ليس المصري الوحيد الذي وصل إلى العالمية، ولكنه تربع على
عرشها، وبالرغم من تصريحاته بأن التمثيل مهنة سهلة، ولا تستحق كل تلك
الشهرة، وبأن موهبته ليست بهذه القوة، بجانب هفواته وسقطاته العديدة؛ خطف
“الشريف” قلوب مشاهديه العرب والأجانب، ثم قال لهم -وللحياة- وداعًا في
العاشر من يوليو الجاري.
وُلد “عمر” وتربى بالإسكندرية، لوالدين يهوديين، وهما
“كلاري وجوزيف شلهوب”، وبعد أن تخرج من كليته انضم للعمل مع والده التاجر
الثري، ولعبت الصدفة دورًا كبيرًا في حياته عندما جاء إليه بشكل مفاجئ زميل
دراسته “يوسف شاهين”، وطلب منه لعب دور البطولة في فيلم (صراع في الوادي)
بعد أن رفضت فاتن حمامة أن يقوم زميلها شكري سرحان بدور البطولة، وكان
شاهين قد أعجب بتأديته لدور هملت على مسرح مدرستهما (كلية فيكتوريا) منذ
سنوات.
في باديء الأمر رفض “عمر” فكرة التمثيل، وظن أنها مزحة،
ولكن “شاهين” أقنعه بها وبالفعل سافر معه إلى القاهرة، وقام بتأدية الدور
الذي ما كان ليضمن له كل هذه الشهرة لو لم تشتعل علاقة الحب بينه وبين
“فاتن حمامة”. وهي العلاقة التي بدأت بقُبلة لم تكن مكتوبة في السيناريو
الأمر الذي أثار الرأي العام عليها، فـ”عمر”-الذي كان اسمه وقتها ميشيل-
شاب يهودي، وهي امرأة مسلمة متزوجة ولكن زوجها “عز الدين ذو الفقار” ما لبث
أن طلقها، وبعدها أشهر “عمر” إسلامه، وبالرغم من ذلك لم يرض الرأي العام عن
هذه الزيجة لفترة قصيرة حتى اكتسب رضا الجمهور التام بعد أن شاهد العديد من
الأعمال الفنية التي جمعت بينهما فيما بعد.
ومن أشهر تلك الأفلام؛ فيلم “صراع في الميناء”، وهو فيلم
آخر من إخراج “شاهين”، وكان مساعده وقتها “عاطف سالم”، وهذا الفيلم تسبب في
قطيعة دامت خمس سنوات بين “الشريف” وصديقه المقرب “أحمد رمزي”، ففي أحد
المشاهد يدور عراك بين “رمزي” والشريف”، وأراد المخرج أن يكون المشهد
واقعيًا، فذهب “عاطف سالم” -مساعده- لـ”عمر” وأخبره بأنه شاهد أكثر من مرة
“رمزي” يغازل “فاتن”، فما إن بدأ التصوير قام “عمر” بضرب “رمزي” بمنتهى
العنف وألقاه في المياه وسط زيوت محركات السفن، وترك البلاتوه هو وزوجته
بعد هذا المشهد.
وبعد سؤال “رمزي” و”فاتن” عن تصرف “عمر” الغريب؛ اتضحت
إليهم فعلة “عاطف سالم” فغضبت “فاتن” غضبًا شديدًا، وقامت بالانسحاب من
الفيلم، لولا تدخل الفنانين وإقناعها بالعودة للتصوير، إلا أنها خلال ذلك
الوقت لم تتبادل كلمة واحدة مع “عاطف”، ولم تشترك معه في فيلم آخر حتى مات،
إلا أن “عمر” لم ينه خلافه مع رمزي بهذه السهولة، واستمرت القطيعة لسنوات
حتى قام الفنان “صلاح ذو الفقار” بدعوتهما لحفل ميلاد ابنته، هما والمخرج
“عاطف سالم” الذي قام بالقسم أمام جميع الحاضرين أن أمر مغازلة “رمزي”
لـ”فاتن” كان من وحي خياله، وعاد الود والصفاء للرجال الثلاث، وكدليل على
مسامحة “عمر” لـ”رمزي” والعكس، قام بالتنازل له عن دوره في فيلم “حكاية
العمر كله” أمام “فاتن حمامة” و”فريد الأطرش”.
