص
جنباً إلى جنب مع أفكار ابن رشد الفلسفية وكيف استخدم شاهين الدمج
بين الفن والفلسفة ليعلن اعتراضه على القهر والسلطة الدينية.
وعندما قامت جامعة إنديانا بطباعة كتاب عن أهم عشرة مخرجين عرب
باسم «عشرة صناع أفلام عرب» كان يوسف شاهين من بين هؤلاء العشرة
الذين ضمهم كتاب أكاديمى سيرجع إليه طلبة هذه الجامعة وغيرها
لدراسة أسلوب هؤلاء المخرجين ومدارسهم المختلفة والاستفادة من
تجاربهم.
وفى لوس أنجلوس، احتفت جامعة «كاليفورنيا» بشاهين
فى أكتوبر 1999، حيث خصصت أسبوعًا لأفلامه وعرضت خلاله تسعة أفلام
بينها «باب الحديد» الذى أنتج عام 1958 وأحدث أفلامه آنذاك
«المصير» الذى حصد جائزة فى مهرجان «كان» عام، وقامت نفس الجامعة
بنشر مقال فى جريدة تقوم بطباعتها داخلياً بعنوان «الفن والسياسة
فى سينما يوسف شاهين». كاتب المقال «جوزيف ماساد» وهو كاتب وأستاذ
بجامعة كولومبيا، أشار إلى أن أعمال شاهين جعلت منه ناقدًا
اجتماعيًا يرصد ما يحدث حوله وحافظاً للتراث الثقافى، حيث إن
أفلامه بجانب كونها ممتعة فنياً، فإنها تمثل نظرة عميقة على العالم
العربى.
الصحافة أيضاً اهتمت بأعمال شاهين وأجرت معه حوارات
إلى جانب المقالات التى كتبها نقاد وصحفيون عشقوا فن شاهين. فكتبت
صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» أن أسلوب شاهين المتفرد فى الإخراج
السينمائى هو السبب الحقيقى وراء شهرته وعالميته. تحدثت الصحيفة عن
قدرة شاهين، بل حرصه على فتح نافذة للجمهور العالمى على الشرق
الأوسط من خلال السينما المختلفة التى يقدمها، التى يمزج فيها بين
أنماط السينما المتنوعة بأسلوبه المميز . فيقدم السيرة الذاتية مع
الخيال فى فيلم ويقدم الفيلم التاريخى فى إطار موسيقى ثم يقدم
الرومانسى ممزوجاً بالإثارة.
بينما كتبت الصحيفة عام 2004 عن فيلم «إسكندرية
نيويورك» مشيرة إلى أنه يوجه فيه انتقادا إلى الإعلام الأمريكى
ويتهمه بإثارة المشاعر ضد العرب وإشعال العنصرية ضد العرب. وأشارت
الصحيفة إلى شاهين بوصفه واحداً من أهم المخرجين العرب مؤكدة على
مواجهته انتقادات كبيرة من الجماعات التكفيرية والمتشددين بسبب
انتقاده المستمر لفكرهم فى أعماله السينمائية.
لفت شاهين أنظار النقاد والمخرجين على حد سواء حتى
إن المخرج الفرنسى «جين رينوار»، المصنف كواحد من أعظم المخرجين
فى التاريخ، أبدى إعجابه بسينما شاهين قائلاً: «الواقعية فى أعمال
شاهين ساحرة». بينما أشارت صحيفة الجارديان البريطانية إلى أن يوسف
شاهين كان دائماً مصدر قلق للمتشددين وأصحاب الفكر الظلامى مشيرة
إلى التهديدات التى تلقاها شاهين بعد فيلمه «المصير». الجريدة نشرت
تصريحًا لشاهين يؤكد فيه أنه ليس هناك ما يسمى بالإرهاب الإسلامى،
بل هو إرهاب وحسب، ورغم ذلك كان دائماً ما يتهم بأن أفلامه ضد
الإسلام وأفكاره المتحررة تشكل خطراً على الدين.
أما صحيفة «لوموند» الفرنسية، فقد نعت شاهين
واحتفت بأعماله مؤكدة أن شهرة شاهين فى الخارج ربما فاقت شهرته
داخل بلاده.و رصدت الصحيفة عدداً من أهم أفلامه ومنها فيلم 11
سبتمبر القصير و«هى فوضى» و«سكوت حنصور» الذى ركزت الصحيفة على
اهتمام شاهين فيه بالموسيقى بشكل خاص.
