رفض السلطات الصينية السماح بمشاركة فيلم لمخرج صيني مرموق
بسبب اعتراضها على تناوله أحداث الثورة الثقافية، يضع مهرجان برلين في مأزق
كبير.
لم تكن مفاجأة أن تنتهي الدورة الـ 69 من مهرجان برلين
السينمائي مثلما انتهت، أي بحصول الفيلم الإسرائيلي "مترادفات"Synonyms
بالجائزة الكبرى للمهرجان "الدب الذهبي"، فهو بالتأكيد الفيلم الأفضل
والأكثر طموحا من الناحية الفنية من بين كل أفلام المسابقة الـ 16.
كان من المؤسف أن يختتم مدير المهرجان ديتر كوسليك عمله
الطويل على رأس هذا المهرجان الكبير (18 عاما) بدورة اتضح فيها من البداية
سوء اختيار أفلام المسابقة الدولية الرسمية وبالإضافة إلى قلة عددها، كما
شابتها العشوائية في الاختيار مما انعكس بقوة على استقبال الجمهور والنقاد
لكثير من أفلامها.
وقد وقع المهرجان في مأزق كبير بعد أن رفضت السلطات الصينية
السماح بمشاركة الفيلم الجديد للمخرج الصيني المرموق جانغ ييمو "ثانية
واحدة" بسبب اعتراضها على تناوله أحداث الثورة الثقافية.
وكانت تلك أيضا مسؤولية كوسليك الذي ضم الفيلم في اللحظة
الأخيرة إلى المسابقة قبل أن يضمن وصول نسخة الفيلم إليه، وكان من المثير
للسخرية أن تعلن إدارة المهرجان أن الفيلم لن يعرض بسبب مشكلة تقنية واجهها
أثناء عمليات ما بعد التصوير.
وقد أثار منع السلطات الصينية للفيلم غضب قطاعات واسعة من
الشباب داخل الصين نفسها، الذين أبدوا دهشتهم من ازدواجية الموقف الرسمي
للنظام الحاكم في الصين، الذي يدين ممارسات فترة الثورة الثقافية (1966-
1976) ويرفض في الوقت نفسه توجيه الانتقادات لها في السينما وغيرها.
الفيلم الإسرائيلي "مترادفات"
Synonyms
الفائز بالدب الذهبي للمخرج ناداف لابيد، ناطق في معظمه بالفرنسية ومصور في
باريس (مع مشاهد قليلة يستدعيها بطله من الذاكرة مصورة في إسرائيل) فهو
يصور بأسلوب ما بعد حداثي مأزق شاب كان جنديا في الجيش الإسرائيلي، مازال
يعاني من فترة خدمته في الجيش، يذهب إلى باريس حيث يريد أن يتخلص من هويته
ومن أي صلة له بإسرائيل، وهناك يرفض التحدث بالعبرية، ويشتري قاموسا ويبدأ
في حفظ وترديد كثير من مترادفات الكلمات الفرنسية، يقيم علاقة مع شاب
وفتاة، يقدمان له يد العون، يريد أن يتحرر من الهوية الإسرائيلية، معتبرا
إسرائيل أسوأ مكان على وجه الأرض.
ولكن هل ينجح في مسعاه؟ هذا الفيلم يذكرنا في بعض جوانبه
بالطموح السينمائي الذي تميز به فيلم "فوكس تروت
Foxtrot"
لشموئيل ماعوز (الحاصل على الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان فينسيا
2017) من حيث إدانته للعسكرية الإسرائيلية، لكن على مستوى أكثر خفوتا،
وبسبب بنائه الطموح وجدة موضوعه، يستحق الفيلم دون شك مقالا مستقلا.
مشكلة القفاز الذهبي
يجب أن أضيف أن الإصرار على الدفع بأكبر عدد ممكن من
الأفلام الألمانية أو التي ساهمت شركات الإنتاج الألمانية في تمويلها من
خلال سياسة الإنتاج الأوروبي المشترك، إلى قبول أفلام متوسطة أو ضعيفة
المستوى أو مربكة سواء في موضوعاتها أو أساليب مخرجيها في التناول.