إلا أن مغامرات فيلم “صراع في الميناء” لم تتوقف عند هذا
الحد، فعند تصوير مشهد إنقاذ “عمر” لـ”رمزي” من النيران؛ أصر “شاهين” على
أن يشعل النيران فعلًا في الديكور، مما عرض حياة “شريف” ورمزي” للخطر؛
فأمسكت النيران في ذراع “عمر”، والتهب جلد “رمزي” من الحرارة، ولم يكتف
“شاهين” بذلك، بل قرر إعادة المشهد لأنه لم ينل إعجابه، وقاموا بإشعال
النيران مرة أخرى في اليوم التالي، إلا أن هذه المرة سكبوا المياه على
النجمين حتى لا تمسك النيران بهما.
وهكذا لعبت الصدفة دورها الأول في صنع نجومية “عمر الشريف”،
ثم جاءت الصدفة التالية عندما جاء المخرج الأمريكي “ديفيد لين” إلى القاهرة
بحثًا عن نجم عربي يقوم بدور الأمير “علي” في فيلمه الشهير “لورانس العرب”
فدله البعض على النجم المصري “رشدي أباظة”، وأخبروه بأنه يتحدث أربع لغات
بطلاقة، في وقت كان من النادر وجود نجم يتحدث بلغة غير العربية، وبالفعل
أرسل المخرج العالمي مدير الإنتاج لمقابلة النجم “رشدي أباظة” وعرض الدور
عليه، إلا أن مدير الإنتاج قد عرض الدور بطريقة أهانت كبرياء النجم “رشدي
أباظة”، فأخبره بأنهم يريدون منه القيام بدور البطولة في فيلم أمريكي، وعمل
اختبار كاميرا له في الصحراء، فما كان من “أباظة” إلا أن جن جنونه من هذا
الطلب المهين، ورد عليه بمنتهى العنف قائلًا: “تست كاميرا! هو أنا كومبارس؟
أنا رشدي أباظة يا حيوان!” وسكب كأس الويسكي في وجهه، فعاد مدير التصوير
للمخرج مخبرًا إياه بما حدث وعُرض عليه “شكري سرحان”، و”فريد شوقي” إلا أن
كلاهما كانا لا يجيدان حرفًا واحدًا من الإنجليزية، ثم عُرض عليه “أحمد
رمزي” والذي كان يعاني من فوبيا الطائرات فرفض الفيلم رفضًا تامًا.
وكان “ديفيد لين” على وشك العودة إلى دياره حتى رُشح “عمر
الشريف” له فتحدث معه بالإنجليزية والفرنسية، ووجده يجيدهما تمامًا، فضمه
لفريق عمله، وظل “رشدي أباظة” يلوم “عمر” بدلًا من أن يلوم نفسه على وصوله
للعالمية-وهي حلم “رشدي” القديم- وبالرغم من أنهما كانا صديقين، مثّلا
سويًا عددَا من الأفلام، وكانا يترددان معًا على الأندية للعب البلياردو،
إلا أن علاقتهما توترت بعد هذا الموقف، وزاد التوتر بعد أن انتقد “عمر” أحد
أدوار “رشدي” ووصفه بأنه قلل من شأن نفسه.
لورانس العرب أولى خطوات العالمية..
بعد أن ضم المخرج العالمي “ديفد لين” “عمر الشريف” لفريق
عمله، واجه “الشريف” مشكلة كبيرة وقفت في طريقه إلى العالمية؛ وهي رفض
زوجته “فاتن حمامة” السفر معه إلى الخارج وترك بلدها مصر، والبحث عن فرصة
تمثيل في الأفلام الأجنبية -بالرغم من إجادتها اللغات الأجنبية- إلا أن ذلك
لم يقف عائقًا أمام “عمر” كثيرًا، إذ قرر الإنفصال عن زوجته وحب حياته
الوحيد وفضّل السفر خارجًا لتصوير الفيلم الذي فتح له باب العالمية على
مصرعيه، وانهالت عليه العديد من الأدوار بعده.
ترشح “عمر الشريف” عن دوره في الفيلم لجائزة الأوسكار عن
أفضل ممثل في دور ثانوي، وربح جائزة الجولدن جلوب عن دوره في نفس الفيلم.
ومن بعدها قام “الشريف” بدور البطولة في فيلم “دكتور
زيفاجو” المأخوذ عن رواية العالمية بنفس العنوان، وربح “الشريف” للمرة
الثانية جائزة الجولدن جلوب عن دوره في الفيلم.
وفي عام 1968 قام “عمر” بدور البطولة في فيلم (فتاة مرحة,
Funny
Girl),
وشاركته في البطولة (باربرا ستريسيند-
Barbra
Streisand)
مما أثار الرأي العام العربي والمصري ضده، فـ “برابرا” نجمة أمريكية
إسرائيلية، وتم إنتاج الفيلم بعد عام واحد من النكسة، فاتهمه الجمهور
العربي بالتطبيع مما اضطره هو و”برابرا” بتوضيح موقفهما بأن الشعوب ليس لها
علاقة بالحكومات، وعلى جميع الأديان أن تعيش في سلام.
