المخرج تيرنس ماليك استطاع في فيلمه 'فارس الكؤوس' أن يتحرر
بكاميراته التي لم تتوقف عن الحركة نحو ساعتين لتكشف الكثير من
تداعيات ذاكرته.
نجح ديتر كوسليك، مدير مهرجان برلين السينمائي، في الفوز بالفيلم
الأميركي الجديد للمخرج تيرنس ماليك “فارس الكؤوس”، وضمّه إلى
مسابقة الدورة الـ65 من المهرجان.
تيرنس ماليك معروف بقلة أفلامه -أخرج حتى الآن سبعة أفلام طوال (52
سنة)- وبرفضه الظهور العلني في الصحافة والمهرجانات، يعتبر من بين
قلة من مخرجي السينما الأميركية، الذين يسبحون عكس التيار، أي أنه
ينتمي إلى فصيلة من صناع السينما، الذين يستخدمون الفيلم كوسيلة
للتعبير عن رؤية فلسفية للعالم، وليس لرواية قصة في إطار سطحي
استهلاكي بغرض التسلية.
وكان ماليك قد وصل إلى ذروة التعبير عمّا يؤرق الفنان في فيلميه
السابقين “شجرة الحياة” السعفة الذهبية في مهرجان كان (2011)،
و”إلى الأعجوبة” (2012).
ويبدو في فيلمه الجديد أكثر تحررا من ذي قبل، سواء في السرد
وأسلوبه في التعبير عن “المأزق” الإنساني، أو في طريقة وضع شذرات
المادة البصرية معا في سياق سينمائي.
وإن نجح في الجانب الأول، بدا أقل نجاحا، بل أقرب إلى الغموض
المشوب بالاضطراب في الجانب الثاني، ما جعل من الصعب تصوّر أن يصمد
فيلمه الجديد هذا أمام الكثير من عشاق أفلامه، بل ومن المدربين
جيّدا على فهمها وتذوقها والاستمتاع بها أيضا، وبهذا المعنى يكون
“فارس الكؤوس″ مخيّبا للآمال بلا شك.
سنجد هنا الكثير من معالم أسلوب ماليك: العذاب الروحي الذي يتمثل
في رفض البطل “ريك” لعالمه القائم على الزيف -فهو كاتب سيناريو
أفلام تجارية في هوليوود يشعر بالقرف، مما يكتبه من أفلام
للتسلية-، واتجاهه للبحث عن معنى للحياة خارج تلك الدائرة المغلقة،
لعالم مليء بالزيف والترهات والشخصيات الكرتونية السطحية التي تبدو
وكأنها تعرض وتستعرض نفسها، بدلا من أن تكون شخصيات إنسانية حقيقية
من لحم ودم، يمـــكن إقامة علاقات إنسانية دافئة معها.
الفيلم يفتقد منذ البداية إلى البؤرة الدرامية، التي تجعله مشدودا
بشكل جيد حول شخصية ذات ملامح محددة
وفي سياق كهذا نتابع من خلال كاميرا حرة، لا تكاد تتوقف عن الحركة
طوال نحو ساعتين هما زمن الفيلم، الكثير من تداعيات الذاكرة، التي
تختلط مع الواقع المعاصر بلوس أنجليس، في أجواء عالم صناعة
التسلية، ولكن خارج الصناعة نفسها أي في “الحياة اللذيذة” -إذا ما
استخدمنا عنوان فيلم فيلليني الشهير- أي عالم الليل والأضواء،
والعارضات ممشوقات القوام، والعري الأنثوي، والإغواء، والغرق في
المتعة دون أيّ إحساس بالإشباع.
يقسم ماليك فيلمه إلى فصول من خلال عناوين خاصة مثل “الرجل
المشنوق”، “الموت” و”التحرر”، ولكنها مجرّد تقسيمات لا تفصل بين
تلك الرحلة الممتدة التي تبدو بلا نهاية للبطل خلال تأمله لمغزى
وسياق حياته الفارغة.
إن “ريك” يستدعي من ذكرياته الخاصة مع أسرته؛ لقد فقد أحد شقيقيه
-الذي يبدو أنه انتحر بشنق نفسه دون أن نرى هذا، بل نفهمه من
السياق-، وتوترت علاقته بوالده الذي يبدو غير راض عن اختياره في
الحياة، إنه يريده أن يعود إلى أحضان البيت، وكذلك مشاجراته التي
لا تنتهي مع شقيقه الثاني، واستدعاؤه لصورة زوجته الطبيبة التي
تعمل في مجال بعيد كل البعد عن عالمه البراق (كيت بلانشيت).
