كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

خالد محمود يكتب:

«حياة خفية».. نموذج للضمير السينمائي في «مهرجان كان»

رسالة كان ــ خالد محمود:

كان السينمائي الدولي

الدورة الثانية والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

المخرج الكبير تيرانس ماليك يبهر الجميع بفيلم عن فرانز شتاتر الذى قال «لا» لهتلر ويكشف تواطؤ الكنيسة فى قتل الأبرياء

القصص الإنسانية للحرب العالمية تفرض نفسها على صناع السينما الكبار وتدعو من جديد للتفكير فى إهدار البراءة فى ساحات المعركة 

الفيلم يتطلب من المشاهد جهدا بصريا وفكريا لمتابعته.. وأداء مبهر لبطل يستحق التقدير

لا تزال القصص الإنسانية للحرب العالمية تفرض نفسها على صناع السينما الكبار، ومنهم المخرج والكاتب الكبير والرائع والموهوب تيرانس ماليك الذى شارك فى المسابقة الرسمية للمهرجان بفيلمه الجديد «حياة خفية» A Hidden Life.

الذى يروى القصة الحقيقية لفرانز جاجر شتاتر، النمساوى الذى فرض عليه ضميره رفض المشاركة فى تدريبات عسكرية للمشاركة فى الحرب العالمية الثانية عندما استدعاه جيش هتلر للتدريبات، ورفض أن يقسم ولاءه لهتلر، أو لدعم المجهود الحربى بأى شكل من الأشكال، ودفع الثمن حياته عن طيب خاطر لموقفه ضد النازيين، الذين أظهرهم المخرج أشرارا قساة القلب، وكانت البداية عندما رفض فرانز أداء التحية الشهيرة لهتلر فى الطابور العسكرى، لينقل إلى السجن ويواجه أشد أنواع التعذيب.

عندما ترى النازيين أشرارا، فنادرا ما تكون هناك حاجة ماسة لتفسير معارضة أى شخص لهم.. فقط هناك نبض وسلوك إنسانى لعدم الوقوع فى ذلك الطرف المعادى للحياة، تلك هى الصورة البراقة التى قدمها المخرج على اتساعها فى سياق درامى محير، ويطرح تساؤلات طوال الوقت داخل المشاهد الذى يلمس المصير المظلم لبطلنا، فأحيانا تشعر أن قراره بالرفض يبدو خطأ لتجنب نهاية بالفناء، وأنه ربما ينجو ويعود سالما لأسرته، وأحيانا تنحاز لموقفه وتنتهج مبدأه إذا كنت كارها للانضمام لصفوف طغاة.

يبدأ الفيلم بمشهد استهلالى قوى يظهر فيه شريط الأخبار بالأبيض والأسود فى ذلك الوقت يصعد الفوهرر محييا الشعب ويسير نحو الحرب، ثم يستقر الفيلم فى منطقة رائعة فى شمال النمسا؛ حيث يعيش فرانز وزوجته «فاليرى باشنر» وطفلتاه وأمه والجميع يعمل يوميا بالزراعة والحصاد، فى جزء من جبال الألب وكم كانت الحياة هادئة بصورة كلاسيكية للحقول ونمط الحياة والتى رسمها ماليك بصحبة كاميرا مدير التصوير يورج، وذات صباح وفى موسم الحصاد تستلم الأسرة خطاب استدعاء فرانز لأول مرة من قبل الرايخ للتدريب العسكرى، فى عام 1940، وهنا تبدأ الأمور فى التعقد، ويبدى فرانز مخاوفه لقس المدينة «توبياس موريتى» عندما يذهب إليه طلبا للمساعدة، ليكتشف أن الكنيسة التى يحترمها أصبحت متواطئة فى جريمة «قتل الأبرياء» بعد أن يحذره القس بشدة من أنه قد يطلق عليه النار للاعتراض، ويقول له: «تضحياتك لن تفيد أحدا»، ويجادل فرانز القس، «إذا أعطانا الله الإرادة الحرة، فنحن مسئولون عما نفعله».

فرانز هو الرافض الوحيد لتلك المسألة، ويظل فى حالة صمت دون أن يخبر عائلته بنواياه، ويأخذه. العسكر، فى مشهد وداع رائع؛ حيث تمسك زوجته بيده وهو داخل قطار الترحيلات وتجرى مع القطار برصيف المحطة، فهى تدرك أن حياتها ستنقلب رأسا على عقب برحيله، وفى أول طابور يرفض أداء التحية العسكرية، ويلقى به فى السجن، ويحققوا معه ولم ينطق أو يغير موقفه تجاه الحرب والخدمة العسكرية حتى عندما علم أن هذه جريمة يعاقب عليها بالإعدام، وعلى مدى ثلاث ساعات بين شد وجذب لم يمنحه ماليك الفرصة لشرح تفكيره فى نظرية الرفض، بل وجعله صامتا معظم الوقت فى نهج وسرد سينمائى يخص مخرجنا نفسه، وكانت أنفاس المشاهدين فى انتظار لحظة حوار يعبر فيها فرانز لماذا يرفض، حتى عندما أتت زوجته فى محاولة من المسئولين العسكر إقناعه بتبرير موقفه. أو تغييره، لم يتكلم، لتدرك زوجته المصير ولم تضغط عليه فهى تحبه ولا تريد كسر مشاعره وجرح مبدأه وقراره.

وقد أدركنا سلوك فرانز شتاتر الحقيقى من وازع دينى وأخلاقى لرفضه الانضمام إلى فريق هتلر. وكذلك تردده الحاد فى مناقشة الأمر مع زوجته وعائلته، فقط أظهر اضطراباته الداخلية وشعوره بالوحدة. وهو فى السجن ونبذ الآخرين لزوجته. فى القرية.

فى كثير من اللحظات شعرنا أننا أمام فيلم ميلودراما صامت فى بنائه، وكأننا فى مواجهة قصة صراع داخلى مكثف، وبحلول عام 1943، كان لدى الرايخ ما يكفى من عناد الرجل وتم نقله إلى سجن عسكرى؛ حيث تنتظره المقصلة. ونرى فى مشهد صعب وقاسٍ وبعد الحكم بالإعدام يصور ماليك كيف يتم قطع الرءوس؛ حيث يقوم النازيون بتنظيف آلة القتل والأرضية من دماء من تم ليتم النداء على التالى، وكان الدور على فرانز جاجير شتاتر الذى أعلن البابا بنديكتوس أنه شهيد.

نحن هنا مرة أخرى فى مهرجان كان السينمائى؛ حيث يقدم تيرانس ماليك أفضل فيلم له منذ «شجرة الحياة»، طارحا. أسئلة صعبة حول الإيمان الشخصى فى عالم ضل طريقه بتلك الملحمة الدرامية كلغة ضمير سينمائى، فى فيلم حياة خفية لا توجد ساحات قتال ــ فقط حقول القمح ــ لا توجد أهوال فى معسكرات الاعتقال، ولا توجد غارات مثيرة فى منتصف الليل. لكننا لا نخطئ فى أن هذا فيلم حرب. إن المعركة التى تظهر هنا هى معركة داخلية بين مسيحى وضميره. العودة المفعمة بالحيوية من أحد مؤلفى السينما الكبار، تلك مسألة تثبت حق النزاهة الشخصية على الاشتراكية الوطنية، مع التركيز على القصة الحقيقية لرفض المزارع النمساوى فرانز ياجر شتاتر لأدولف هتلر ورفضه الخدمة فى ما يراه حربا غير عادلة.