من بين هذه الأفلام على سبيل المثال الفيلم الألماني
"القفاز الذهبي" للمخرج الألماني (من أصل تركي) فاتح أكين، وهو أحد الأسماء
الكبيرة في السينما الألمانية، وسبق له الفوز بجائزة "الدب الذهبي" في دورة
2004 عن فيلم "التقدم المباشر"
Head-on.
أما "القفاز الذهبي" فهو اسم بار (مقصف) في مدينة هامبورغ
كانت تقصده في مطلع السبعينات من القرن الماضي العاهرات المتقدمات في السن،
وشباب الطبقة العاملة من العاطلين، وكان يشهد كل ليلة الكثير من الصخب
والفوضى والعنف.
ويدور الفيلم حول شخصية القاتل السفاح "فريتز هونكا" الذي
كان يعاني من التشوه الخلقي والعقد النفسية بسبب عجزه عن إقامة علاقات
جنسية سوية، مما جعله يدمن على الخمر، وكان يصطحب العاهرات الطاعنات في
السن، البدينات، اللاتي تقبلن صحبته فقط من أجل احتساء المزيد من الخمور،
إلى مسكنه الصغير القذر الذي يعلق على جدرانه صورا لفتيات في أوضاع مغرية،
حيث يقوم بالتنكيل بضحاياه ثم يقتلهن ويقطع أجسادهن ويدفنها داخل تجويف في
الجدار.
هذا الفيلم بمناظره الصادمة التي تقشعر لها الأبدان والتي
تشمل الضرب والاغتصاب والطعن المتكرر وتقطيع الأجساد وفصل الرقبة عن الجسد
وفيض هائل من الدماء، بدا وكأن المقصود أن يحقق الصدمة فقط، فالشخصية
الرئيسية تظل أحادية الجانب، لا يتعمق في فهم تعقيداتها النفسية اكتفاء
بصورتها من السطح فقط (قبح الشكل وإدمان الخمر والسلوك العدواني).. ولا
يمكن أن نلمح هنا رؤية سياسية يريد المخرج أن يمررها من بين ثنايا الموضوع،
تتعلق تحديدا بفترة بداية السبعينات والأوضاع السياسية السائدة في ألمانيا
في ذلك الوقت، مع صعود اليمين، وتهميش دور الطبقة العاملة وما كانت تحصل
عليه من مزايا وانتشار البطالة، مما دفع الكثيرين من أبنائها إلى البطالة
ومن ثم إغراق أنفسهم في الخمر.
لم تكن هذه العلاقة بين الحالة السياسية في البلاد وسوء
وتدهور أوضاع عمال الخدمات السفلى، واضحا في الفيلم، بل كان التركيز
الأساسي على تكرار مشاهد القتل والتمثيل بالجثث.
ورغم الأداء القوي من جانب الممثل يوناس داسلر (22 عاما)
الذي ساعده الماكياج الممتاز على أن يبدو أكبر عمرا ذي وجه بشع منفر، إلا
أن الفيلم يظل يدور حول نفسه دون أن ينجح سوى في دفع الكثير من المشاهدين
إلى مغادرة قاعات العرض.
كنت في البيت.. وماذا بعد؟
الفيلم الألماني الثاني الذي لا يسهل فهم دوافع مخرجته هو
فيلم "كنت في البيت.. ولكن" للمخرجة أنجيلا شانيليك، فقد بدا عملا متحذلقا
شكلانيا، مدفوعا بفكرة نظرية عجزت مخرجته عن احاطتها ودفعها وتطويرها بحيث
يمكن أن يجتذب المتفرج.
إنه يبدأ وقد اختفى صبي يدعى "فيليب" في الثالثة عشرة من
عمره، من مسكن أمه "أستريد" الأرملة التي تعيش مع فيليب وشقيقته. وبعد
أسبوع يعود فيليب لكي يندمج في الحياة اليومية ويعود إلى مدرسته من دون أي
مشكلة كما لو لم يقع شيء.