####
تجربة واحدة تكفى؟
كتب : اميرة عاطف
إذا تأملنا تيترات أفلام «يوسف شاهين» سنجد أن أكثر
من 90 % من الأسماء الموجودة، تتكرر معه فيلمًا وراء الآخر.. فقد
كان شديد الحرص على معاودة التعاون أو الالتزام بالعمل مع ذات
الأشخاص الذين يعرفهم.. وهو ما يؤكد وجود نوع من الارتباط الذى كان
يشعر به «شاهين» تجاه العاملين معه أمام أو وراء الكاميرا.. ولكن
ماذا عن الذين تعاونوا معه لمرة واحدة فقط، كيف كان اللقاء الوحيد؟
وهل كانت مرة واحدة مع «جو» تكفى؟..
أحمد عبدالعزيز .. بكر ثورجي بونابرت
ثائرًا.. يجوب شوارع المحروسة، دفاعًا عن مصر يصرخ
«مصر هتفضل غالية عليا» ..الأزهرى الثورى «بكر أو الممثل الشاب
آنذاك، أحمد عبدالعزيز» فى فيلم «الوداع يا بونابرت – 1985» والذى
يحكى لنا عن هذه التجربة قائلًا: «تمنيت العمل مع المخرج الكبير
«يوسف شاهين» أكثر من مرة، ولكن القدر لم يكتب لى إلا العمل معه
مرة واحدة، وكان معروفًا عنه وقتها أن المجموعة التى تعمل معه تكون
متفرغة تمامًا له، ومن الممكن أيضًا أن تظل فى انتظار العمل معه فى
التجربه التالية، وكان علىّ وقتها أن أختار هل أنتظر التجربة
الجديدة مع الأستاذ، أم أعمل مع غيره وبالفعل قررت أن أدخل فى
تجارب مختلفة مع مخرجين آخرين. على نفس قدر أهمية
وعبقرية«شاهين»مثل «محمد خان» و«خيرى بشارة».. أما عن «الوداع يا
بونابرت» فقد اختارنى «شاهين» عندما كنت أمثل فى مسرحية «المسافر
ظهرا» على مسرح الطليعة، وكان وقتها مدعوا لمشاهدة «البروفات»
وأعجب بى وقال لى «ابقى شفلنا صور ليك علشان نشوفلك فسفوسة فى
الفيلم الجديد».. وبالفعل تم التواصل بينى وبينه عن طريق المخرج
الكبير «يسرى نصرالله» وبالنسبة لى وقتها «فسفوسة» فى فيلم لمخرج
بحجم «يوسف شاهين» تعنى بطولة مطلقة، وأعرف أنه من الممكن ألا
يصدقنى الكثيرون إذا قلت إننى كنت أحلم بهذا اللقاء فيما يسمى
بأحلام اليقظة. ولم أكن وقتها الفنان الشاب الوحيد الذى يحلم هذا
الحلم.. الغريب أننى لم أشعر برهبة التمثيل مع مخرج كبير مثل «يوسف
شاهين» لأننى كنت قد مثلت وأخرجت العديد من المسرحيات. ولكن كان
هناك استعداد خاص لهذه التجربة المهمة، فالفيلم تاريخى ومع مخرج
يراعى ويدقق فى كل التفاصل، لذلك قرأت كتبا فى التاريخ للجبرتى
والرافعى وقرأت أيضا كتاب «المصريون القدماء عاداتهم وشمائلهم»
لمؤرخ أوروبى.كما استفدت وتعلمت المزيد عن الإخراج من الأستاذ
«يوسف شاهين»..
ويتابع الشيخ «بكر» أو «أحمد عبدالعزيز»: أثناء
التصوير حدثت بينى وبينه مناقشات حول الشكل الذى ستظهر به الشخصية،
فقد أراد أن أظهر بدون لحية، وقلت له إن شيوخ الازهر كانوا ملتزمين
بإطلاق لحيتهم فى هذا الوقت واقترحت عليه قائلا «نجرب يا أستاذ..
