مهرجان البندقية السينمائي:
"القطع" مأساة الأرمن من منظور مخرج تركي
صفاء الصالح/ بي بي سي - البندقية
ضمن المسابقة الكبرى لمهرجان البندقية السينمائي عرض فيلم "القطع"
للمخرج فاتح أكين، وهو أول فيلم لمخرج من أصول تركية يتناول مجازر
الإبادة التي تعرض لها الأرمن في أواخر الدولة العثمانية، في وقت
تصر فيه تركيا على انكار عملية الابادة ومسؤوليتها عنها، أو
الرواية الأرمنية عنها على الأقل، وترفض الاعتراف بها والاعتذار
عنها.
ووفرت بطاقة الهوية تلك تمويلا سخيا فاق نحو 21 مليون دولار لانتاج
فيلم ملحمي صخم، جاء من عدد من الشركات الانتاجية الألمانية
والأوروبية بالدرجة الاساس، (ألمانيا، فرنسا، ايطاليا، روسيا،
بولندا، كندا، وتركيا).
ولكن هل تكفي النوايا والهويات والتمويل الضخم ومواقع التصوير
المتعددة، التي امتدت على أكثر من قارة، لصنع فيلم جيد؟
شارك اكين في كتابة سيناريو الفيلم السينارست مارديك مارتن (مواليد
ايران 1934)، وهو من أصول أرمنية، عاش طفولته وصباه في العراق الذي
ظلت عائلته تعيش فيه، قبل أن ينتقل الى الولايات المتحدة. وكان
المخرج مارتن سكورسيزي الذي زامله في الدراسة في الستينيات جواز
مروره إلى عالم السينما، إذ تعاون معه في عدد من مشاريعه وكتب له
"الثور الهائج" و "نيويورك نيويورك".
ونرى في هذا السيناريو، الذي كان يهدف إلى خلق فيلم ملحمي بمشاهد
بانورامية في بيئات مختلفة على شاكلة أفلام ديفيد لين الشهيرة
"دكتور زيفاكو" أو "لورانس العرب".
ومشكلة الفيلم الأساسية، في إغراقه في التفاصيل ونزوعه الميلودرامي
الجارف، ومراهنته على استدرار التأثير العاطفي الصادم من حدثه
المأساوي.
قد يرد البعض بأن الواقع الذي تناوله هو واقع ميلودرامي، ونقول ان
حدثا مثل مجازر الإبادة يمثل المأساة الإنسانية في أقصى صورها، وان
تناوله بعد مرور سنوات طويلة عليه يستدعي اشتغالا عقليا وسبرا
عميقا للوقائع والآليات التي قادت وتقود الى مثل هذه التراجيديا
الإنسانية، لا التعكز على الشحنة العاطفية الصادمة في إعادة تجسيد
الحدث.
والمشكلة الاخرى التي يواجهها الفيلم، تنبع من المقارنة مع أفلام
أخرى كبيرة تناولت الحدث ذاته من زوايا متعددة ووقف وراءها مخرجون
كبار معظمهم من أصول أرمنية، كما هي الحال مع فيلم "أرارات" للمخرج
أتوم ايغويان، و "أمريكا أمريكا" لايليا كازان و "مايرنغ" لهنري
فيرنوي، فضلا عن فيلم الاخوين تافياني "مزرعة القبرة" عن رواية
انتونيا أرسلان ومثل فيه الممثل الفلسطيني محمد بكري.
بحث متواصل
يرى أكين أن هذا الفيلم يمثل الجزء الثالث من ثلاثيته "الحب، الموت
والشيطان"، بعد فيلميه "وجها لوجه" و "حافة الجنة"، حيث تتداخل
مصائر الشخصيات ويصبح بحثها عن بعضها موضوعة أساسية لدية. فنرى في
الفيلم الأخير بحثا متبادلا لكل شخصيات الفيلم عن أقاربها: ابن
مهاجر تركي في ألمانيا يبحث عن ابنة امرأة احبها والده وقتلها في
تركيا، والبنت تبحث عن امها في المانيا، وام المانية تبحث عن
ابنتها التي غادرت إلى تركيا لانقاذ صديقتها الناشطة اليسارية
التركية من السجن فتقتل هناك.