وينتقل الفيلم للتركيز على الأم "أستريد"، التي تبدو وقد
أصبحت مصابة بالعصاب، تدخل في مواجهات عصبية لا تنتهي. هل لهذا العصاب
علاقة باختفاء ثم عودة الإبن؟ لا يسهل الإجابة عن تساؤلات مثل هذا، فالفيلم
لا علاقة له بما يعرف بالمنطق الدرامي، وليس فيه حبكة، بل مجموعة مشاهد
متفرقة أقرب إلى "الاسكتشات" المسرحية التي تريد ايصال الفكرة التي تبتعد
وتصبح أكثر غموضا كلما مضى الفيلم إلى الأمام افتراضا.
قد يكون لمثل هذا التساؤل علاقة أكثر بما يحدث في المشهد
الرئيسي الطويل الطريف الذي يدور بين أستريد وصديق قديم لها هو الآن مخرج
مسرحي، حول دور الفن ومعنى الفن وعلاقته بالواقع، وهل الفنان يخدع الجمهور
عندما يزعم أنه يصور الواقع، أو أن الواقع غير واقع الفن، وما هو معنى الفن
ومعنى الصدق في التعبير.. وهو مشهد حواري يقترب من حوارات مسرح العبث، كما
يبدو أيضا من طرف واحد، فأستريد هي التي تتحدث فيما يبدو كـ"منولوج" طويل
مع نفسها أكثر منه "ديالوج" مع الآخر.. والآخر أي المخرج، يبدو محايدا طوال
الوقت، لا ينفعل ولا يشعر بتفاعل مع ما توجهه هي إليه من إهانات، بل يبدو
أكثر كما لو كان يشعر بالرثاء لها.
وقد يكون هذا المشهد معبرا عن فكرة عدم التواصل بين البشر
في ألمانيا اليوم، كما أن الفيلم يبدأ بمشهد آخر تعود خلاله استريد لإرجاع
دراجة كانت قد اشترتها في مطلع الفيلم ولكنها لم تعجبها، تريد ردها إلى
صاحبها (البائع) وهو رجل متقدم في العمر، من الواضح أنه أجريت له عملية
استئصال للحنجرة وأصبح يتخاطب الآن عن طريق جهاز يضغط عليه فيصدر صوتا آليا
يبدو مثل أزيز، والرجل يرفض إعادة ما دفعته له استريد ويرفض بالتالي
استرداد الدراجة ويصر على أنه يمكن أن يقوم بإصلاحها، ولكنها لا تريد
إصلاحها بل ترى أنه لا فائدة من إصلاحها وتصر على أنها لم تعد تريدها، وتظل
تكرر نفس المعنى مرة بعد أخرى دون ملل، بينما يجيب الرجل في اقتضاب من خلال
ذلك "الأزيز" الصادر عن جهاز الحنجرة البديلة مكررا بطريقة آلية ومن دون أي
انفعال أنه سيقوم بإصلاحها. دون أن نصل إلى شيء.
وربما تحقيقا لنفس الفكرة، أي فكرة العلاقة بين الفن
والحياة اليومية، وصورة الفن والواقع، أدخلت المخرجة مشهدا آخر يؤدي خلاله
الأطفال في المدرسة مشهدا من مسرحية "هاملت" لشكسبير من دون أي انفعالات أو
حركات.
لكن هذا الفيلم حصل على جائزة أحسن إخراج. كما حصل فيلم
"بفضل العناية الإلهية" لمخرجه الفرنسي فرانسوا أوزون (الذي سبق تناوله على
هذه الصفحة) على جائزة الدب الفضي- الجائزة الكبرى للجنة التحكيم وهي
الجائزة التالية للدب الذهبي.
جوائز التمثيل
جائزتا التمثيل ذهبتا إلى بطلي الفيلم الصيني الطويل "إلى
اللقاء يا ولدي" (175 دقيقة) وهمايونغ موكي (أفضل ممثلة) ووانغ ينغشون
(أفضل ممثل)، وهو فيلم المخرج وانغ زوايشواي الذي ينتمي للجيل السادس في
السينما الصينية.