يبدو ذلك وكأنه لوحة جمالية أكثر قوة من أحد المخرجين الذين يمكن أن تشعر بأن أحاسيسهم فى بعض الأحيان وكأنها محاكاة ساخرة لنفسه إذا وضع فى موقف البطل، دون التقليل من ملايين الأرواح التى فقدت خلال الحرب العالمية الثانية، فماليك يقدم دعوى لإعادة التفكير فى مخاطر هذا الصراع ــ أصداء يصعب تجاهلها فى السياسة المعاصرة ــ أو بعبارة أخرى فى مصير روح رجل واحد فى الساحة رفض ونبذ وسجن وأعدم فى النهاية بسبب قناعاته، وهو ما نجح فى أدائه القوى والعميق الممثل النمساوى أوجست ديها الذى كان يستحق أيضا جائزة التمثيل لكنها ذهبت لانطونيو بانديراس.

الفيلم الذى يشبه السيرة الذاتية يعيد ماليك إلى عالم السرد الخطى الأكثر تقليدية، لنماذج من حياة بشر، ويمكن اعتبارها استمرارا للمواضيع التى أثيرت فى عام 1998 مثلما. جاء بفيلمه المدهش فى التفكير «الخط الأحمر الرفيع»، والتى تناول ايضا اسئلة وجودية أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث ركز ماليك على مدى عدم ملاءمة مجموعة من المشاة الأمريكيين لدور القتال، مختلطا بمونولوجياتهم الداخلية ووجوههم الحائرة ومصيرهم وسط المعركة فى إشادة مأساوية بإهدار البراءة التى كانت فى الحرب. حتى وان كان فى «حياة خفية» صور القرار الاستباقى الذى يتخذه جندى واحد محتمل بعدم الخضوع لسفك الدماء.

ماليك الذى كتب السيناريو ايضا قدم اطول افلامه «٣ ساعات» تم تصويره فى عام 2016، استغرق عامين ونصف العام لاستكمال مونتاجه. وجاءت النتيجة مبهرة، سواء على الصعيد البصرى أو على مستوى الرؤية الإخراجية. فقد انطلق ممن تلك القصة الواقعية القاسية وعلى خلفية هذه القصة، اتخذ المخرج من الريف النمساوى، الذى منه هذا الجندى، معادلا موضوعيا لقيم الخير والتسامح، التى يعتقد بأنها راسخة بالسليقة فى الطبع البشرى، وأن الحضارة الغربية هى التى شوهت هذا الطبع وزرعت فيه بذور الشر. وهى الفكرة التى تشكل لازمة فى أعماله كافة، وبشكل أخص فى رائعتيه «حصاد السماء» و«شجرة الحياة».

ومع العلم أن الفيلم طويل (أكثر من 3 ساعات) وشاق للغاية، إذ يتطلب من المشاهد جهدا بصريا وفكريا، إلا أن الجمهور فى كان وقف فى طوابير طويلة لمتابعة كل عروض الفيلم، كما حظى بحفاوة نقدية كبيرة.

 

الشروق المصرية في

29.05.2019

 
 
 
 
 

"بارازيت" المُسعَّف في كانّ: بونغ جون هو يطلق صفّارة الانذار

كانّ - هوفيك حبشيان

المصدر: "النهار"

فاز المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون هو "السعفة الذهب" عن فيلمه الجميل "بارازيت" السبت الماضي في مهرجان كانّ السينمائي الثاني والسبعين (١٤ - ٢٥ الجاري)، وهو فوز مستحق وإن لم يكن الفيلم الوحيد أهلاً به. العمل أغوى الجمهور والنقّاد منذ لحظة عرضه الأول بعد اسبوع على افتتاح المهرجان، وخلق حالة من الاجماع حوله، في حين ان أفلاماً كثيرة انقسمت الآراء في شأنها، حد تضاربها أحياناً. هذه أول "سعفة" ينالها مخرج كوري في المهرجان السينمائي الأكبر في العالم، على رغم ان السينما الكورية كانت دائمة الحضور في كانّ، مع سينمائيين نالوا فيه جوائز رفيعة من مثل إيم كوان تك أو بارك تشان ووك.

نافس بونغ جون هو بعضاً من أهم معلّمي السينما الحديثة، من أمثال ترنس ماليك وبدرو ألمودوفار وكوانتن تارانتينو وعبد اللطيف كشيش، وكلّ هؤلاء لم يحالفهم الحظ مع لجنة تحكيم المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليث إينياريتو التي اتجهت خياراتها إلى أفلام ذات مضمون إجتماعي وخطاب سياسي يُلتقَط من بين السطور، أفلام تعالج قضايا شاملة، بعيداً من أزمة الفرد. أفلام عن مهمّشين ومسحوقين وباحثين عن موطئ قدم لهم في العالم. اللافت ان هذه هي السنة الثانية على التوالي، تُسند فيها "السعفة" إلى فيلم آسيوي عن المنسيين في المجتمع، فـ"سارقو المتاجر" للياباني هيروكازو كوري إيدا الفائز العام الماضي، كان عن هؤلاء أيضاً، ويصوّر هو الآخر عائلة فقيرة تحاول تدبير أمورها عبر السرقة. وهذا إن دل على شيء فعلى ان النظم الاجتماعية تختلف بين الدول لكن المصائب الفردية والأسرية متشابهة.

بونغ جون هو البالغ من العمر ٤٩ عاماً، دخل الاخراج في عمر الثلاثين. له سبعة أفلام، "ذكريات قاتل" (٢٠٠٣) و"أم" (٢٠٠٩) من بين أكثرها شهرةً. لا مبالغة في اعتباره أحد رواد الموجة الكورية الجديدة. رئيس كوريا مون جاي إن، وجّه إليه تحية على “تويتر” بعد فوزه، معتبراً إياه واحداً من أهم المخرجين في العالم. حشد إعلامي كبير كان في انتظاره في مطار إينشون لدى عودته من كانّ.

يقدّم بونغ جون هو في "بارازيت" خليطاً غريباً من الأصناف السينمائية يسير إلى خواتيمه بإيقاع جهنمي يدوم ساعتين وربع الساعة، مفجّراً لحظات ضحك وتشويق ومتعة عند المتلقي. الحكاية تتمحور على عائلة كي تك، التي يعاني أفرادها من البطالة، فنراهم يتابعون نمط عيش جيرانهم الأغنياء من عائلة بارك. عندما يضع ابن كي تك رجله في بيت بارك لإعطاء دروس خصوصية بالانكليزية، ستحدث أشياء تخرج عن السيطرة.

يضع المخرج الكوري كاميراه في سيول المعاصرة من أجل فيلم يغلب عليه الطابع الاجتماعي المقنّع، يروي صعوبة العيش والصراع الطبقي بلا كلام مباشر عنهما، ولكن مواربةً، حيث ان الفقراء لا يملكون سوى سرقة الأثرياء. ولكن من الظلم اختزال الفيلم بهذا، اذ انه يضعنا أمام مواقف عدة يمتحن فيها أخلاقية الجمهور قبل ان يدين هذا أو ذاك. لا يبلغ في أي لحظة من اللحظات مستوى الدرس الممل والديداكتية التي بلغها الأخوان داردن في جديدهما على سبيل المثل، بل يبقى على طول الخط "كوميديا اجتماعية سوداء"، اذا صح اعتباره كذلك. الا ان خطابه، في الختام، يصل إلى المشاهد بلا أي فلترة.

أفراد هذه العائلة عيونهم على حياة الرفاهية ويحاولون عيشها بالاستعانة. لكن الفيلم يتخطاها من أجل تفكيك شامل للمجتمع الكوري المعاصر. في يد مخرج آخر، كان الفيلم سينزلق سريعاً نحو رواية أخرى عن الصراع الطبقي (صوَّره في فيلمين سابقين له)، الا ان المخرج الكوري لديه عاداته في الارتقاء بالمضمون، خصوصاً في النحو الذي يعالج فيه نبرة الفيلم، والتطورات المتلاحقة التي قد تتيح للمُشاعد العبور السريع جداً من حالة نفسية إلى اخرى.