أتركها ولو عجبتك خلاص» وفى الحقيقة هو على عكس ما يشاع من أنه
ديكتاتور، حيث كان يقبل النقاش والرأى الآخر بشرط أن يكون من أمامه
على دراية وفهم، وكان يعلم وقتها أننى أحضر جيدا للشخصية، وأقرأ فى
كتب التاريخ فأخذ برأيي وتركنى أطلق لحيتى وقال لى «هو دا يا ولد»..
أيضا أتذكر واقعة حدثت أثناء التصوير تدل على مدى
اهتمامه بكل التفاصيل، حيث كنا نصور أحد المشاهد وكان يريد أن ينهى
المشهد فى وقت معين من ضوء النهار، وأثناء التحضير، وجدناه يقوم
بحمل «الشاريو أى القضبان الذى تسير عليه الكاميرا» مع العمال
وقلنا له وقتها يا أستاذ فى «ستة عمال هيشيلوا، قال وإيه المشكلة
ما يبقوا سبعة خلينا نخلص».
واختتم كلامه قائلاً: فرق كبير أن يبدأ الفنان
مشواره الاحترافى مع مخرج كبير بحجم «يوسف شاهين» عن أن يبدأ مع
مجرد مخرج والسلام. فدخولى للسينما عن طريقه، كان بمثابة دخول من
البوابة الأكبر.>
نجوى إبراهيم.. ومن الذى لا يحب وصيفة
كانت عندما تطل بوجهها الصبوح تنعكس الشمس عليها
لتؤكد أنها كانت تمثل ضوء النهار الذى يتمناه الجميع.. «وصيفة» بنت
«أبو سويلم»، حلم كل شاب فى «الأرض - 1969»..
«وصيفة»
أو الإعلامية الكبيرة «نجوى إبراهيم» تحكى عن تجربتها الوحيدة مع
«شاهين» قائلة: «عندما تعاونت مع المخرج الكبير «يوسف شاهين» فى
فيلم «الأرض» كان نتيجة رغبة وإصرار شديد منه، فهو شخص لديه إصرار
ودأب فى عمله، إذا أراد شيئا وشعر أنه فى مصلحة العمل لا يفقد
الأمل أو يستسلم وقد بدأت حكايتى معه عندما شاهدنى فى برنامجى
التليفزيونى «كلمة سر»، الذى كنت قد بدأت به حياتى المهنية به.
وفوجئت به يأتى إلى منزلى هو والمؤلف الكبير «عبدالرحمن الشرقاوى»،
وأذكر أننى كنت وقتها عروسة جديدة، وعرضوا على فكرة المشاركة فى
الفيلم وبالفعل كانت مفاجأة وترددت فى القبول وإذا به يقول لى «أنت
بتفكرى؟ أنت عارفة أنت بتكلمى مين دا عبدالرحمن الشرقاوى،أنا مش
همشى من هنا إلا وأنت موافقة». وسرعان ما تغير ترددى بعد أن جلست
أنا وزوجى مع المؤلف «عبدالرحمن الشرقاوى» الذى شرح لى شخصية
«وصيفة»، فأعجب بها حيث وجدتها فتاة فى مقتبل العمر «دلوعة» وحلوة
ولها تأثير فى الأحداث فوافقت، وبالفعل كان هذا الدور فارقا فى
حياتى الفنية.. استغرق تصوير الفيلم ثمانية أشهر قضينا منها ثلاثة
فى الفيوم، ووقتها كان محصول القطن فى بدايته ولم يكن فى الأرض إلا
عيدان الحطب الجافة والخاوية من القطن. فقام «شاهين» بشراء كميات
كبيرة من القطن وأمر العمال بوضعه على العصيان الخاوية ليظهر الحقل
بشكله الذى ينبغى أن يكون عليه.. أيقنت وقتها أنه إنسان مخلص فى
عمله يهتم بأدق التفاصيل،انبهرت بأدائه واحترامه ومصداقيته فى
العمل وظللت أتابعه بشغف طوال فترة التصوير.وأذكر أننا فى أحد
الأيام كنا نصور فى توقيت معين فى «عز الظهر وسطوع الشمس» وإذا
بسحابة تحجب الشمس عن «الكادر» ولن أصدق ما رأيته فقد ظل «شاهين»
يترقبها ثانية بثانية ويسأل مدير التصوير كم من الوقت باق على
مرورها وعلى سطوع الشمس ثانية، وشعرت وقتها أنه لو استطاع لأتى
بسلم وصعد إلى السحابة ليزيحها.. فقد ظل ينظر إليها ويتشاجر معها
قائلا «امشى بقى»..