وبالرغم من تصريحه ذلك بأن الشعوب لا دخل لها بما تفعله
الحكومات لم يقف “عمر” موقف المتفرج عام 1977، وقتما اعتاد أن يمر على
السفارة المصرية في فرنسا كل يوم تقريبًا لشرب قهوته، وعندها أخبره السفير
المصري في أحد الأيام بأن الرئيس الراحل “أنور السادات” يود أن يحدثه
هاتفيًا، وبالفعل تحدث معه “عمر” ليطلب منه “السادات” بأن يتصل بـ”مناحم
بيجين” رئيس وزراء إسرائيل آنذاك, وإخباره بأن الرئيس المصري يود الحضور
لإسرائيل لعقد اتفاقية سلام، وبالطبع قبل “عمر” العرض، واتصل بـ”بيجين”
وأخبره بطلب “السادات” ليرحب به “بيجين”، ويسافر “السادات” بعدها بأسبوع
إلى الكينيست.
ومن أفلامه التي ندم على تمثيلها كان فيلم (Che!)
الذي جسد فيه حياة المناضل “تشي جيفارا”والذي صرح بعد عرضه بسنوات بأنه
شوّه صورته، وأن المخابرات الأمريكية هي التي قامت بإنتاجه، وهو الأمر الذي
لم يعلمه في وقتها بل عرفه بعدها بسنوات.
في فترة الثمينينات عاد “عمر الشريف” للسينما المصرية التي
لم ينفصل عنها بشكل كلي، ومن أشهر أفلامه في تلك الفترة الزمنية فيلما
“أيوب” عام 1983، وفيلم “الأراجوز” عام 1989.
أثناء تصوير فيلم “أيوب” تُوفى “محمود المليجي” وهو يؤدي
آخر أدواره، فبينما يقول “يا أخي الحياة دي غريبة جدًا.. الواحد فيها ينام
ويصحى، وينام ويصحى، وينام ويشخر”، ومال برأسه إلى الوراء ووقف جميع الحضور
حوله ينتظرون أن يتحرك من جديد إلا أن “المليجي” كان قد فارق الحياة
بالفعل، ووقف “عمر الشريف” بجواره ونظر له نظرة المودع قائلًا: “إيه يا
محمود.. خلاص؟!”
أما عن آخر أعمال “الشريف” الفنية؛ فكانت مسلسل “حنان
وحنين” والذي اعتزل بعده لملاقاته صعوبة في حفظ نص السيناريو، وبعدها بسنوت
صرح ابنه الوحيد “طارق” بأنه أصيب بالزهايمر.
بجانب براعته في مهنته الرئيسة -التمثيل- التي لم يعترف
يومًا بأنها مهنة صعبة أو تستحق تلك الشهرة المصحوبة بها، اشتهر أيضًا
ببراعته في لعبة (البريدج)، وصنف اللاعب الأول في لعبها، بل -وأيضًا- صدر
له كتاب لتعليم اللعبة، وعدد من المقالات الأسبوعية. عام 2006 اعتزل “عمر”
اللعبة، وصرح بأنه لا يريد أن يكون له أي إدمان سوى عمله.
“عمر”.. في كل الأحوال كان قد تمكنت منه خصال المقامر قبل
ذلك بزمن، فاعتاد أن يضحي بكل مضمون في سبيل كل ماهو جديد. فلم يكن الدين
عائقًا أمام حبه، ولم يكن حبه عائقًا أمام سفره، ولا مستقبل مؤمن بثروة
هائلة عائقًا أمام طاولة البريدج، كان يسير وراء عواطفه أكثر من عقله.
وبالرغم من أنه كان محبًا لكل مباهج الحياة-تقريبًا- غير نادم على أيٍ من
قراراته؛ إلا أنه بقى يردد أن كل ما يتمناه أن يكون حاله.. كحاله بالأمس.
بالرغم من أن “عمر الشريف” كان كأي انسان عادي لديه غلطاته
وسقطاته التي لم ينكرها يومًا إلا أن الذي تركز في ذهن جمهورة هي صورة
الرمز، والفنان العالمي آخر ما تبقى من زمن الكلاسيكيات، والمثل الأعلى لكل
نجم عربي يود العمل بهوليوود أو أوروبا. رحل “عمر الشريف” وأصدر رحيله ضجة
دوت بين معجبيه وأصدقائه العرب والأجانب، وتركهم يتساءلون كما تساءل هو
سابقًا: “إيه يا عمر.. خلاص؟!” |