خلط الجانرات السينمائية في "بارازيت" يُدرَّس. قفزات بارعة جداً من الدراما الأسرية إلى الهجاء السياسي فالثريللر والكوميديا السوداء ففيلم الكارثة.هذا كله يوفّره سيناريو محبوك بشكل شديد الابتكار يفتح أمام الفيلم أفقاً واسعاً. الا ان المعالجة السينمائية تبقى دائماً في خدمة المضمون ولا تتحوّل في أي لحظة من اللحظات عبئاً واستعراضاً، بل تساند أيضاً خطاب المخرج عن الهرمية الاجتماعية. ولكن ليست هذه حدود المخرج، اذ ان هناك دائماً جداراً يحاول هدمه واسقاطه، لنجد أنفسنا في فضاء جديد.

خلافاً لزميله كوري إيدا، نظرة التعاطف الملقاة على الشخصيات ليست شرطاً من شروط سينماه، وإن لم يكن الفيلم ضدهم بالمطلق. يوثّق بونغ جون هو الطفيلية بشيء من الخضوع للأمر الواقع والكثير من الغضب المنضبط. يطلق صفارة الانذار. يعلم جيداً ان الوقت لم يحن بعد للخوف والهروب، لكنه يحذّر ناسه من ان المجرور إن طاف فسيغرق الجميع في الخراء، أولهم الفقراء

 

####

ستالون في كانّ: درس في العفوية ومعرفة حدود الذات

كانّ - هوفيك حبشيان

المصدر: "النهار"

وصل سيلفستر ستالون إلى مهرجان كانّ السينمائي (١٤ - ٢٥ الجاري)، مرتدياً قميص كارو ومنتعلاً حذاء كاوبوي. أخذ حدث استضافته في المهرجان طابعاً تكريمياً: عرض مشاهد من جزء "رامبو" الأخير الذي سيخرج في أيلول المقبل، اضافةً إلى الجزء الأول منه، فلقاء مع الجمهور أداره ديدييه علوش.

 اللقاء الحاشد كان الأهم. اذ اكتشفنا وجهاً آخر للرجل الذي مثّل طوال حياته بعضلاته. وجدنا شخصاً يعلم انه ليس نابغة، وهذا أجمل ما فيه. فنّان قدماه على الأرض على الرغم من شهرته الواسعة. أيقونة لا تملك ذرة ادعاء وغرور رغم الـ"أوسكار" وملايين الإيرادات في شبّاك التذاكر.

تحدّث سلاي عن سيرته المهنية مذ دخل السينما قبل أربعين عاماً (هو اليوم في الثانية والسبعين) بعفوية وبساطة وأحياناً بسخرية من الذات. بدايةً، سأله علوش عن التيمة التي تنطوي عليها أفلامه، أي الصمود، فكان ردّه: “هكذا هي الطبعية البشرية. حضارات انقرضت ثم عادت. لذلك، أنا مع النضال، وعدم قبول الخسارة أياً تكن، واذا حصل لا بد من بناء الذات مجدداً”.

كشف ستالون انه أُعجِب بستيف ريفز في دور هرقل، “واحد من أسوأ الممثّلين”، وصاح “يا الهي” عندما رأى جسده المنتفخ وهو لا يزال صبياً. عرف حينها ان مستقبله هنا. فبدأ يشتغل على جسده. كلّ شيء انطلق من هنا. تحدّث كذلك عن صعوبة النطق التي كان يعاني منها عندما بدأ في السينما، ذلك انه تعرض لحادثة عند ولادته. عندما كان يمثّل في اعلانات تجارية، لم يكن المخرجون يفهمون ما يقوله وفي أي لغة يتكلّم.

بتواضع يُحسد عليه، قال ستالون انه لا يميز نفسه عن أي شخص من الحاضرين في الصالة. “كلنا نعلم ماذا يعني خوف ووحدة وانتصار واخفاق، واذا تناولتَ هذه المواضيع، فسيجد الناس فيها أنفسهم. أما اذا كنتَ فوق الألم وفوق الخوف، فلا أحد سيكترث بك، فأنت لا تعود إنساناً في هذه الحالة. ان تكون إنساناً يعني ان تجري توازناً لكلّ الضعف الذي فيك لتحويله قوة. هكذا هي الحياة؛ تعتقد انك قوي، ثم بعد لحظة يصلك إتصال يغير مجرى حياتك إلى الأبد”.

كان لا بد من ان يميل الحوار صوب أشهر سلسلتين سينمائيتين صنعتا مجده: “روكي” و”رامبو”. عن الثانية قال انها تتعاطى مع الجانب المظلم للطبيعة البشرية التي يتعايش معها للأسف كثر من الناس. أما الأولى فهي أكثر تفاؤلاً في نظره، اذ ان روكي يعي انه ليس إنساناً مميزاً، فيحاول ان يكونه.

قال ان "روكي" على الورق كان “فشلاً مضموناً”. فهناك ٣٠٠ فيلم عن الملاكمة، و٢٩٩ منها لم تنجح. لكن شيئاً ما حصل في حالة “روكي”. الفيلم أُنجز في ٢٥ يوماً وكلّف أقل من مليون دولار. لكنه مسّ شيئاً ما من خلال حكاية رجل وحيد يلتقي إمرأة، فيولد مجدداً. "لم أتوقف عن التوضيح أنه ليس فيلماً عن الملاكمة، فالملاكمة مجرد مهنة يزاولها، كان يمكن ان يصلّح الدراجات، لكن الملاكمة هي ميتافور هنا. وصادف خروج الفيلم في العام ١٩٧٦ مع ذكرى ٢٠٠ عام على تأسيس أميركا. وخرجت أفلام سوداوية جداً في تلك المرحلة، مثل “تاكسي درايفر” و”شبكة” و”كلّ رجال الرئيس”. أنا كنت ساذجاً فصوّرتُ فيلماً متفائلاً. حالفني الحظ ان الناس كانوا يبحثون عن التغيير".

روى سلاي انه لم يكن يعلم ماذا يفعل خلال تصوير "روكي". الكلّ عمل بلا مقابل والملابس التي كان يرتديها الممثّلين كانت ملابسهم. الفنّ يأتي أحياناً من حيث لا نعلم، أكّد الممثّل الذي كنّا نشاهد أفلامه على شرائط فيديو خلال الثمانينات في بيروت. “لم يكن لدينا حتى مدير تصوير جيد. كلّ شيء كان منتهى السوء. لهذا أردد دائماً انه لا يمكن ان تعلم من أين يأتي الفنّ أو النجاح، ذلك ان مغامرة روكي كان فشلها مضموناً. وعندما أُنجز، لم يُعجب المموّلين، فرفضوا توزيعه، ثم بعد إلحاح، وافقوا ان يتم عرضه في “درايف إن”. أصلاً، لم يرغبوا فيّ كممثّل، كانوا ليفضّلو عليّ كانغورو حتى”.

دعا ستالون الجمهور إلى ان يصدّقه انه كان “لا أحد” قبل إنجاز “روكي”. كان يعمل في مرأب، ولكن حياته تغيرت فجأة. كلّ ما احتاجه للنجاج هو فكرة جيدة واحدة، مقابل مئات الأفكار السيئة التي خطرت في باله. شدد كثيراً على فكرة ان الفشل يجعل الإنسان أحياناً أكثر ذكاءً، في حين يجعله النجاح أكثر حماقةً في بعض الأحيان، لاعتقاده انه لم يعد يحتاج إلى ان يتعلم.

في شأن الأجزاء الأخرى لـ”روكي” أو “رامبو”، تساءل ستالون لماذا نتقبّل المسلسلات التي يستمر بعضها لعشر سنين، ولا نتقبّل فكرة ان تكون هناك أجزاء أخرى لفيلم، وخصوصاً اذا كان الجزء الأول يتحدّث عن شخصية في مقتبل عمرها.

عن تورطه في إخراج الجزء الثاني من “روكي”، قال ستالون انه اضطر إلى ان يتولاه بنفسه بعدما رفض طلب المخرج جون أفيلدسن في جعل روكي سكّيراً وفاسداً. لكن الإخراج عنده أمر صعب للغاية يمنعه من النوم في فراشه.