وتواصل «نجوى إبراهيم»: «ومن ذكرياتى معه أيضا أنه
احتفل بعيد ميلادى فى كواليس الفيلم، ومنحنى شرف حضور كبار
الفنانين فى هذه الاحتفالية أمثال محمود المليجى، عبدالوارث عسر،
حمدى أحمد، يحيى شاهين وتوفيق الدقن وكنت فى منتهى السعادة وظللت
أنظر لهم فى امتنان.. لقد كان إنسانا حنونا جدا، يجلس معنا فى
أوقات الراحة تحت الشجر لتناول وجبة الغداء بكل حب وتواضع وأذكر
أنه كان ينادينى أنا وكل الموجودين فى التصوير بـ«دقدق» وكان
يتعامل مع كل الموجودين فى العمل بطريقة واحدة، من النجم إلى
الكومبارس ويطلق عليهم عمر الشريف وفاتن حمامة ليعطيهم الأهمية
المطلوبة..
فى نفس الوقت كان «ابن ناس متربى كويس» ولم أسمعه
مرة واحدة يتلفظ بأى لفظ خارج طالما أن هناك امرأة فى المكان».
وعلى الرغم من مرور 49 عاما على فيلم «الأرض» إلا
أنها ما زالت تتذكر كلماته وتحكيها قائلة: «كنت عندما أجلس بجانبه
يقول لى: «إنتى نبيهة وعندك استعداد للتعلم مع أنه عادة لما بيكون
فى واحدة حلوة بتكون تقيلة وغبية لكن أنتى ذكية ولماحة، ولا تندهشى
أننى اخترتك فى هذا الدور، فمعظم البنات الحلوين الأذكياء
ريفيات»..وقد أعطانى مفاتيح الشخصية وكان يشجعنى ويقول لى «برافو»،
لقد شجعنى على العمل فى التمثيل ومن بعد العمل معه انطلقت وشاركت
فى فيلم «فجر الإسلام» ثم فيلم «العذاب فوق شفاه تبتسم» وغيرها من
الأفلام.
أما عن أكثر ما تعلمته منه تقول: «تعلمت منه
الإصرار وأهم حكم الحياة أن «الوقت من ذهب» و«لا تؤجل عمل اليوم
إلى الغد، «كما تعلمت منه عدم التنازل عن الخط الصحيح، فهو من
أعطانى الفرصة كى أتعامل مع الكبار، وكأننى درست فى أهم معاهد
التمثيل.. لقد منحنى «شاهين» ثقة بنفسى فى بداية مشوارى، فقد ذهبت
بصحبته إلى أهم مهرجانات العالم «كان»، وسرت على السجادة الحمراء
وهو أمر من الممكن أن يعيش الفنان عمره كله دون الوصول إليه. وقد
شاهدت كبار النجوم العالميين يصفقون لمدة خمس دقائق بعد عرض الفيلم».>
ناصر وحاتم
فى إحدى المرات حكى السيناريست «ناصر عبدالرحمن»
أنه بكى عندما شاهد «حاتم – خالد صالح» يجرى من الناس فى فيلم «هى
فوضى - 2007»، وهذا يؤكد على أن أكبر نجاح من الممكن أن يحققه أى
مخرج هو أن يقنع الكاتب أو العقل الذى ابتكر وخلق الحكاية، أنها
حقيقية لدرجة أن تذرف دموع هذا الكاتب عند مشاهدته لها.. والآن
يحكى لنا «ناصر» المزيد من التفاصيل عن علاقته بـ «شاهين» قائلا:
«صحيح أننى تعاونت مع «يوسف شاهين» فى تجربة واحدة، ولكنها كانت
تجربة صعبة فالفيلم أخذ تحضير ثلاث سنوات ولم يكن يشبه التجارب
الأخرى فهو يعادل خمس أو ست أفلام مع غيره من المخرجين، لقد تعلمت
منه الكثير مثل احترام المهنة فقد كان مهنيا محترفا، صبورا، غير
متسرع فيما يخص كل تفصيلة. والحب داخل العمل عند شاهين من أهم
العناصر التى كان يحرص عليها فهو لا يستطيع العمل مع شخص لا يحبه،
فقد كون فى كل تجربة من تجاربه عائلة «شاهينية تلتف حول العمل بكل
حب وتقدير».
