موت الشحرورة لم يعد شائعة
محمد حجيري
نادراً ما رافقت شائعات الموت، فنانة مثلما رافقت الشحرورة
صباح، التي ماتت عشرات المرات في وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي،
كأن لدى بعض الاعلاميين مشكلة في بقاء فنانة تحب الفرح على قيد الحياة.
كانت الشائعات تزيد في مراحل، كان لبنان يغرق في مآسيه وسواده، حتى
المشعوذين لم يرحموا "شحرورة الوادي"، اذ كان متخيل موتها في صدارة
توقعاتهم السوداء والكالحة، ربما ترافقت شائعات الموت مع تقاعد صباح الفني
ودخلوها في مرحلة العمر المتقدم الذي اقعدها ولكنه لم يبعدها عن الأضواء
والمجلات الملونة وحتى الصحف والمواقع الصفراء. كان مخزياً أن تقرأ صباح
عشرات الأخبار عن موتها، وحين أعلن أخيراً عن رحيلها، فجر اليوم الأربعاء،
كثيرون ظنوا أن الخبر شائعة جديدة، وانتظروا قليلاً حتى يتم نفي الخبر، لكن
هذه المرة ودعت صباح الدنيا، وموتها لم يكن شائعة.
صباح، صاحبة التاريخ العريق في الفن المتعدد الأوجه، ولدت
لعاشر من تشرين الثاني 1927 في بلدة بدادون. بدأت علاقتها بالفن حين قررت
المدرسة تقديم مسرحية اسمها "الأميرة هند"، ورشحتها الراهبة المسؤولة عنها
لأداء دور البطولة فيها، وكانت صباح في الرابعة عشرة من عمرها. راحت
الراهبة تخفق لها يومياً خمس بيضات وتقول لها: "إشربي، فهذا سيفيد صوتك
ويجعله قوياً". صدقتها صباح وراحت تشرب صفار البيض المخفوق، ومما ضاعف من
ثقتها بنفسها أن بعض من حضروا تمارين المسرحية وشاهدوها، وهي تستعد لأداء
دور "الأميرة هند"، شجعوها ومن بينهم الممثل الراحل عيسى النحاس الذي اعتزل
التمثيل بسبب كبر سنه، ثم أصبح بعد ذلك يعتمد تأجير الملابس المسرحية كمصدر
عيش، وهو أعجب بهذه الممثلة الناشئة فأحضر لها ملابس لدور الأميرة هند.
عرضت المسرحية ولم يتقبل والد صباح اشتراك ابنته في الغناء. ثم قبل ذلك على
مضض لأن المسرحية كانت تحت إشراف الراهبات، وجاراه في الرأي جدها الخوري
لويس، وخال أمها المطران عقل وبقية أفراد العائلة.
شاهد صباح، قيصر يونس، صهر الممثلة اللبنانية الأصل آسيا
داغر التي كانت مشهورة في مصر، فاقترب من والدها قائلاً له: "حرام ألا تدخل
ابنتك مجال السينما". ولما كانت موجة الغلاء على أشدها في فترة الحرب
العالمية الثانية، وكانت تسعيرة النجوم قد وصلت الى أسعار خيالية، فسجل
المنتج يوسف وهبي إنجازاً حين اكتشف صوت الفنانة نور الهدى، وكرسها بطلة في
أفلامه. وأتت آسيا داغر إلى بيروت بحثاً عن نجمة منافسة، واستعانت في هذه
المهمة بقيصر يونس موزع أفلامها وقريبها الذي كان يعرف جانيت فغالي، ووقع
الاختيار عليها.