وهو في خضم تلك الجولة الطويلة التي تتأرجح بين الخيال والواقع،
وبين الواقعي والروحاني، والمباشر والرمزي، يترك ماليك العنان
لنفسه، للتماثل مع بطله في أزمته الروحية العميقة، لكن المشكلة أن
ماليك في خضم انسياقه للتعبير عن تلك الحالة الذهنية والنفسية التي
يصعب تصويرها سينمائيا دون شك، يفقد القدرة على السيطرة على
المادة، ليس لأنه لا يعرف ماذا يصور وماذا يبقي أو ماذا يستبعد
منها؟ بل بسبب افتقاد سيناريو الفيلم من البداية، البؤرة الدرامية
التي تجعل الفيلم مشدودا بشكل جيّد حول شخصية ذي ملامح محددة.
تجعل كل هذه التداعيات والصور المختلفة لما يمرّ به البطل في
حياته، تترتب في سياق درامي ما، يكون كفيلا بأن يعيد ترتيب الشذرات
المتفرقة من المعلومات التي تعبر في الفيلم -مثل الزلزال الذي يهدم
شقة ريك في لوس أنجليس، ويدفعه للخروج إلى العالم، أو ذلك القس
الذي يلجأ إليه بحثا عن الخلاص-، حيث تكتسب معنى أكثر عمقا في
السياق، فيؤسس كل مشهد من مشاهد الفيلم، لما سيأتي بعده مهما
تداخلت التداعيات والصور والأنماط البشرية المتعددة التي نراها
-خصوصا النساء-، ويصبح لها معنى أكبر من ذلك الانطباع الذي يأتي من
عبورها السريع على سطح الفيلم.
كما نرى مثلا في شخصية ناتالي بورتمان التي يريد أن يجعل منها
المرفأ الذي يجد البطل معه أخيرا الحب والتواصل العاطفي، ولكن
سرعان ما يفقدها أيضا في خضم التداعيات السريعة. دون أن نفهم
تحديدا ما الذي حدث.
لا شك في جاذبية الصور هنا بفضل الموهبة الخاصة التي يتمتع بها
مدير التصوير المكسيكي المرموق إيمانويل لوبيزكي (مصور فيلمي ماليك
السابقين، “غرافيتي” و”بيردمان”)، ولاشك في تلك العناية الخاصة
بشريط الصوت الذي ينتقل من همسات التعليق الذي يأتي من خارج الصورة
(الفيلم كله يروى من خلال ذلك الصوت الخارجي)، إلى الموسيقى
الايقاعية تــارة، والغامضة الموحية بالخوف تارة أخرى.
المؤكد أيضا أن ماليك يجعل معنى للكثير من تلك القصص الصغيرة التي
يرويها داخل الفيلم، مثل قصة ذلك الأمير الذي يرسله أبوه الملك إلى
مصر للعثور على الماسة السحرية، لكنه يخالف التعليمات ويخضع
للإغواء، فيشرب من كأس محرم عليه الشرب منه، فيفقد البوصلة والهدف
بعد أن يرقد في سبات طويل، في إشارة إلى بطلنا نفسه، ولكن دون أن
يتخلى عنه أبوه قط، أو ما يكمن في اسم الفيلم نفسه أي “فارس
الكؤوس”، ورقة اللعب الشهيرة التي ترمز إلى التردد والخوف والوجل
ونوع من العجز مع الرغبة في التحرر، والحلم الدائم بالأفضل.
الفيلم يعاني من التكرار، تكرار الفكرة والمعنى واستخدام الكثير من
اللقطات التي تعيد التأكيد مثلا، على فكرة استحالة التواصل مع
المرأة
في المقابل الفيلم يعاني من التكرار، تكرار الفكرة والمعنى
واستخدام الكثير من اللقطات التي تعيد التأكيد مثلا، على فكرة
استحالة التواصل مع المرأة، وكيف أن الحب مقضي عليه بالفراق، وأن
الحياة ليست كما تبدو، بل يجب البحث عن معنى حقيقي لها، وغير ذلك
من “الثيمات” المفضلة عند تيرنس ماليك.
وفي سياق كهذا يصبح دور الممثل عموما، وخصوصا البطل “كريستيان بيل”،
هامشيا وعابرا، مجرّد أداة يستخدمها المخرج دون أن يكون لوجوده
حضور خاص في حدّ ذاته، بل وحتى اللقطات القريبة من وجهه تكاد تكون
نادرة في هذا الفيلم، فالبطل موجود دائما في إطار المكان، وكثير من
الممثلين المعروفين، مثل انطونيو بانديراس، هم هنا مجرّد أشباح
عابرة في فضاء الفيلم.
ولكن ما يجعل من الضروري الاحتفاء بالفيلم تلك الشجاعة التي تجعل
مخرجا مثل تيرنس ماليك، عازفا عن الأضواء، متمرّدا، حتى النهاية،
على تقاليد هوليوود، يتمكن من التعبير عن أفكاره ولو باستخدام
إمكانيات هوليوود نفسها، وتطويعها لحسابه دون أيّ نوع من
التنازلات، وكأنه يضحك عليها. |