وأضاف: لقد أخذت فترة طويلة كى أكسب ثقته فىّ،فقبل
أن أبدأ فى كتابة سيناريو «هى فوضى» طلب منى أن أقرأ له عددا من
أعمالى الأخرى ولم يوافق على العمل معى إلا بعد أن حصلت على ثقة
تامة منه. فهو لا يعرف المجاملة بالعمل وكان له تعبير يقوله
للعاملين معه وهو: «لو خالتى الطيبة مش هخليها تعمل الفيلم».. كان
شخصا دءوبا فى عمله يهتم بعمله فقط، وقدتعلمت منه أنه بعد انتهاء
الفيلم، يجب أن أنساه، وأفكر فى غيره بمعنى أنه لم يكن أبدا رهين
النجاح.. ولن أنسى أبدا ما قاله لى:«أنت اتأخرت عشرين سنة، لوجتلى
من عشرين سنة كنا عملنا شغل كتير مع بعض».
وكان من المفترض أن نتعاون معا بعد «هى فوضى» فى
فيلم «الشارع اليمين» ولكن القدر لم يمهلنا.
وفى النهاية يؤكد «عبدالرحمن»: «تعلمت منه الكثير
وأهم ما تعلمته احترامى لنفسى،ففى التعاون الأول والوحيد فى فيلم
«هى فوضى» كان باستطاعته أن يضع اسمه على السيناريو مع اسمى خاصة
وأنه تعاون به ولكنه رفض تماما مع العلم أنه كان يستطيع أن يفعل
ذلك وكنت لا أملك وقتها الاعتراض، ولكنه لم يفعلها ولذلك زاد حبى
واحترامى له».>
تامر عزت وحضور شاب
من صناع السينما الشباب كان ينتقى «شاهين» من يتوسم
فيهم الموهبة والجدارة، ورغم ارتباطه الشديد بالمونتيرة الراحلة
«رشيدة عبدالسلام» التى قامت بعمل المونتاج لجميع أفلامه تقريبا..
إلا أنه قرر الاستعانة بمونتير شاب مطلع على التقنيات الحديثة
ليشارك «رشيدة» مونتاج فيلم «سكوت هنصور - 2001».. المخرج
والمونتير «تامر عزت» الذى اختاره «شاهين» وقتها يحكى عن التجربة
الوحيدة قائلا: «كنت وقتها من أوائل الأشخاص الذين تعاملوا مع
الأجهزة الحديثة والتكنولوجيا فى فن المونتاج، وقد أراد، بعبقريته،
أن يجمع بين الخبرة والحداثة وكنت وقتها أعمل تحت قيادة المونتيرة
الكبيرة رشيدة عبدالسلام التى كانت مسئولة عن مونتاج الفيلم..
وكانت تجربتى فى هذا الفيلم منقسمة إلى جزءين: جزء فى مصر والثانى
فى باريس. فى مصر كان داخل غرفة المونتاج معه والأستاذة رشيدة
عبدالسلام حيث كنت أجلس وأشاهدهما وهما يحللان ويختاران المشاهد
التى سيتم عمل المونتاج لها. وهو ما كان بالنسبة لى فى غاية الروعة
والإتقان وكان بمثابة تدريب مهنى على أعلى مستوى..
أما الجزء الخاص بفرنسا فقد سافرت معه بمفردى ولم
تسافر معنا رشيدة عبدالسلام وكان سبب سفرنا هى أوامر من الطبيب
الخاص به لأنه كان من المفترض أن يقوم بكشف دورى هام وقضينا هناك
شهرا بين العمل والكشف الطبى.
وعن تفاصيل الرحلة فى باريس يقول: «عشت معه تجربة
بعيدة عن الحياة العملية فوجدت فيه أبا حنونا وكريما كان بيعزمنا
عنده ويطبخ لنا بنفسه وكان دائما ما يرشدنى على الأماكن التى من
المفروض زيارتها فى باريس. وكان أحيانا ما يأتى معى فى جولاتى
السياحية، ولى صور تذكارية هناك التقطها لى بنفسه حيث كان يقول لى
«أنت هتفضل تصور فى الحاجات وأنت متتصورش هات أصورك».