السيناريو نفسه تكرر عندما أراد إنجاز “رامبو”، فلا أحد كان رغب في تمويله. يقول ستالون انه لو نقل الشخصية كما هي في الرواية، أي بكلّ وحشيتها التي تدفعها إلى قتل الجميع بمن فيهم النساء والأطفال، لأضحى الفيلم “فكرة سيئة”، ولكنه ودّ تعديل تلك الصورة لروكي وازالة وحشيته. “قلتُ لمَ لا نجعله رجلاً محطم القلب يعود إلى أميركا التي هي بمثابة أمه، فتنبذه…”.

لا يخفي سلاي حقيقة انه كان محدوداً كممثّل، على مستوى المظهر. “في الأكتورز ستوديو، يؤمنون بأن على الممثّل ان يكون متغيراً، هذه نظرية جميلة ولكنها غير صحيحة. توجد أدوار محددة أستطيع ان أضطلع بها، وغيري كذلك. داستن هوفمان لا يستطيع ان يكون رامبو وأنا لا يمكنني ان أكون توتسي. لذلك، ركّزت في أفلامي على الميثولوجيا التي لطالما أحببتها. اليوم أجد ان الإنسان ضد نفسه والسيستم. حاولتُ البقاء في هذا المجال وعدم الخروج منه، لأن هناك آخرين يستطيعون القيام بأشياء أخرى أفضل ممّا أفعله. وكلّ مرة ابتعدتُ عمّا أجيد صناعته تعرضتُ للفشل فعدتُ إلى حيث أنتمي”.

في شأن الجوائز كالـ”أوسكار” وغيرها، قال انه لا يؤمن بالتنافس بين الممثّلين، الا اذا كان جميع المرشّحين يضطلعون بدور واحد، فيمكن حينها دراسة مَن الذي مثّل بشكل أفضل.

بالنسبة إلى ستالون، لا توجد أزمة إلهام، فبمجرد ان يتصفّح الجريدة، قد يخرج بأربع أفكار، ذلك ان “الدراما الإنسانية في كلّ مكان”.

 

النهار اللبنانية في

29.05.2019

 
 
 
 
 

«مكتوب، حبي: أنترمتزو» لعبد اللطيف كشيش…

عيون تتأمل أجساد النساء

نسرين سيد أحمد

كان ـ «القدس العربي»:عين تتمهل، تتأمل الجسد الفتي الناضج، تدنو منه، ثم تبتعد قليلا لتعود وتتأمله مجددا، عين تعانق تفاصيل هذه الأجساد وترغبها وتصور ما فيها من رغبة، هكذا يمكن أن نصف فيلم المخرج التونسي الفرنسي عبد اللطيف كشيش «مكتوب، حبي: أنترميتزو»، الذي تنافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان في دورته الثانية والسبعين.

«مكتوب، حبي: أنترميتزو» فيلم متطلب، خاصة إن كانت تشاهده امرأة أو تكتب عنه امرأة، فهو فيلم يثير الكثير من التساؤلات، عن نظرة الرجل أولا لأجساد النساء، وعن نظرة الفنان لأجساد النساء. يكفي بداية أن نقول إن طيلة مدة الفيلم، التي تزيد على ثلاث ساعات، يشغلها تأمل لأجساد النساء، خاصة أردافهن المكتنزة، التي تتمايل وتهتز على وقع الموسيقى. يتبادر إلى الأذهان ونحن نشاهد الفيلم الكثير من الأسئلة: أتلك العين، وأقصد عين المخرج، عين متلصصة متطفلة؟ أم هل هي عين متغزلة فتنها جمال جسد المرأة؟ على مرّ التاريخ صوّر الرسامون والنحاتون جسد المرأة وتغزلوا في تفاصيله، فهل يكتب كشيش في هذا الفيلم قصيدة غزل صريح في جسد المرأة؟ كما في فيلم «المشاكسة الجميلة» لجاك ريفيت، يصبح جسد المرأة هو لوحة كشيش التي يكرس لرسم تفاصيله مدة فيلمه.

«أنترميتزو» هو الجزء الثاني من ثلاثية كشيش التي بدأها بفيلم «مكتوب حبي: الأغنية الأولى» (2017). يصحبنا كشيش في الجزء الأول في رحلة بزوغ وعي الصبي أمين (شاهين بومدين)، الذي يحمل الكثير من الشبه بكشيش، وإدراكه أن كتابة السيناريو والسينما هما أمله وهدفه وشغفه في الحياة. كان أمين في الجزء الأول الصبي الذين ينصت ويتأمل عن بعد، ينصت لأسرار النساء، خاصة أوفيلي (أوفيلي بو)، صديقة شقيقه، التي كانت تبثه شكواها وتقص عليه أسرارها. وفي الجزء الثاني يبقى أمين دوما في خلفية الحدث، صامتا متأملا، يتمعن في أجساد النساء، متعبدا في محراب جمالهن وأجسادهن المصقولة صقلا، ويمكننا القول إن عين أمين المتغزلة في صمت في أجساد النساء، هي عين كشيش ذاته.

يمكننا القول إن جسد المرأة يمثل هاجسا إبداعيا لكشيش، والتعبير عن هذا الجسد بكل ما يثيره من رغبات، وما يحمله من شهوات يشغل حيزا كبيرا في عالمه الإبداعي

إنها أواخر أيام الصيف والعطلة عام 1994، حيث تبدأ أحداث الفيلم في سبتمبر/أيلول من هذا العام في عقد التسعينيات، بعد انتهاء الجزء الأول بأشهر قليلة. تدور أحداث الفيلم في مدينة سيت الساحلية في الجنوب الفرنسي، حيث يتجمع الشباب والفتيات على الشاطئ، ومنه ينتقلون إلى المرقص ليمضوا ساعات الليل. على الشاطئ نلتقي شخصيات ألفناها من الجزء الأول مثل توني (سليم كشيوش) وأوفيلي، ونلتقي شخصيات جديدة مثل إيميه (روميو دو لاكور) والشابة الباريسية الجميلة ماري (ماري برنار)، التي جاءت لتمضي أياما على الشاطئ قبل العودة للدراسة. يصحبنا كشيش وسط الضحكات والأحاديث الصغيرة، والنظرات المشتعلة رغبة، ومحاولات التودد للوافدة الجديدة واستمالتها للسهر، وتستمر مشاهد الشاطئ نحو نصف ساعة، ثم تنتقل الأحداث إلى المرقص والملهى الليلي، ولا تغادره إلا لدقائق معدودات قبل نهاية الفيلم.

«أنترميتزو» فيلم عن فورة الشباب وأوجه وعن تأجج الرغبة في الأجساد الفتية، عن أجساد نساء يعلمن أنهن جميلات وأنهن مرغوبات.

هي عين الفنان المتأمل في ملهمته، وعين الرجل التي تتغزل في المرأة. نظرات مقتحمة في كثير من الأحيان، نظرات ربما تختزل المرأة في أنها جسد، ولكنها عين الشباب الذين يمورون رغبة واشتهاء. «أنترميتزو» أيضا فيلم تشغله الذكرى والذكريات ومحاولة إعادة خلق زمن ولى. يعود كشيش إلى ذكرياته وإلى بدايات شبابه، فهو الصامت المتأمل دوما، الذي يشتهي والذي يتأمل النساء كما يتأملهن رسام يوشك على رسمهن. يصور أجواء المرقص بدقة بالغة، بين أجساد متعرقة، ورؤوس مخمورة لعب بها الشراب أغنيات تسعينية نألفها جيدا. ثم يأتي مشهد مطول للجنس، مشهد يركز فيه كشيش بفيتيشية واضحة على أوفيلي بو، وعلى صراحة المشهد مع جسد المرأة لا نشهد صراحة مماثلة مع جسد الرجل، في هذا المشهد المطول أو في غيره من مشاهد الفيلم. أهو إغفال متعمد لجسد الرجل، من رجل غيري الميل الجنسي لا تعنيه أجساد الرجال؟ هل لا يجد كشيش جماليات ليصورها في جسد الرجل؟ الكثير من التساؤلات يطرحها هذا الغياب لجسد الرجل في فيلم يحتفي بالشباب والرغبة.