ويروي الفيلم قصة ميلودرامية مليئة بالمبالغات والتكرار عن
زوج وزوجة فقدا ابنهما الوحيد في حادث تسبب فيه صبي آخر قريب لهما، وكيف
يعيش الزوجان عبر عقود يعانيان من غياب الابن، وكأن الفيلم يوجه نقدا
للسياسة الصينية الرسمية في الصين التي كانت تحظر إنجاب أكثر من طفل واحد
(وقد ألغيت أخيرا) لكن الفيلم الذي أعجب الكثيرين في برلين وتأثروا به حد
البكاء، يعاني من كثرة الشخصيات وغلبة الحوار والثرثرة والتداخل المربك بين
الأزمنة، وهبوط الإيقاع.
جائزة أخرى (دب فضي) ذهبت لفيلم ألماني آخر هو "تدمير
النظام" يتناول مشكلة الأطفال الذين يقاومون بكل قوة الاندماج في النظام
الاجتماعي وكيف يمكن التعامل معهم. وهي قضية مطروحة حاليا في ألمانيا.
وحصل الفيلم الإيطالي "أولياء الأمور" على جائزة أفضل
سيناريو، وهو من الأفلام الخفيفة المصنوعة جيدا عن عصابات "مافيا" الأطفال
في الأحياء الشعبية في مدينة ميلانو وكيف يأخذ الأطفال المراهقون،الأمور في
أيديهم من الكبار، يقتلون ويسرقون ويفرضون الإتاوات على المتاجر والسكان
مقابل حمايتهم، وما ينشأ من صراعات فيما بينهم وبين غيرهم من العصابات
الأخرى، وبينهم وبين الكبار، في سياق يجمع بين أفلام الإثارة والفيلم
الرومانسي.
جائزة أحسن إسهام فني (في تصميم الملابس) حصل عليها الفيلم
النرويجي "في الخارج لسرقة الخيول" وهو أيضا عمل لم يترك تأثيرا ولم يبق
منه في الأذهان شيء رغم صوره البديعة للغابات التي تغطيها الثلوج، فضلا عن
عنوانه المضلل!
فيلم "أوراي"Oray
للمخرج التركي المولود في ألمانيا محمد عاطف، حصل على جائزة أفضل عمل أول،
وهو يناقش موضوعا يتعلق بالشريعة الإسلامية وتحديدا موضوع الطلاق، فالزوج
الشاب الذي يحب زوجته كثيرا جدا يلقي في الفيلم إثر مشاجرة عبر الهاتف فيما
بينهما بما يسمى بـ "يمين الطلاق" (لا يقولونها بالتركي "أنتِ طالق" بل
طلاق) وهو يرددها ثلاث مرات، لكنه يعاني إثر ذلك بسبب حبه لزوجته، فكيف
سيتمكن من الفكاك من هذا القيد المرتبط بالشريعة والاحتفاظ بزوجته؟ وتدور
أحداث الفيلم بين أبناء الجالية التركية في ألمانيا ويناقش موضوع التشدد
والتطرف ولكن من منظور "إصلاحي".. ويجب أن نخصص لهذا الفيلم مقالا تفصيليا
فيما بعد.
أخيرا حصل الفيلم السوداني (من الإنتاج الألماني) "حديث عن
الأشجار" للمخرج صهيب جاسم الباري على جائزة أفضل فيلم تسجيلي في المهرجان.
ويصور الفيلم كيف يتفق ثلاثة من الأصدقاء من الذين درسوا الفنون في أوروبا
على ضرورة إعادة الحياة إلى إحدى دور السينما القديمة المهملة التي تشكل
جزءا مهما من ذاكرتهم، وينجحون بالفعل في مسعاهم لكنهم يواجهون الكثير من
التحديات العنيفة من جانب المتشددين والسلطات، يجلسون معا، يتبادلون الحديث
والذكريات عن آمالهم وطموحاتهم ويقرأون الخطابات التي تبادلوها خلال فترة
دراستهم وغيابهم في "المنفى" باعتبارهم من الفنانين المعارضين الذين يحلمون
بعودة الاهتمام بالفنون الى السودان، بل وعودة السودان إلى الحداثة بعد
تغير النظام. وبهذا الفوز يكون العرب قد خرجوا بإحدى جوائز مهرجان برلين
رغم الغياب الفعلي للسينما العربية.
كاتب وناقد سينمائي مصري |