ويكمل «عزت»: «تعلمت منه الكثير، عمرى ما شفت حد
زيه فى الانضباط، واحترام العمل وهذا ما كان يجعل الجميع يحترم
العمل لأن اهتمامه كان يفرض علينا نوعا من الاحترام والالتزام ورغم
أنه كان الأستاذ الكبير «يوسف شاهين» إلا أنه لو حدث وتعطل وهو فى
طريقه للاستوديو كان يتصل ويعتذر وقد استفدت من هذا الانضباط فى
عملى مع الآخرين فأنا أضرب به المثل لمن يعمل معى.. كما كنت أتمنى
العمل معه فى أكثر من تجربة ولكن للأسف لم يحدث لأن هدفى الأول من
دخول المجال الفنى هو أن أكون مخرجًا لا مونتيرا، ولكنى أخذت
بنصيحة من سبقونى حين قالوا لى إذا أردت أن تكون مخرجًا متميزًا
ادرس المونتاج.. فعملت مونتيرا لفترة.. وسافرت أمريكا لأكمل دراسة
الإخراج وعندما عدت اتصل بى الأستاذ لكى أعمل معه فى فيلم
«إسكندرية نيويورك» كمونتير فأخبرته أننى سلكت طريق الإخراج فبارك
لى وشجعنى».>
####
يهمنا اسمك.. يهمنا عنوانك
كتب : هبة محمد علي
يقرر الكاهن بإرادته أن ينزوى فى المحراب ليتعبد،
ويقرر «يوسف شاهين» أن يتخد من مكتبه الكائن فى 35 شارع شامبليون
بوسط البلد محرابا سينمائيا له ليبدع، مخرجا، ومنتجا على مدى أكثر
من خمسة وثلاثين عاما سبقت رحيله، بداية من عام 1972، حينما أخلت
الشركة المنتجة لفيلم «العصفور» بوعودها، فما كان منه إلا أن يعلن
إنشاء شركة أفلام مصر العالمية ذات علامة «الديك» المميزة، لينتج
من خلالها أعماله، ولتظل شاهدا على تاريخ طويل من الفن الحقيقى.
ويصبح هذا المكتب المتواضع ذا مكانة خاصة فى قلوب
عشاق السينما قبل صناعها الذين زار معظمهم الأستاذ بداخله،
ليقتبسوا من حكمته، وليسيروا على دربه العاشق لسحر السينما،
والمفتون بها، فلا يستطع أحد من الذين تتلمذوا على يده إلا أن
يتعبد فى محراب «جو» السينمائى.
>
حدوتة مصرية
كل شبر من هذه البناية يقطر فنا، وإبداعا، بداية من
المدخل الذى صور به العديد من الأفلام كـ«حدوتة مصرية»،«إسكندرية
كمان وكمان» و«الآخر»، وصولا للأدوار العليا، حيث توسع «شاهين»
عاما تلو العام، ليكتب اسمه بحروف من نور فى تاريخ السينما بعشرات
الأفلام من إخراجه، وتأليفه، وتمثيله أيضا، ليزاحم بأعماله تلك
مخرجى العالم، ولينال جوائز سينمائية عديدة من أهم المهرجانات
العالمية، فيصبح هو نفسه حدوتة مصرية تروى فى العالم كله دون توقف،
ومع ذلك، فإن السطور التالية لن تكون حديثا عنه، بقدر ما هى جولة،
بالكلمات والكاميرا، داخل محراب «جو»، حيث صنعت روائع اُختير
اثنىعشر منها ضمن قائمة أفضل 100 فيلم مصرى.