يمكننا القول إن جسد المرأة يمثل هاجسا إبداعيا لكشيش، والتعبير عن هذا الجسد بكل ما يثيره من رغبات، وما يحمله من شهوات يشغل حيزا كبيرا في عالمه الإبداعي. جسد المرأة حاضر بقوة في فيلمه المتوج بالسعفة الذهبية في كان «الأزرق أدفأ الألوان» (2013) وتأوده على وقع الموسيقى بالغ الحضور في «كسكسي بالبوري» (2007)، واستنكاره لاستغلاله وتعنيفه وتحوله لسلعة، واضح جلي في «فينوس السوداء» (2010). لا نعلم كيف ستكون تتمة ثلاثية «مكتوب»، ولكن ما نكاد أن نجزم به أن جسد المرأة سيكون حاضرا بكل نضجه وطزاجته في جزئها الثالث.

 

القدس العربي اللندنية في

29.05.2019

 
 
 
 
 

المدى في مهرجان كان السينمائي 72

نصٌ مُحكم.. إخراجٌ بارع وأداءٌ كورالي جميل..سعفة «كان» الذهبية تُرفرف في عاصمة كوريا الجنوبية

عرفان رشيد - مهرجان (كان) السينمائي الدولي

لو نظرنا إليه كمجرد نص سينمائي فقد كان يستحق جائزة السيناريو كونه كُتب بإحكام يدٍ وبصيرةٍ عارفتين؛ لو قيّمناه من وجهة النظر الإخراجية لاستحق السعفة الذهبية كأفضل إخراج؛ ولو نظرنا إلى أداء ممثلّيه لاستحقت مجموعة فريق الفيلم جائزة خاصة بالأداء الكورالي، فقد أدّى الفريق أدوار الفيلم كفرقة سيمفونية لم تنشزْ لديها أية نغمة؛

ولأن الفيلم ليس مجرّد واحدٍ من هذه الأشياء لوحده، بل هو كلٌ متكامل، فإنّ لجنة التحكيم الدولية، برئاسة الأوسكاري المكسيكي آليخاندرو غونزاليس إينيارّيتو، منحت شريط المخرج الكوري الجنوبي تونغ جون - هو «طفيليّون» جائزة السعفة الذهبية لأفضل فيلم معروض في مسابقة الدورة الثانية والسبعين من مهرجان «كان» السينمائي الدولي الذي التي اختُتمت مساء السبت الماضي

ومنذ اللحظة الأولى من الانتهاء من مشاهدة الفيلم في عرضه الصحفي الأول في الحادي والعشرين من أيار، والمهرجان لمّا يزالُ في منتصفه، فقد سادت القناعة بين الكثير من النقّاد بأنّ مخرج «طفيليون» وفريقه سيحملون معهم، في رحلة العودة إلى العاصمة الكورية الجنوبية سيئول، ذهب «كان» الذي يُشعّ من السعفة التي تُمثّل الحلم لدى الآلاف من صُنّاع السينما في العالم، تلك السعفة التي أعادت دار «شوپار» قبل بضع سنوات صياغتها واضعة في قاعدة جذعها قلباً نابضاً. وبذا وضع قرار لجنة االتحكيم الدولية سعفة «طفيليون» إلى جوار سعفة الياباني كوري إيدا هيروكازو الذي ناله في العام الماضي عن فيلمه الجميل "سُرّاق المتاجر". 

وقد أظهر تتالي الجائزة الأهم في مهرجان «كان» من الفيلم الياباني في العام الماضي، وإلى الفيلم الكوري الجنوبي في هذه السنة، حالة العافية المطلقة التي تسم الإنتاج الجنوب آسيوي منذ بضعة أعوام، على العكس من الكثير من الإنتاجات الأوروبية التي لم ترقَ إلى مستويات استحقاق الادراج ضمن برنامج المسابقة الرسمية في مهرجانٍ هام مثل مهرجان «كان»، ودون التوقّف عند أسماء الكثيرين من مخرجي هذه الأعمال، لا بدّ لنا أن نُشير بأن العديد من الأفلام التي أدرجها المدير الفني لمهرجان «كان» تييري فريمو في المسابقة الثانية «نظرةٌ ما»، كانت تستحق بالفعل أن تكون ضمن المسابقة الرسمية ومن بين هذه الأعمال نُشير إلى عملي المخرجتين العربيّتين مُنية مدّور « پاپيشا»، والمغربية مريم توزاني «آدم»، و«الحياة الخفيّة ليوريديس غوسمان» للبرازيلي (عربي الأصول) كريم عينوز، الذي فاز بالجائزة الأولى لهذه المسابقة، وإلى أعمالٍ أخرى غيرها.

ناس القاع وأثرياء العُلى

في شريط «طفيليون» ثمة ثلاثة نماذج بشرية مُمثّلة في ثلاث عوائل، تعيش إحداها (عائلة السيّد بارك الثريّة) التي تعيش في الأحياء العليا من المدينة؛ وتعيش الأخرى (عائلة كو-وو ووالديه وشقيقته) التي تعيش في قاع المدينة الغارقة بالفقر والعدم والتي ستُغرقها مياه الأمطار الوفيرة؛ أمّا العائلة الثالثة، فهي عائلة المُدبّرة السابقة لمنزل السيّد پارك، والتي تعيش برفقة زوجها المختفي عن وجه العدالة في اللامكان. ثلاثة عوائل وثلاثة عوالم تتعايش جنباً إلى جنب، كتفاً بكتف، لكنّ البون الذي يفصل بينها هو، في الواقع، أوسع وأعمق ممّا قد يبدو في الظاهر، وهو بونٌ سيغرق فيه الجميع دونما استثناء.

يعيش كو-وو في شقّة متواضعة للغاية تقع في الطابق ما دون مستوى الشارع العام، ويُشكّل اكتظاظ المكان الضيّق برفقة أبيه كي - تايك (ويؤدّيه ممثله المفضّل سونغ كانغ-هو) وأمّه تشونغ - سوك وشقيقته كي - جونغ مشكلة حياتيّة حقيقيّة، إلاّ أنّ الآصرة العائلية التي تربط فيما بين الأربعة هي أقوى من جميع الظروف القاسية. ويسْعى الجميع لتدبير لقمة العيش عبر أعمال وأشغال بسيطة لا تدرّ إلاّ القليل من المال والكثير من شروط التبعيّة إلى الآخرين. لا أفق واضحاً لدى الأربعة ولا برامج إستراتيجيّة، لكنّهم لا يخلون من الزهو ومن قدر من المهارة والمخاتلة والمراوغة والاحتيال.

وتبدو حياة هذه العائلة سادرةً على ذات المنوال لولا فرصة غير مُنتظرة يوّفّرها صديق لـ كي ـ وو، وذلك بالعمل كمعلّم لدروس إضافيّة للّغة الإنجليزية لإبنة عائلة ثريّة: الأجر المدفوع له عالٍ بشكلٍ جيّد، والفيلّا التي يسكنها السيد پارك، الذي يعمل مديراً في شركة للمعلوماتيّة، هو بمثابة جوهرة من جواهر العمارة.

