المرأة في مواجهة التطرف والبكاء لا يفيد
أمير العمري
"بابيشا"
فيلم جزائري للمخرجة مونيا مدور يغالي في الانتصار للنسوية بمهرجان كان
السينمائي.
ضمن تظاهرة “نظرة ما” في مهرجان كان السينمائي الـ72 عرض
فيلم “بابيشا” أول الأعمال الروائية الطويلة للمخرجة مونيا مدور، وهو أحد
فيلمين ينتميان للجزائر، والثاني “أبوليلى” الذي يعرض في تظاهرة “أسبوع
النقاد” وهو أيضا أول أفلام مخرجه أمين سيدي بومدين.
كان (فرنسا) –
“بابيشا”
Papicha
في الواقع فيلم فرنسي لمخرجة جزائرية (جميع عناصره من الإنتاج إلى التصوير
والموسيقى والمونتاج والصوت والأزياء.. الخ عناصر فرنسية)، وفيه تعكس مونيا
مدور نظرة “نسائية” (فيمنست) غاضبة تركز على خصوصية وضع المرأة في مجتمع
ذكوري تعلو فيه سلطة الرجل الذي يستخدم الدين الإسلامي لتبرير استبعاد
المرأة وتطويعها بل واضطهادها.
وأول ما يمكن أن نلمحه بوضوح في هذا الفيلم هيمنة اللغة
الفرنسية على الحوار ربما لتأكيد هوية الفيلم “الفرنسية” إرضاء لتوجهات
الإنتاج، مع تهميش اللغة العربية وجعلها تنحصر في ما تنطق به شخصيات
المتطرفين الإسلاميين ودعاة العنف.
وهنا نلحظ التأكيد المقصود على أن اللغة العربية هي لغة
للصلاة والأذان والخطاب الإسلامي عموما وليست لغة عصرية تصلح للتخاطب
اليومي، وبطلة الفيلم الشابة “نجمة” (التي يطلقون عليها “بابيشا”) لا تنطق
بجملة واحدة من اللغة العربية الجزائرية الدارجة، بل تلتصق بالفرنسية
باستثناء بعض الكلمات الصغيرة العابرة التي سرعان ما تمزجها بالفرنسية.
والعنصر الثاني الواضح في الفيلم والذي يؤدي إلى الكثير من
الخلل في الصورة، غلبة اللقطات الكبيرة القريبة (كلوز آب) للوجوه على مشاهد
الفيلم بأسره، وقد يكون السبب الرغبة في تجسيد الواقع الخانق الذي تعيشه
الشخصيات داخل أطر ضيقة، لكن الإفراط الشديد في استخدام اللقطة الكبيرة
يتجاوز ذلك كثيرا ليصبح لعبة شكلانية بالكاميرا، تعيق كثيرا تجسيد جانب
أساسي كان مطلوبا بشدة في هذا الفيلم تحديدا، أي المكان وعلاقة الشخصيات
بالمكان، فصورة الجزائر وأماكن الأحداث الجزائرية شبه غائبة عن الفيلم بشكل
فادح. فمن الممكن أن تكون أحداثه في أي مكان، ولا شيء من الناحية البصرية
يقدم لنا الجزائر إلاّ من خلال لقطة عابرة لإحدى حارات حي القصبة، ثم قيام
الفتيات اللاتي يجتمعن معا على شاطئ البحر برفع العلم الجزائري فجأة،
والهتاف “فيفا ألجيري” أي “تحيا الجزائر”!
غياب الإحساس بالمكان
الإحساس بما يحدث في الجزائر في تلك الفترة من التسعينات،
أو زمن “العشرية السوداء” ضعيف للغاية ومحدود، ويقتصر على ما يبثه الراديو
من أنباء أو ما نشهده في مشهد واحد لإزالة آثار أحد التفجيرات، أو مقتل
شقيقة البطلة في مشهد عبثي دون أي تمهيد من أجل تحقيق الصدمة.
ومعظم مشاهد الفيلم داخلية، إذ يمضي وقت طويل من الفيلم قبل
أن ندرك حقيقة المكان الذي تقيم فيه الفتيات بسبب الاستغناء تماما عن
اللقطات التأسيسية والاعتماد على الكاميرا التي تتحرك في عصبية من خلال
لقطات “الكلوز آب”.