>
كافتيريا السفينة
فى الدور الثالث، حيث المقر الحالى لشركة أفلام مصر
العالمية كان الموعد مع المنتج «جابى خورى» ابن شقيقة الراحل،
والحقيقة أن كل شىء فى هذا المقر «شاهينى» بامتياز، بدءا من
الأفيشات التى تملأ جدران المكان، يزينها لوحة كبيرة للقطة من فيلم
«باب الحديد» الذى قام ببطولته فى بداية حياته، حيث يحتضن «قناوى»
«هنومة» معلنا حبه وولعه بها، وصولا إلى الأبواب الخشبية المعشقة
بالزجاج، والطاولات المبهرة التى رسم عليها لوحات بالسيراميك، أما
الكافتيريا، والتى كانت محطة استراحة لكل النجوم الذين عملوا مع
شاهين، أو حتى ممن لم يعملوا معه - كما صرح «جابى» خلال حوارنا-
فيمكن اعتبارها تحفة فنية، أبدعها «شاهين» تصميما وتنفيذا على هيئة
سفينة بحرية، تغطى واجهتها حبال سميكة كالتى يستخدمها البحارة،
بينما صممت النجفة على شكل طوق نجاة مميز تشع الإضاءة من جنباته،
وكالعادة، يتوسط تلك التحفة الفنية مجسم الديك الذى يرمز للشركة،
والذى ستلمحه فى كل أرجاء المكان.
أسئلة كثيرة جالت بخاطرى أثناء صعودى إلى المقر
بهذا المصعد الخشبى ذي الطراز القديم جدا، لم يحد من سيلها إلا
توقفه عند الدور الثالث بقوة لا تتناسب أبدا مع عمره، لكن كل شيء
فى هذا المكان فتيّ، كما ظل صاحبه حتى رحل وهو فى الثمانينيات من
عمره يمتلك قلب شاب، وجنون مراهق، وأفكار شخص لا يزال مقبلا على
الحياة.
>
حياة موازية
لماذا لم يفكر «يوسف شاهين» فى الرحيل عن شامبليون
لينقل مقر شركته إلى إحدى المناطق الراقية كالزمالك، أو المهندسين؟
كان هذا هو سؤالى الأول للمنتج «جابى خورى»، والذى أجاب ببساطة بأن
«شاهين» يريد دائما أن يكون قريبا من الناس الذين يحبهم، والذين
كانوا ينتظرونه صباح كل يوم، ليلقوا عليه التحية، أو يقصوا عليه
همومهم ومشاكلهم، كان «شاهين» يرى فى وجوده وسط البسطاء فائدة
كبيرة له، فحكاياتهم تهمه، ومشاكلهم هى مصدر معلومات له عن طبيعة
حياة البشر على اختلافهم، لكن العلاقة كانت حميمية بالمعنى الحرفى
للكلمة، تصل أحيانا إلى عزومات على الغذاء، أو العشاء لمنادى
السيارات، أو البواب، أو الميكانيكى!!
حديث «جابى» كشف لى أن شقة الدور الثالث فى
شامبليون قبل التوسعة كانت مقرا لسكن «جو» قبل أن تكون مقرا لعمل
«شاهين» عندما عاد من لبنان عاش فى الزمالك فى شقة أهداها له
الفنان أحمد رمزى لفترة مؤقتة، لكن فترة الإقامة طالت، مما أحرج
شاهين، ودفعه للبحث عن بديل، وكانت شقة شامبليون هى البديل، ثم قرر
بعدها أن يكون مقر سكنه، هو نفسه مقر عمله، حتى انتقل بعد ذلك
للعيش فى شارع 26 يوليو بالزمالك حتى آخر حياته، لكن كانت له حياة
موازية فى شقة بالدور الثانى فى عمارة شامبليون، والتى تم إغلاقها
منذ وفاته».
>
إلى الدور الثانى
ظل «جابى» يحكى عن التغيرات التى اضطرتهم الظروف
لإجرائها فى مكتب «الدور الثالث» من أجل استيعاب عدد العاملين الذى
تضاعف، فهنا – مشيرا بإصبعه- كانت ماكينة عرض سينمائية، يقابلها
شاشة عرض كبيرة، تم التخلى عنها من أجل استغلال المساحة بشكل أفضل،
وهناك وضع هذا اللوح الزجاجى من أجل إضفاء نوع من الخصوصية.. يحكى
«جابى»: بينما ذهنى شاردا هناك.. فى الدور الثانى حيث عاش «جو»
حياته الموازية، وبات لياليه يفكر على سرير صغير وضعه من أجل أن
يستجمع كل تركيزه فى فكرة يود أن ينفذها، أو بعد «خناقة مع المدام»
قرر على إثرها أن «يقصر الشر».