ولمجرّد دخول كي-وو إلى منزل السيّد بارك يستنبط عملاً لشقيقته كي-يونغ، كخبيرة إجتماعية معنيّة بمشاكل الصبيين والأولاد النفسيّة، وكمعلّمة لتحفيز إبن العائلة الصغير في الرسم. ويعمل بجدٍ لأنّ يحلّ والده محل سائق العائللة ووالدته محلّ مدبّرة المنزل، وينتهي الأمر بأفراد العائلة الأربعة كعاملين في منزل السيّد بارك، لكن دون أن يعلم السيّد بارك أو زوجته بالآصرة العائلية التي تربط بين. تثق عائلة السيّد پارك بالعاملين الجدُد إلى درجة أنّها تترك لمدبّرة المنزل مفاتيح البيت وتذهب في سفرةٍ سياحية. تبدو الأوضاع قد استقرّت لعائلة كي وو، لكنّ تطوّراً غيرُ متوقّع يُعيد خلط الأوراق، إذْ تعود المُدبّرة السابقة لتستعيد شيئاً كانت قد نسيته في قبو المنزل. فما هو الشيء الذي نسيته هناك؟

وعلى عكس ما قد يوحي إليه عنوان هذا الفيلم ومواضيع أفلام هذا المخرج السابقة «مُهشّم الثلج» و«المُضيّف» و «أوكجا»، فلا وجود لأية حشرات أو كائنات خرافية وحالات من الخيال العلمي، فإن كلّ ما في فيلم «طفيليون» ينبض بالحياة الطبيعية ويتحدّث عن بشر اعتياديّين يعيشون عند حافة الواقع، يتقاذفهم التلفيق والكذب والانتحال. ثلاث عائلات تتقاطع مصائرها في مكانٍ ظاهره طبيعي وعمقه مُغلفٌ بالغموض والأسرار

لا تنأى أجواء فيلم ”الطفيليّون" الكوري، كثيراً الفيلم الياباني «سُرّاق المتاجر»، إذْ تدور احداث كلا الفيلمين حول المأساة البشرية التي تعيشها مجموعة من البشر في طل ظروف قاسية تدفع بها الى اجتراح الاحتيال كعنصر أساسي للتمكّن من مواساة العيش وسدّ الرمق، ويبلغ ذاك الاحتيال الى حدود قصوى تسيل بسببه دماءٌ كثيرة، جاعلاً من النزق والوقاحة البراغماتية عنصرين هامّين لتحقيق الاحتيال، وهما ما يجعلان ابطال القصّة يظهرون وكأنّهم مقتنعون سعداء بما فعلوا، ويتم استيعاب النتيجة المأسوية كقدرٍ مكتوب في أقدارهم ولا مناص منها أو حياد عنها، وإن ما ينبغي عليهم مواجهته لا بدّ أن يحدث، وقُضيَ الأمر.

 

المدى العراقية في

29.05.2019

 
 
 
 
 

بين قناعة لجان تحكيم وعدم رضا النقاد

جوائز مهرجان كان السينمائي

كاظم مرشد السلوم

لم يرضى الكثير من النقاد الذين تواجدوا في مهرجان كان السينمائي الدورة 72، بالجوائز التي منحت في ختامه لعدد من الافلام والمخرجين والممثلين ، النقاد الذي تابعوا وعلى مدى ايام المهرجان افلاما عدة ومن دول ومدارس سينمائية مختلفة، ابدوا عدم رضاهم عن الجوائز التي ذهبت الى بعض الافلام ، ومبدين رضاهم عن جوائز ذهبت لأفلام أخرى، هذا الامر يحدث في كل المهرجانات السينمائية ، سواء في كان ، او برلين ، او فينسيا او غيرها من المهرجانات ، والسبب يعود الى اختلاف رؤى النقاد ، عن رؤية اعضاء لجان التحكيم ، فالعديد من المهرجانات تضع اعتبارات اخرى غير الاعتبارات التي يراها النقاد لمنح هذا الفلم او ذاك جائزة ما .

بعض الافلام قد تحصل على جوائز ليس لقيمتها الفنية وللتقنية فقط ، بل للقضايا التي تطرحا ، التطرف، التحرش الجنسي ، العبودية وغيرها ،.

الجوائز التي لم ترضي النقاد هي ، كجائزة أفضل اخراج التي ذهبت للأخوين جان بيبر ولوك داردان عن فيلمهما «الشاب أحمد» الذي وصفته الصحف بفيلم متواضع لا يضيف اي شي جديد لا للسينما ولا لمشوار الاخوان داردان السينمائي، كذلك هو الحال مع فيلم «أتلانتيك» للمخرجة السنغالية ماتي ديوب، الذي فاز بالجائزة الكبرى، ثاني اهم جائزة بعد السعفة الذهبية، وهو مالم يتوقعه النقاد الذين ربما راهنوا على فيلم «حياة خفية» للمخرج الامريكي تيرينس مالك او فيلم المخرج البريطاني كين لوتش « نأسف ، لم تكن موجودا».

بينما يرى النقاد ان الجائزة المستحقة كانت لانتونيو بانديراس الذي نال على جائزة افضل ممثل لدوره في فيلم المخرج بيدرو المودوفار «ألم و مجد» ، وكذلك جائزة أفضل ممثلة البريطانية ايميلي بيتشام عن دورها في فيلم «جو الصغير».

وفي حين كان النقاد يتوقعون ان يفوز فلم « بورتريه لشابة من منار» للمخرجة الفرنسية سيلين سكياما بالسعفة الذهبية ـ او الجائزة الكبرى ، فاز الفلم بجائزة أفضل سيناريو ، وهو عكس ما كانوا يتوقعون.

المخرج و الممثل الفلسطيني ايليا سليمان الذي يعود لمهرجان كان بعد عشر سنوات مع فيلمه «لابد انها الجنة» فاز بجائزة النقاد « فيبرسي « وحصل كذلك على تنويه خاص ، ويبدو ان سليمان قد رضي بالجائزة كونها تمنح من قبل النقاد أنفسهم .

جائزة لجنة التحكيم جاءت مناصفة بين الفيلم البرازيلي «باكوراو» والفيلم الفرنسي «البؤساء»، فيما ذهبت جائزة السعفة الذهبية ولأول مرة في تاريخ المهرجان لفيلم كوري للمخرج جون هو بونغ بعنوان Parasite أو «طفيليات» الذي يستعرض و بأسلوب ساخر الصراع الطبقي من خلال قصة عائلتين من داخل المجتمع الكوري.

بونغ الذي نال على اكبر جائزة في المهرجان، شكر لجنة التحكيم قائلا انه لشرف عظيم له ان يفوز بالسعفة الذهبية من مهرجان كان، ولطالما شكلت السينما الفرنسية مصدر إلهام له شاكرا هنري جورج كلوزو وكلـود شابـرول.

انتهى المهرجان ووزعت جوائزه ، لكن الجدل توزيع الجوائز سيستمر الى الدورة القادة ، ليبدأ جدلا جديدا حول أفلام وجوائز جديدة.

 

الصباح الجديد العراقية في

29.05.2019

 
 
 
 
 

إيليا سليمان: الفكاهة كسلاح في وجه الاحتلال واليأس

حسام فهمي

تضل إحدى السائحات الأجنبيات طريقها في مدينة القدس، تذهب لأقرب شرطي إسرائيلي لتسأله عن الوصول لكنيسة «القبر المقدس» المعروف باسم «Holy Sepulchre»، يسألها الشرطي عن الطرق التي جربتها بالفعل، تجيبه أنها مشت يمينًا ويسارًا ولم تستطع الوصول، ينظران سويًا في الخريطة التي تحملها، وفي النهاية يخبرها أن لديه فكرة أفضل، يذهب لشاحنة الشرطة، ويخرج من بابها الخلفي رجل فلسطيني معتقل معصوب العينين، تسأله السائحة عن مكان الكنيسة، يقف الرجل للحظات ليستنشق الهواء ثم ينظر يمينًا ويسارًا وفي النهاية وبشكل مبهر يخبرها بطريقين ممكنين للوصول للكنيسة القديمة، تشكر السائحة الشرطي الإسرائيلي وترحل، فيما يعيد الشرطي سجينه الفلسطيني مكبل اليدين ومعصوب العينين إلى الشاحنة التي يتحفظ عليه بها.