يبدأ الفيلم بعبارة تحمل في طياتها تساؤلا أكثر مما تقدم معلومة،
تشير إلى أن الامبراطورية العثمانية كانت تضم عددا كبيرا من
الاقليات، لكنها بعد الحرب العالمية الأولى فجاة باتت تصنف ضمن
أعداء هذه الدولة، وفي ذلك احالة مبطنة الى تحالف الدولة العثمانية
مع ألمانيا والنمسا في هذه الحرب، وهي مقدمة تحتاج إلى مناقشة
بالتأكيد، وهل حقا أن هذا التحول في السياسة ضد الاقليات كان
مفاجئا فعلا أم سياسة متأصلة؟
ويتابع الفيلم قصة نزار (نزاريت) مانوغيان (أدى دوره بحضور مميز
الممثل الفرنسي من أصول جزائرية طاهر رحيم)، وهو حداد أرمني يعيش
في بلدة ماردين، تقع الان في تركيا قرب الحدود السورية، وعائلته
المكونة من زوجته (المغنية المغربية زهرة هندي) وابنتيه التوام
لوسين وارسين (زينة ودينة فاخوري).
يساق نزاريت للخدمة في الجيش والعمل في السخرة في شق الطرق كغيره
من الرجال الأرمن، وهنا يرى بعينه ما حدث لأهله في عام 1915 من قتل
وتهجير وإباده.
وبعد مشاهد اضطهاد عمل السخرة يتركهم الضباط العثمانيون لمجموعة من
المساجين والقتلة الذين اطلق سراحهم ويأمرونهم بذبح الرجال الأرمن
الذين لم يتحولوا إلى الإسلام.
ويقدم هنا مشهدا بشعا ينتمي الى ثقافة الجماعات المتطرفة التابعة
للقاعدة في أسلوب الذبح الهادف إلى الصدمة والترويع الذي تعتمده،
لا ندري إلى أي مدى كان ذلك سائدا مطلع القرن العشرين.
لكن نزار ينجو لأن اللص السابق الذي كلف بذبحه يكتفي بجرح رقبته
دون اكمال ذبحه، ثم يعود لاحقا لانقاذه والهرب معه، لينضما الى
مجموعة من المتمردين في البادية، وليبدأ نزار بعد ذلك رحلته منفردا
للبحث عن عائلته.
رحلة البحث تبدأ من بادية الشام، ينزل نزار في ضيافة شيخ عائلة
بدوية مقابل المال.
ونرى كيف يعامل الشيخ بقسوة فتاة ارمنية يستعبدها، وعندما يصل إلى
رأس العين، يصور أقصى صور البؤس في مخيم النازحين الأرمن هناك،
الجميع ملقى على الارض بين ميت من الجوع او المرض.
ويقدم اكين مشهدا يقوم فيه نزار بخنق امرأة من عائلته لانهاء
معاناتها، ونجد أن هذه المبالغة الميلودرامية أضعفت كثيرا ما نجح
في تقديمه من صور البؤس وعبر تلك المشاهد البانورامية الكابية التي
قدمها مدير تصويره للمخيم.
رحلة العذاب
وينجح نزار بعد ذلك في الوصول إلى حلب بمساعدة تاجر صابون حلبي
(الممثل الفلسطيني، من عرب 48 في إسرائيل، مكرم خوري)، يخفيه عن
أعين الجندرمة الأتراك ويشغله عنده، بل أنه بعد نهاية الحرب يخصص
مجمل مصنعه والخان الذي يملكه لمنظمة إغاثة لإيواء اللاجئين الأرمن.
يقطع أكين إلى اواخر عام 1918 ونهاية الحرب العالمية الأولى وتحرير
قوات الحلفاء المدينة، عبر مشهد الأتراك المنسحبين من المدينة وسط
شتائم الناس والحجارة التي يلقونها عليهم، فيرفض نزار المشاركة في
ضربهم بالحجارة.
ويقحم اكين بعد ذلك مشهدا، بدا خارجيا على السرد رغم جماليته،
وربما احتوى على خطأ تاريخي اذا حسبنا بدقة مسار السرد في الفيلم،
حيث يجلس نزار وسط الأطفال والأهالي في الساحة الذين يشاهدون فيلما
لشارلي شابلن هو فيلم الصبي، فتتساقط دموعه وسط ضحكات الآخرين.
وإذا كان هذا المشهد يقع بعد نهاية الحرب في عام 1918 في تسلسل
السرد أي قبل أن يبدأ البطل رحلة البحث الثانية الى لبنان وكوبا،
بينما يعود تاريخ بدء عرض فيلم الصبي إلى عام 1921.