وصلت الصبية الى مصر برفقة والدها، وفي مقهى بشارع فؤاد
الأول، ولد اسمها الفني "صباح"، وقد أطلقه عليها الشاعر صالح جودت. أحضرت
آسيا داغر كبار الملحنين للإستماع الى جانيت وإبداء رأيهم بصوتها فكان
إجماع على أن صوتها لا يزال غير مكتمل المعالم. الا أن المخرج هنري بركات
وجدها صالحة للتمثيل السينمائي نظراً لخفة ظلها. كانت بداية صباح في فيلم
"القلب له واحد" لا تبشر بنجاح كبير مستمر، كان صوتها غير ناضج، وقدرتها
على غناء الألحان المصرية محدودة وتكاد تكون عجزاً. لم تكن ملامحها التي
ظهرت في الفيلم ملامح ممثلة جميلة أو ممثلة مثيرة. كانت أشبه بملامح فتاة
قروية، لا تستطيع الصمود في مدينة القاهرة. بعد فيلم "القلب له واحد" اتجهت
صباح الى الأغاني الخفيفة التي تلحن بسرعة، وتؤدى بسرعة، ويسمعها الناس
بسرعة وينسونها بسرعة، وسماها بعض النقاد في ذلك العهد "مطربة السندويش".
نجحت صباح في هذا اللون واتخذته شعارها الفني، وعقب الحرب
العالمية الثانية تغيرت أفكار الناس وميولهم. وبدأت مطربة "السندويش" تجنح
الى الأفول بعد النجاح والاشراق، وكادت في مرحلة أخرى أن تدخل طي النسيان
لولا أن تداركت نفسها، فغيرت لون غنائها، وأطلت بالأغاني التي لحنها المصري
كمال الطويل. فانقلبت صباح بأغانيه من مطربة مرحة إلى مطربة حزينة، وكشفت
عن قدرات صوتها، وبدأت منذ ذلك الحين تتحول إلى مطربة بعدما كانت أقرب الى
المنولوجيست.
وكان صوتها يتجلى على حقيقته في الأغاني اللبنانية
والمواويل الجبلية ذات الامتدادات الصوتية حيث ينتقل صوتها صاعداً من طرفه
الثقيل الى طرفه الحاد وبالعكس، لقد انتقلت صباح من مونولوجيست خائفة من
المستقبل الى مطربة راسخة.
عندما سافرت صباح الى القاهرة لأداء دور البطولة في فيلم
"القلب له واحد"، رافقها والدها وكان شديد السيطرة عليها، يتصرف بأموالها،
ويوقع العقود السينمائية عنها. وهي وصفته في إحدى اللقاءات التلفزيونية
بـ"القاسي"، وأضافت أنه سبب لها عقدة دفعتها إلى الزواج أكثر من مرة لتثبت
لنفسها أنها امرأة مرغوبة، بعدما دأب والدها على تذكيرها بأنها ساذجة. وما
إن بلغت صباح السن القانونية، حتى هربت من منزل الأب، لتتزوج من نجيب
الشماس، الذي لم يكن أقل من الأب في فرض القيود عليها وحرمانها من مكاسبها.
ومع أنها رزقت منه إبنها الوحيد، صباح، لم تستطع الاستمرار في العيش معه.
كان نجيب شماس في عمر والدها، قبلت به ولم تختره. وهو اختار طرابلس
لإقامته، وهي لا تستطيع العيش بعيداً من العاصمة والقاهرة، فطلبت الطلاق
لأنه منعها من السفر الى القاهرة لتصوير فيلمها "سيبوني أحب".
بعد طلاقها من نجيب شماس، واقفت صباح على الغناء في ملهى
طانيوس في مدينة عاليه، وكانت تسعى إلى أن تكون اطلالتها بمثابة مفاجأة
للناس والمهتمين بالشؤون الفنية. في هذه الفترة سرت شائعة حب ربطت بينها
وبين أحد أثرياء العرب، وبالفعل لم يطل الأمر حتى تزوجت صباح من الثري
الكويتي الشيخ عبدالله المبارك، ودامت العلاقة أسابيع محدودة.