انتقل «جابى» للحديث عن الطراز الذى صمم به المكتب،
وعن «محلات الأنتيكات» فى الخان التى كان يجمع منها «شاهين»
أجزاءه، من شبابيك، لأبواب، لتحف فقد كان على حد وصفه «شاطر فى
الشراء، وعارف هو نازل يشترى إيه»، وبينما يستطرد قاطعته بسؤالى،
«أرى أن العاملين فى الشركة جميعهم أعمارهم صغيرة جدا، هل لا يوجد
أحد من العاملين قد عايش شاهين، وعمل معه؟» فأجاب مناديا: يوجد
«مجدى سيف» مسئول الحفاظ على نيجاتيف الأفلام فى الشركة، وبينما
يظهر «مجدى» فى الغرفة على إثر النداء، سألته، وهل من المتوقع أن
نجد مع «مجدى» مفاتيح شقة الدور الثاني؟
فأشار إليه مستفهما
-«معاك
المفاتيح؟»
فأجاب
الأخير بالإيجاب.
-
إذن «يلا بينا»...
>
ذكرى أخيرة
الرحيل لا يعنى أبدا الغياب، حكمة مهمة تستشعر
صدقها بمجرد أن يفتح باب شقة الدور الثانى من البناية العتيقة،
للدرجة التى جعلتنى لوهلة أتخيل أن «شاهين» سيخرج من إحدى غرفها
مرحبا بي!!
طاولة خشبية بسيطة للغاية، كانت هى مكتب «شاهين»
الذى يجلس عليه، ليسكن الأدوار، ويفكر فى الكادرات، والزوايا،
بجوار هذا المكتب سبورة يكتب عليها ترشيحات النجوم الأنسب لكل دور،
لكنها لم تكن موجودة، فقد طارت ضمن بعض مقتنيات عديدة كسيناريوهات،
وملاحظات مكتوبة بخط اليد، وصور، كل ذلك إلى فرنسا، استعدادا
للتكريم المزمع حدوثه فى نوفمبر المقبل.
خلف المكتب، توجد مساحة شاسعة موضوع بها طقم أنتريه
داكن اللون، حيث كان يجلس ليشاهد التلفاز، ويستمع إلى الموسيقى،
تزينها صورة لوالدته، وأخيه الذى توفى صغيرا، وجسد هو قصته فى فيلم
«إسكندرية ليه»، وفى نفس المساحة يوجد جهاز مافيولا «مونتاج» ضخم
جدا، تجانس مع ديكور المكان، فأصبح كقطعة سينمائية تنطق دون كلمات
بأنه قد عاش هنا شخص عاشق للسينما.
على اليمين قليلا يوجد المطبخ، وأمامه طاولة طعام
صغيرة تكفى لعدد قليل من الأفراد، يشير «جابى» إلى تلك المنطقة
قائلا: «فى المطبخ ده عمل لنا شاهين أحلى كبدة، وعلى الترابيزة دى
كنا بنسمع وإحنا بناكل معاه كلام كتير كملاحظات على شغلنا».
أما غرفته التى كان ينام بها فهى صغيرة للغاية، ليس
بها سوى دولاب صغير، لم يخلُ من بعض قطع من الملابس، وسرير، فى
مقابله مكتب خشبى صغير، جعل من المساحة الفارغة المتبقية فى الغرفة
مجرد ممر ضيق، لكنه اتسع لذكرى أخيرة أحب «جابى خورى» أن يرويها عن
صديقه الراحل، حيث قال: «جو كان متمسكا بالحياة، وواثقا أن فى
السينما حياته، أذكر عندما عرض مسرحية «كاليجولا» على المسرح
الكوميدى فى فرنسا فى أوائل التسعينيات، عانى من قلبه، وكان لابد
من إجراء عملية عاجلة، وعندما ذهبت معه للطبيب، قال لى «اخرج بره»
عرفت بعدها أنه طلب من الطبيب تأجيل العملية ثلاثة شهور حتى ينهى
العرض، وقبل وفاته، كان متعبا جدا أثناء تصوير «هى فوضى» للدرجة
التى جعلتنا نستعين بخالد يوسف لمعاونته، وكنت أعلم أن هذا الفيلم
سيساعده ليحقق أمنيته التى طالما صرح بها «أنا عايز أموت ورا
الكاميرا» لكننى فوجئت به قبل انتهاء التصوير سارحا، فسألته فيما
تفكر، فقال «خلاص أنا عرفت فكرة الفيلم اللى جاى»، لكنه رحل قبل
حتى أن يفصح عنها..> |