وكان شابلن بدأ تصويره في آب - أغسطس 1919 ولم يكتمل الا في
مايو-أيار 1920 ولتبدأ عروضه في العام الذي يليه، فمن المستحيل أن
يكون قد وصل حلب في السنة نفسها في ذلك الوقت.
وهنا يلتقي نزار بليفون، الصبي الذي كان يتدرب عنده، ويخبره بأن
ابنتيه ما زالتا على قيد الحياة، وأن أمهما أودعتهما عند عائلة
بدوية قبل موتها.
ليبدأ نزار رحلة بحث طويلة تستمر لعدة سنوات وتأخذ زمن النصف
الثاني من الفيلم وتمتد في عدد من البلدان، تبدأ من ملاجئ الأطفال
الأرمن في سوريا ولبنان، حتى يعرف انهما تزوجتا وانتقلتا من ملجأ
في لبنان إلى كوبا.
في كوبا يبحث نزار عن حلاق أرمني اخذ ابنتيه واساء معاملتهما يدعى
هاكوب نقاشيان، وعندما يصل الى كوبا يكتشف أن ابنتيه رحلتا الى
الولايات المتحدة، وهناك تتواصل رحلة طويلة أخرى تبدا من فلوريدا
حيث يحاول احد الامريكيين قتله لأنه أراد سرقة دجاجة من منزله، إلى
مينيابوليس حيث يعمل في مد سكك الحديد وانتهاء بنورث داكوتا حيث
يجد إحدى ابنتيه وقد اصيبت في عاهة برجلها ويكتشف أن اختها الثانية
قد توفيت.
في الجزء الاخير، تحضر ظلال "امريكا" إيليا كازان بقوة، ويحاول
أكين أن يقدم صورة وحشية بائسة لواقع المهاجرين تتناقض تماما مع
تصورات السائدة عن الحلم الامريكي، كما يتنقل في بيئات مختلفة:
مناطق جرداء أو زراعية أوشواطئ بحرية أو مناطق مغطاة بالثلج.
نهل اكين كثيرا من الموروث الديني المسيحي ونثر الكثير من رموزه في
سرده السينمائي، بدءا من اختيار اسم (نزاريت) لبطله، ومرورا بتقديم
كثير من المشاهد التي اعتمدت على الرسوم والمنحوتات التي صورت آلام
المسيح، كما هي الحال مع مشاهد مخيم رأس العين.
كما بدا واضحا ترسم المخرج في اسلوبه لجماليات أفلام الغرب
الأمريكي وانتاجات هوليود الكبرى، لاسيما في تصوير تلك اللقطات
العامة في البيئات الطبيعية المختلفة.
وبرع مدير تصوير الفيلم راينر الالماني راينر كلاوسمان (المصور
المفضل لأكين) بالتعاون مع الان ستارسكي (مصمم مواقع التصوير) في
تقديم مشاهد بانورامية رائعة (وايد سكرين) تنقلت في بيئات مختلفة
من الصحراء الأردنية الى البيئة الأمريكية المتنوعة.
واستخدم كلاوسمان عدسات 40 ملم لتقديم تلك اللقطات الطويلة الرائعة
التي صورت في الصحراء الأردنية، كما استخدم مرشحات لتقديم مشاهد
مبتسرة الألوان وكالحة ومغبرة، كما هي الحال في مشاهد المخيم.
وبذل الممثل طاهر رحيم جهدا كبيرا في تجسيد شخصية نزار، لاسيما
أنها شخصية رجل فاقد للقدرة على الكلام، وعلى ممثله أن يجد بدائل
تعبيرية واشارية للتعبير عن مشاعر الشخصية.
ولكن يعاب عليه هنا مكياجه الذي ظل ثابتا، بوجهه الذي يوحي بملامح
طفولية، ولم يتغير شكله على الرغم من كل تلك السنوات وظروف القحط
والعذاب الطويلة، فلم نشهد سوى اضافة بعض خصلات الشعر البيضاء الى
شعره.
بقي أن نشير إلى أن الموسيقى التصويرية التي وضعها الموسيقى المفضل
لدى أكين، الكسندر هاكه، فشلت في استثمار الغنى الموسيقي الهائل
الذي تتمتع فيه المنطقة التي دارت فيها الاحداث في الشرق الآوسط او
التنوع لاحقا بين بلدان مختلفة، وظلت خارجية معتمدة على نمط من
الموسيقى الالكترونية الغربية، إذا استثنينا الأغنية الأرمنية التي
ظلت تتردد في بعض مشاهد الفيلم. |