اعتادت صباح أن تغني، واعتاد أن يرافقها مع الفرقة عازف
الكمان أنور منسي، ومن خلال اللقاءات المتتالية، كان أنور يبادل صباح
الإعجاب الذي تحول في ما بعد الى حب وزواج، ورزقت منه ابنتها هويدا، وهي
اختارت اسمها نسبة إلى أغنيتها اللبنانية "يا هويدا هويدلك". غير أن هذا
الزواج انتهى أيضا بالطلاق لأسباب، منها ان أنور كان يحب المقامرة والسهر
ويهمل البيت، ويضرب صباح عندما ترفض أن تعطيه المال اللازم للقمار. بعد
طلاقها من أنور منسي، طلبت أن تلعب البطولة في فيلم "امرأة وثلاثة رجال"،
الذي ظهر فيه أول مرة المذيع أحمد فراج، وفي أثناء وجودها في لبنان، سرت
شائعة تقول بأن صباح ستعود الى زوجها الأول. لكن ما أن عادت الى القاهرة
حتى تبددت الشائعة، لتنتشر شائعة أخرى تقول بأن قصة حب تجمع بينها صباح
وأحمد فراج توجت بالزواج. سارع الإثنان إلى نفي الخبر لكن القصة كانت
حقيقة، وصباح وأحمد تزوجا. ومنذ الشهر الأول، بدا لها الاختلاف بين
عقليتيهما، فهي فنانة وهو متديّن. وقد طالبها بعدم القيام بأدوار ساخنة في
السينما وإرتداء الملابس المحتشمة، والغاء رقة الصوت من أغنياتها،
والابتعاد عن الغنج والدلال في تصرفاتها، وعدم تقديم المشروبات الروحية
لضيوفها. وبعد ثلاث سنوات، تم الطلاق بين صباح وأحمد في ربيع 1963.
عادت صباح الى لبنان، لتستقر فيه، وتشارك في عدد من
المسرحيات الغنائية التي كانت تقدم في بعلبك وبعض المسارح في المناطق
"كالشلال" و"القلعة"، أو لتشارك في بعض الأفلام السينمائية. وفي مطلع
أيار/مايو 1967، استيقظت بيروت على شائعة خبر زواج صباح ورشدي أباظة من دون
مقدمات. في برنامج "سيرة الحب" مع الكاتبة الكويتية فوزية الدريع، أكدت
أنها أحبت رشدي أباظة كثيراً لكن لأسباب تتعلق بشراهته في الشرب، لم
تتحمله، أما في حالاته الطبيعية فكان يعاملها أحسن معاملة، وكان يرسل لها
الورد الأحمر، فآخر كلمة نطقها رشدي أباظة قبل وفاته هي كلمة صباح.
في صيف 1970 تزوجت صباح من النائب جو (يوسف) حمود، وكان
مختلفاً عن كل الرجال الذين عرفتهم في حياتها. كانت أول اطلالة اجتماعية
لهما في حفلة اقيمت في فندق "شبرد" في بحمدون، وكانت المناسبة تقليدها وسام
الاستحقاق اللبناني برتبة فارس. عاشت صباح أياماً صعبة بعد طلاقها من
النائب جو حمود، وكانت الصعوبة تكمن في أنها كانت خلالها بلا عمل مسرحي،
ولم يكن ممكناً لها ان تعد مسرحية جديدة بعد الانتهاء من عرض مسرحيتها
"الجنون فنون". في تلك المرحلة طلبت منها صديقتها ايفيت سرسق أن تشارك
"فرقة السيغال" بغنائها، خصوصاً ان الفرقة تقدم حفلات كثيرة في كل المناطق
اللبنانية. فوافقت صباح لأنها وجدت نفسها أمام عمل فني متجرد يسليها ولا
يرهقها. وبدأ العمل، ومن خلاله تعرفت الى وسيم طبارة أحد نجوم الفرقة
البارزين. ولم يضيع وسيم الوقت، فأعلن عن حبه، ورغم ما أبدته من أسباب
وأعذار لتصرف إهتمام وسيم بها، تحول دون الحب، الا أن الزواج تم في 18
آب/أغسطس 1973. مضت سنوات على زواجهما، فبدا أن الحب بينهما هدأ بعض الشيء.
وفجأة، ومن دون سابق تصور أو تصميم، أعلنت صباح انهاء علاقتها بزوجها وسيم
تمهيداً للطلاق.
أما زواجها من الفنان فادي (قنطار) لبنان الذي كان يصغرها
بأكثر من عشرين عاماً، فانعكس عليها سلباً، فقد تم الزواج في لندن بتاريخ
18 آذار/مارس 1987. وبعد مرور حوالى العشرين عاماً على زواجها الأخير
انفصلت صباح عن فادي لبنان في عيد العشاق في شباط/فبراير 2002 واعتبرت ان
زواجها منه كان غلطة لن تسامح نفسها عليها.