هذا المشهد القصير من فيلم «يد إلهية – Divine Intervention» للمخرج الفلسطيني إيليا سليمان، يترك على وجهك ابتسامة عريضة حينما تشاهده للمرة الأولى، لكنك بعد لحظات تبدأ بالتفكر في معناه ورمزيته، لتدرك أنه يخبرك بالكثير والكثير عن هذه الأرض وشعبها، شعبها الذي يدرك أدق تفاصيلها حتى وهو مغمض العينين.

المتتبع لمسيرة المخرج والمؤلف «إيليا سليمان» سيجد وبلا شك أنه أمام أحد أكثر المخرجين تفردًا وأصالة في العالم العربي، ولا نبالغ إن قلنا إنه من بين أكثر المخرجين إثارة للاهتمام في العالم أجمع.

اليوم نحاول برفقتكم أن نحلل أسلوبه الإخراجي وخصائص عالمه السينمائي، هذا العالم الذي يضع المواطن الفلسطيني وحسه الساخر في مواجهة مباشرة مع الاحتلال، الغضب، واليأس.

شذرات من الحياة

تتميز أفلام إيليا سليمان بأنها لا تحمل حبكة واحدة أو خطًا سرديًا واحدًا، على العكس تمامًا يصحبنا الرجل في مشاهد تبدو منفصلة، لكنها في الحقيقة ترسم سويًا لوحة شديدة الواقعية والتكامل للحياة في فلسطين المحتلة.

ينتقل الرجل في أفلامه الروائية الثلاثة الأولى بين عرب الداخل، الفلسطينيين الذين فقدوا أرضهم في نكبة 1948، وبين رام الله والضفة حيث لا زالت المقاومة في صراع مستمر ضد الاحتلال.

في فيلمه الروائي الأول «اختفاء Chronicle of a disappearance» عام 1996، ينتهي الفيلم بمشهد نتابع فيه والد إيليا ووالدته وهما جالسان في صالة بيتهم بمدينة الناصرة المحتلة، يشاهدان التلفاز ثم يغلبهما النعاس، ينتهي بث التلفاز بصورة لعلم إسرائيل وموسيقى السلام الوطني الإسرائيلي، في تلك اللحظة تنتقل كاميرا إيليا للجانب المقابل لنرى الأب والأم، اللذين يمثلان الوطن الوحيد الذي يتشبث به إيليا وسط احتلال طمس كل معالم وطنه الضائع.

يصلنا هذا عن طريق مشاهد يقوم ببطولتها في كثير من الأحيان أشخاص حقيقيون، وهذا ملمح آخر مميز في أفلام إيليا، فالرجل يصور أباه وأمه وجيرانه وكل من يلقاه ويجده مثيرًا للاهتمام، والمذهل أنهم قادرون على الأداء والتعبير أمام الكاميرا بشكل جيد للغاية، وربما، كما يقول إيليا في أحد لقاءاته، إن الفلسطينيين موهوبون بالفطرة، هم غاضبون وتواقون للتمثيل للتعبير عن معاناتهم وحكاياتهم

الفكاهة كوسيلة لمقاومة الاحتلال

لا يمكننا تصنيف أفلام إيليا سليمان في نوع فيلمي محدد، لكن الكوميديا تبدو حاضرة بشكل غالب، كوميديا تنبع في الأساس كما قلنا من واقع الحياة في فلسطين المحتلة. حس إيليا سليمان الساخر يبدو للوهلة الأولى قريبًا من حس المخرج السويدي «روي أندرسون»، لكننا حينما ندقق النظر نجد اختلافًا كبيرًا، فبينما تحمل سخرية أندرسون طابعًا ما بعد حداثي تشاؤمي، يحمل في طياته فقدان أمل في الإنسانية بشكل عام، نجد على عكس ذلك أن سخرية إيليا وسيلة مستمرة للمقاومة ضد الفناء، ضد زوال الهوية، ضد المحتل وضد اليأس الذي يحاول الاحتلال فرضه كقدر.

في فيلم «الزمن الباقي – The Time That Remains» نشاهد رجلاً فلسطينيًا يفتح باب منزله لرمي أكياس القمامة، فإذا بفوهة دبابة إسرائيلية تلاحقه، تتبعه خطوة بخطوة، لا يلقي الرجل لها بالاً، يتخلص من الأكياس في صندوق القمامة ثم يستقبل مكالمة على هاتفه المحمول، فيكملها وهو يسير يمينًا ويسارًا، تستمر الفوهة في الدوران، حتى يعود الرجل إلى بيته، دون أن يلتفت لآلة القتل الإسرائيلية الضخمة ولو لمرة واحدة.

إيليا الحاضر الصامت

يظهر إيليا سليمان دائمًا في أفلامه بشكل صامت، طور الرجل أداءً فريدًا من نوعه منذ الظهور الأول في «اختفاء»، يشبهّه الكثيرون بأداء «باستر كيتون» مبدع عصر السينما الصامتة. المختلف هنا أن كل من حول إيليا يتحدث، يثرثر في كثير من الأحيان، حتى يظهر إيليا داخل الكادر، ليطغى بصمته على كل شيء.

يؤكد إيليا هنا على حقيقة أن ما يقال في حياتنا يتضاءل تمامًا مقارنة بما لا يقال، وتتضاعف هذه الحقيقة بشكل خاص في حالة المواطن الفلسطيني الذي أُنهك في مراحل المقاومة المسلحة، ثم المقاومة السياسية، وصولاً ليأس صامت يمكن الشعور به بمجرد تجوالك في بيوت وحواري الفلسطينيين.

تتجسد هذه المراحل الثلاثة بشكلها الأوضح في فيلم «الزمن الباقي» والذي يعاين فيه إيليا حكاية بداية دولة إسرائيل من خلال مذكرات والده «فؤاد سليمان»، الرجل الذي بدأ هو وجيله المقاومة المسلحة ضد عصابات الصهاينة في 1948، ثم تعرض للاعتقال والتعذيب، وانتقل عقب النكبة إلى الممانعة والمقاومة السياسية وتلقين ابنه حقيقة الاحتلال وداعميه، ثم انتهى به الحال صامتًا يائسًا ناقمًا على كل من حوله، ليطبع بنهايته تلك حاضر ابنه إيليا ومستقبله.

يظل إيليا صامتًا في أفلامه الروائية الثلاثة، مهما حدث، ولكنه يتحدث وبعد طول انتظار في فيلمه الرابع المعنون «لابد أنها الجنة It must be Heaven»، والفائز بجائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما (FIPRESCI) لأفضل فيلم في مهرجان كان السينمائي الدولي لعام 2019، بالإضافة لتنويه خاص من لجنة تحكيم المهرجان. ينطق إيليا بجملة واحدة من أربع كلمات، لن نذكرها لأن غالبية القراء بالتأكيد لم يشاهدوا الفيلم بعد، لكننا لا نبالغ إن قلنا إنّ حدث نطق إيليا لأول مرة في أفلامه يذكرنا بشكل كبير بالمرة الأولى التي نطق فيها صعلوك شارلي شابلن على الشاشة، في الحالتين هي كلمات مقاومة للفاشية ستظل خالدة عبر الزمن.

 

موقع "إضاءات" في

29.05.2019

 
 
 
 
 

كان 72- فيلم السعفة الذهبية: Parasite..

عن طفيليات بشرية وأماكن متصارعة

أحمد شوقي

يُعرّف القاموس الطفيلي Parasite بأنه "كائن حي يعيش في أو على كائن من نوع آخر هو العائل أو المضيف host، ويقوم الطفيلي بالاستفادة عبر استخلاص الغذاء على حساب العائل". هذا هو التفسير القاموسي، فماذا عن التفسير الفيلمي؟ ومن هو الطفيلي في فيلم المخرج الكوري الجنوبي بونج جون-هو الذي صعد بصانعه لأعلى قمة هرم السينما العالمية للعام الحالي، عبر حصد السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الثاني والسبعين؟

إذا كانت الطفيليات البيولوجية كائنات تابعة، ضارة في أغلب الأحوال، تعيش على هامش كائنات أرقى وتتغذى من خلالها، فإن جون-هو لا يضيع الكثير من الوقت قبل أن يُقدم إشارات أولية لتشابه حياة الأسرة التي يتابعها الفيلم مع الأوصاف السابقة. أب وأم وابن وابنة يعيشون في منزل فقير أقرب للجُحر، موقعه تحت الأرض، يرون من نافذته أقدام البشر، ولا يتورع بعض السكارى عن التبول على النافذة وأمام أعين سكانها الملحوظين بالكاد.