جميع شخصيات الرجال في الفيلم إما أوغاد وإما متطرفون
يرغبون في فرض الحجاب على الفتيات بالقوة
وبوجه عام يعبر الفيلم عن العشرية السوداء في الجزائر بشكل
سطحي تشوبه السذاجة، وتبدو المخرجة مدفوعة بفكرة مسبقة تريد فرضها على
الفيلم فرضا وهي أن المرأة أقوى من الرجل، وأكثر رغبة في التحرر بينما
الرجل بطبعه إقطاعي، خاضع، تقليدي، متعصب، قمعي.
ولكن هناك إشارات سريعة عابرة لتعصب نسائي من جانب مجموعة
معينة تحاول فرض غطاء الرأس بالقوة، ولكن دون أن نعرف سبب مثل هذا التباين،
فهل السبب يرجع إلى الطبقة أم إلى التعليم أم إلى علم السيكولوجي!
بطلة الفيلم نجمة، هي طالبة جامعية تدرس اللغة الفرنسية مع
مجموعة من زميلاتها وتقيم معهنّ في السكن الجامعي، وترتبط بعلاقة خاصة مع
صديقتها “وسيلة”.
امرأة متحررة
نجمة فتاة متحررة عصرية منطلقة، تمتلك من المال ما يتيح لها
رشوة حارس السكن بانتظام لكي يسمح لها بالخروج مع صديقتها للسهر في الخارج
والعودة في وقت متأخر من الليل، وهي تذهب مع وسيلة ذات ليلة إلى أحد
النوادي الليلية بغرض اللهو والمرح والتحرر من الحياة المغلقة التي تفرضها
السيدة الفرنسية التي تدير المكان.
وخارج المكان ليلا، تلتقيان بشابين: أولهما يقول إنه يدرس
العمارة وهو الذي تعجب به نجمة، والثاني يقول إنه يمارس التجارة الحرة
وتعجب به وسيلة بل وتعلن أنها وقعت في غرامه من أول نظرة، والاثنتان تحلمان
بالزواج من هذين الشابين وهي فكرة سطحية تجعل الفيلم يفتقد للإقناع.
فتحرر الفتاتين وخاصة بابيشا ذات الشخصية القوية، يتناقض مع
الوقوع في الحب هكذا بكل بساطة، كما أن الفيلم لا يهتم بتصوير نمو العلاقة
بأي شكل، ثم نفاجأ من خلال الحوار، أن الشاب الذي تحبه بابيشا خاضع لقيادة
أمه، وأنه يعتزم الهجرة إلى فرنسا فرارا من واقع الجزائر على العكس من نجمة
التي تتمسك بضرورة البقاء والتصدي لما يحدث، خاصة بعد أن تموت شقيقتها ضحية
التطرف.
أما شخصية صديقتها وسيلة، فهي من أضعف شخصيات الفيلم، ففي
البداية نراها تستميت من أجل الحصول على تأشيرة للذهاب إلى كندا، ثم ترتبط
بهذا الشاب الذي ستفاجأ بأنه اتخذ جانب التطرف الإسلامي.
نجمة أيضا بارعة في تصميم الملابس التي تبيعها للفتيات
وكذلك لأحد التجار، كما تشتري بعض مستلزماتها من تاجر في حي القصبة سرعان
ما سيتجه شأن -سائر الرجال في الفيلم- إلى التطرف الإسلامي. وتجعل المخرجة
-التي كتبت سيناريو فيلمها- فتاة من بين جماعة السكن الجامعي تدعى “سميرة”
الوحيدة التي ترتدي ما يعرف بـ”الزي الإسلامي”، ثم تقع ضحية لرجل يغرر بها
وتحمل منه، ثم تخلع الحجاب وتقرر الاحتفاظ بالجنين تأكيدا على التحاقها
بباقي الفتيات المتمردات تحت قيادة “نجمة-بابيشا”.
أما المشاجرة التي تقع بين نجمة وزميلتها وسيلة، فهي غير
مقنعة وتبدو خارج السياق، فلم يبد من وسيلة أصلا ما يشير إلى احتمال خضوعها
للتشدد الإسلامي، خاصة أننا لم نشاهد أي ملمح من ملامح العلاقة التي ربطتها
بالشاب الذي أصبح يطالبها فجأة بارتداء الملابس المحتشمة.