صباح المرأة، الدون جوان الأنثى، الوجه الآخر لفيروز، هي
التي عاشت الحياة على عواهنها الجميلة. ولو وفّقت بـ"رعاية" فنية شاملة،
بما يشبه شخصيتها، كما توفر لفيروز، لربما زادت فرصها في التفوق. تقول في
سياق وصفها لعلاقتها العاطفية "قصة الحب اجمل من الحب". تعتبر إن سبب
زيجاتها الكثيرة أنها كانت تحترم مكانتها كمطربة معروفة ولم تكن تسمح
لنفسها ولا لمكانتها بإقامة علاقة "محرمة" مع أحد عشاقها. تختزل تاريخها في
كل مرة تظهر فيها على الشاشة بالحديث عن زيجاتها المتعددة فقط، تعترف صباح
بأنها لم تكن محبوبة من أي من أزواجها وتقول: "أحببتهم جميعاً، لكنهم
اعتبروني مدام بنك.. لم يحبني أحد".
صباح صاحبة السيرة الزاخرة بالتناقضات والهواجس والشائعات،
تشبه ألف ليلة وليلة بأخبارها المرة والحلوة، الفرحة والتراجيدية، الرصينة
والفضائحية، المرأة العادية والقريبة من رجالات السلطة. كانت تتمتع بشباب
دائم وحاولت أن تعاند الزمن في سنواتها الأخيرة. عرفت صباح بأناقتها
الدائمة وبشبابها الدائم... قالت صباح ذات مرة في مقابلة صحافية: "قضيت
عمري سجينة بشكل ملون، وإطار لمّاع، وأناقة مفرطة". وكتب حازم صاغية في
ملحق "نوافذ" في جريدة "المستقبل" مقالاً عنوانه "مغنيات": "صباح شيء آخر.
فهي أقرب ما تكون الى "مهنة" الغناء، بمعنى الصلة بالمسافة بين الصورة التي
يصنعها الدور، وبين حقيقة الشخص نفسه. تصنع حياتها في ضوء ما تتطلّبه
المهنة. هكذا، مثلاً، تبالغ في الزيجات والطلاقات، كما لو أن "الصورة" هي
المثال الذي يُسعى إليه في حياة تُعاش حقاً. وصباح التي "تعبد" الرئيس كميل
شمعون، ولم تكن مقربة من الرئيس (الجنرال) فؤاد شهاب، كانت ولا تزال تحب
العسكر والحكم العسكري، وهي نسيبة "شحرور الوادي" القومي اللبناني
"الانعزالي"، قدمت أغنية لعبد الناصر منعتها الإذاعة المصرية بسبب كمّ
الدّلع الذي تحويه وهي بعنوان: "عيونك...ياه"، وبعدما غنتها لعبد الناصر في
إحدى حفلاتها بثّتها الإذاعة المذكورة بطيبة خاطر!".
ساهمت صباح أيضاً في انتشار الأغنية اللبنانية، ويعود الفضل
لها في انتشار الأعمال الفولكلورية اللبنانية في الوقت الحاضر إلى جانب
فيروز. ولأن كانت فيروز غالباً في دور المطربة السرية التي لا يعرف الجمهور
أسرار بيتها، ولا تصرح للصحافة بذلك، وبالتالي لا يهتم الجمهور إلا بصوتها،
في سياق مختلف كانت أسرار صباح مطروحة مكشوفة، وأخبارها رائجة مثل أغنياتها.
قدمت صباح عشرات المهرجانات والمسرحيات، ضمن مهرجانات بعلبك
وبيت الدين، وجبيل وغيرها، ومنها "موسم العز"، "دواليب الهوا"، "القلعة"،
"الشلال"، "فينيقيا"، "شهر العسل"، "ست الكل"، في آذار/مارس 2003 اعلنت
هجرتها الى اميركا لتعيش الى جانب ولديها وشقيقها وعائلته، نظراً لضيق سبل
العيش في لبنان وشعورها بالوحدة. ورغم الثروة المالية التي حققتها صباح في
مشوارها الفني، صارت صباح وحيدة في غرفة في فندق.
ولا مجال هنا لسرد كل تفاصيل حياة صباح، الفنية والشخصية، فهي تحتاج مجلدات... |