كارثة كبرى ينطلق بها الفيلم، أو هكذا تبدو على الأبطال الأربعة، كارثة تتلخص في تعديل كلمة سر شبكة الإنترنت الخاصة بالجيران والتي كانوا يستخدمونها خلسة، ولا يبدو من طريقة تعاملهم مع انقطاع الإنترنت المجاني أن الاشتراك بشكل قانوني وامتلاك خط إنترنت خاص بالأسرة هو احتمال وارد لدى أي من الأربعة

لا يوجد ما هو أوضح: هؤلاء كائنات طفيلية، تعيش دون خجل على فتات الآخرين. لكن هل يكفي تفسير مباشر وبديهي كهذا يأتي في الدقائق الأولى ليجعل من فيلم "طفيلي" عملًا جديرًا بهذا التقدير الهائل الذي ناله بمجرد عرضه في كان، وقبل حتى أن ينال جائزة المهرجان الكبرى؟ بالتأكيد لا يكفي، لكنه مجرد مدخل للحكاية الشيقة التي تقوم على تشبيه الأبطال بالطفيليات، بما يعنيه ذلك من نمط تصرفات ستتوالي لتؤكد هذا الوصف وترسم علاقة الأسرة الطفيلية بالأسرة العائلة.

عدوى واختراق وتوسع

الأمر يبدأ دائمًا بالعدوى، بالسماح للطفيلي بالدخول إلى عالم يبدو آمنًا وحصينًا. الابن يتمكن من إقناع ربة المنزل الثرية بأنه أفضل معلم انجليزية يمكن أن تعثر عليه ابنتها المراهقة، لا يتورع عن التزوير والكذب والتلاعب بالمشاعر من أجل إيجاد مكانه ثم أماكن ذويه داخل المنزل الكبير

خطة تلو الأخرى وخداع يلي الآخر يمارسها الأبطال حتى يحكموا السيطرة على جميع الوظائف المنزلية لدى الأسرة الثرية، دون أن يعرف ـ أو يشك ـ أصحاب المنزل أن موظفيهم هم أفراد أسرة يعودون في نهاية اليوم إلى البيت نفسه. حتى يبلغ الأبطال هدفهم بالسيطرة الطفيلية الكاملة على الحياة اليومية لمنزل العائل، وعند هذه اللحظة يبدأ الفيلم الحقيقي.

يُمسك جون-هو بنبرة بالغة الدقة تكاد تكون أذكى ما في فيلمه؛ لا يحب ولا يدين، أو يحب ويدين في الوقت ذاته. لا يمكنك مع ذكاء الأبطال الأربعة وخفة ظلهم إلا أن تنخرط في متابعة خطتهم وتجد نفسك راغبًا في نجاحها، دون أن يُبرر الفيلم ما يحدث أو يجعله نتيجة طبيعية للظروف. لا يُنكر "طفيلي" للحظة كونه فيلمًا، شخصياته أكبر من الواقع في قدراتها وأفعالها، وأحداثه جذابة لبنائها وتشويقها قبل أي قيمة أخرى ستُظهرها لاحقًا التقلبات التي ستطرأ على الحكاية، ليس فقط على مستوى الأحداث، وإنما على نوع الفيلم بشكل عام.

حرية الانتقال بين الأنواع

يبدأ "طفيلي" ويستمر لنصف زمنه تقريبًا ملتزمًا بقواعد فيلم الجريمة ذات الطابع الكوميدي؛ خطط الأبطال محكمة ومنطقية ويمكن تصديقها، لكنها مصاغة بكثير من خفة الظل التي تنتزع الضحكات، ومع سفر أصحاب المنزل إلى معسكر خارج المدينة وتركهم المنزل تحت تصرف موظفيهم الطفيليين، يتكسر تدريجًا تماسك الوضع الدرامي وينقلب طابع ونوع الفيلم أكثر من مرة.

لن نحرق تفاصيل الحكاية لكن اكتشاف كبير يتعلق بمنزل العائلة الثرية يُعمق الحكاية في لحظة، ويجعلها أكبر من مجرد صراع خفيف الظل بين أسرتين، أو حتى بين طبقتين اجتماعيتين. يتغير إيقاع الأحداث ويغدو النوع أكثر قتامة. تتقدم الدراما الاجتماعية والكوارث البيئية ثم السايكودراما لتحتل الصدارة، وتتحرك كرة جليد الفيلم باندفاع فتطرق في مسارها المفاجئ العديد من الأبواب والأفكار.

ومع تطوّر الحكاية وتشابك مواقف الشخصيات يبدأ المخرج في مسائلة النظام الطبقي في كوريا الجنوبية، دون قسوة تفرض أحكامًا قاطعة على العالم، وإنما هي مسائلة هادئة، لا ترى الوضع القائم مأزومًا قدر كونه صالحًا لاستقبال الأزمات إذا لم يتم الانتباه لأخطاء الطرفين: الطفيليون الساعون لامتصاص قوتهم من الغير بأي وسيلة، ومن يدفعونهم لليقين بأن ذلك هو السبيل الوحيد للعيش.

المكان بطلًا

فيلم بونج جون-هو ينشغل بأكثر ممتلكات البشر خصوصية: منازلهم، غرف نومهم، ملابسهم، دفاتر يومياتهم، وحتى رائحة أجسادهم. كلما ازداد الشيء التصاقًا بصاحبه كلما صعب تزييفه أو الانسلاخ عنه. يمكنك أن تدعي الانتماء لحيٍ راقٍ لكنك ستعود في نهاية اليوم لمنزلك الفقير، يمكنك التظاهر بسلوك يخالف جذورك لكنك لن تتخلص من رائحة عالمك الملتصقة بجلدك. وفي هذا الاقتران التي يُقسم البشر ـ بإرادتهم أو رغمًا عنها ـ تكمن قدرة الفيلم على التعبير بحساسية مفرطة عن قضية لطالما اقترن طرحها بسينما المباشرة والقبضات المرفوعة.

الاهتمام الكبير بالمساحات الخاصة يظهر بوضوح في تعامل الفيلم مع مواقع التصوير، وبالتحديد المكانين اللذين يحتضان أكثر من ثلاثة أرباع زمن الفيلم: منزلا الأسرتين. لا مجال هنا للصدفة أو التعامل مع المتاح، كل شيء مُصمَم بعناية في منزلين يمثلان شخصيتين فاعلتين في الدراما

منزل الأسرة الفقيرة المدفون تحت الأرض بنافذته المطلة على الأقدام، وسوء تصميمه الذي يجعل المرحاض هو أكثر نقاطه ارتفاعًا عن الأرض واقترابًا للحرية، ومنزل الأثرياء الأقرب للقصر، بالعلاقات الجغرافية بين المطبخ والحديقة وغرف النوم، وما يكشفه الفيلم لاحقًا من أسرار يخفيها تصميم المنزل.

"طفيلي" إذن حكاية أشخاص وأماكن؛ فالحكاية في جوهرها هي صراع بين هويات تُشكلها المنازل التي أتت منها كل شخصية. صراع رسمه بونج جون-هو بصورة شيقة، متماسكة نصًا وإخراجًا، ليمنحنا فيلمًا يصعب الاختلاف حوله. فيلم سيكفل هدنة مؤقتة للصراع الأزلي بين سينما النخبة وسينما الجمهور العريض، ففي كان 2019 ولحسن الحظ ذهبت السعفة الذهبية لفيلم قادر على إمتاع وإشباع الطرفين.

 

موقع "في الفن" في

30.05.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004