سطوة ذكورية
صورة الجزائر وأماكن الأحداث الجزائرية شبه غائبة عن الفيلم
بشكل فادح، فمن الممكن أن تكون أحداثه في أي مكان
جميع شخصيات الرجال في الفيلم إما أوغاد مثل حارس السكن
الذي يحاول ابتزاز نجمة ثم اغتصابها بالقوة، وإما متطرفون يرغبون في فرض
الحجاب على الفتيات بالقوة، ويتكرر كثيرا مشهد تعليق لافتات تحث الفتيات
على ارتداء الحجاب في الجامعة، ثم يقول الفيلم أيضا إن اغتيال “ليندا”
-شقيقة نجمة- كان نتيجة عدم ارتدائها الحجاب، حيث تطلق عليها فتاة متشددة
الرصاص ثم تهرب في حين أنها تترك نجمة نفسها دون أن تتعرض لها.
ويتخذ موضوع الحجاب واللغة العربية في الفيلم أبعادا تتفق
مع المنظور الفرنسي للتطرف الإسلامي.
وتأكيدا لفكرة أن اللغة العربية هي لغة متخلفة رجعية ترتبط
بالدين، نرى في أكثر من مرة هجوم مجموعة من فتيات الجماعة الإسلامية على
نجمة وزميلاتها وتهديدهنّ وترديد هتافات متشنجة ضد اللغة الفرنسية والدفاع
عن “لغة القرآن”.
وتستخدم نجمة “الحايك” وهو الزي التقليدي للمرأة الجزائرية،
يفترض أن يغطي جسدها ورأسها، وتتوصل إلى تصميمات جديدة له بحيث يعطي معنى
عكس المقصود منه، أي إظهار الأنوثة بدلا من إخفائها، ثم تخطّط نجمة مع
زميلاتها لعمل عرض أزياء في الجامعة، إمعانا في تحدي الجماعة الإسلامية.
وهو استخدام رمزي لجسد المرأة في الفيلم لإبراز الرغبة في
التحرر، لكنها تنتهي عمليا إلى تقديم عرض هزيل مع تصميمات تفتقد للجمال
للحايك، وهذا بالطبع رأي شخصي لكاتب المقال.
رؤية سطحية
مشكلة الفيلم أنه يعرض بعض المشاهد المتفرقة التي قد تكون
مستمدة من بعض الوقائع التي استمعت إليها المخرجة هنا وهناك، ولكن دون أن
يتوفر لهذه الأحداث أو الوقائع، إن جاز التعبير أصلا، أساس درامي متين يسمح
باستخدامها في الفيلم، وهي تنتقل بين المواقف المختلفة التي تمر بها نجمة
وزميلاتها، وعندما لا تجد شيئا يطوّر الموضوع تصوّر الفتيات في وصلات من
الرقص والغناء.
ويتم التعبير عن “الصراع″ بين نجمة والواقع الذي تعانده دون
أن نراه بشكل واقعي واضح، من خلال الحوار المتصل الذي لا يكاد يتوقف، وتركز
الكاميرا في لقطات قريبة على وجه البطلة الشابة لينا الخضري (في دور
نجمة-بابيشا) التي لا شك أنها تتمتع بالحيوية والقدرة على التعبير والحركة،
لكن المشكلة أن شخصيتها في الفيلم سطحية.
ليس من واجب الناقد أن يفرض على المخرج شكلا أو أسلوبا
معينا لفيلمه، فالتجريب حق مشروع لأي مخرج، وهو حر في اختيار أسلوبه الخاص،
ومن الممكن تصوير فيلم عن “العشرية السوداء” في الجزائر داخل غرفة واحدة
وباستخدام ممثل واحد والاستعانة بشاشة تلفزيون وأحاديث التليفون، ولكن يجب
أن يكون الفيلم في النهاية، مقنعا ومشبعا لموضوعه سينمائيا، وهو بكل أسف ما
يغيب عن هذه التجربة الأولى لمخرجته.
كاتب وناقد سينمائي مصري |