فيلم "آدم" للمخرجة مريم توزاني يتعلق موضوعه بشكل خاص
بعالم المرأة في مجتمع مغلق كالمجتمع المغربي، ويتميز بوضوح شخصياته ورؤيته.
سينما نسوية بامتياز، لكنها لاتنتمي إلى عالم الافكار التي
غالباً ما هيمنت على سينما المرأة في العالم العربي، أكانت من صنع مخرجة أو
من صنع مخرج يطرح قضايا المرأة وينتصر لها. سينما تنتمي إلى التجربة
الإنسانية، وفيلم يتمحور من حول تجربتين قاسيتين لامرأتين في الدار البيضاء
واحدة مات زوجها والاخرى حامل خارج الإطار الشرعي.
“آدم”
فيلم مغربي ثان ولكن هذه المرة في قسم “نظرة ما” الموازي للمسابقة في
مهرجان كان السينمائي. ويتنافس الفيلم على جوائز لجنة تحكيم هذه التظاهرة،
التي ترأسها المخرجة اللبنانية نادين لبكي، كما يتنافس على جائزة “الكاميرا
الذهبية” التي تمنح لأفضل عمل أول.
“آدم”
هو الفيلم الأول الذي تخرجه الممثلة المغربية مريم توزاني. كتب له
السيناريو وأنتجه زوجها المخرج المغربي المعروف نبيل عيوش. ولكن يمكن القول
إنه أيضا فيلم نسائي بامتياز، ليس فقط كونه من إخراج امرأة، بل لأن موضوعه
يتعلق بشكل خاص بعالم المرأة في مجتمع مغلق كالمجتمع المغربي. وهو يتميز
كثيرا رغم بساطته، عن الفيلم الجزائري “بابيشا” الذي سبق أن تناولته بالنقد
في هذه الصفحة، بسلاسة موضوعه ووضوح شخصياته ورؤيته، كما أنه ناطق بكامله
باللهجة العربية المغربية دون أي إقحام للفرنسية.
يدور الفيلم في الحي القديم (يسمونه عادة المدينة القديمة)
بمدينة الدار البيضاء. وهو الحي التقليدي المتزمت الذي يكفي أن تدخله امرأة
شابة حامل لا يعرفها أهل الحي، لكي تحاصرها النظرات الفضولية المتجهمة من
كل جانب، وهو ما يحدث لإحدى البطلتين. أما الموضوع فهو كيف يمكن للمرأة أن
تتحقق من دون الرجل، وأن تعتمد على نفسها في إدارة شؤون حياتها بعيدا عن
أسر الرجل ودون الاحتياج إليه وأن تواجه بمفردها وبكل شجاعة، عواقب
اختياراتها ونتائج أخطائها أيضا.
في الفيلم شخصيتان رئيسيتان لامرأتين: هناك أولا “سامية”
(نسرين إرادي) التي جاءت من الريف إلى المدينة وهي في مرحلة متقدمة من
الحمل نتيجة علاقة جنسية غير شرعية. الآن تبحث سميرة عن عمل يوفر لها نوعا
من الحياة الكريمة ولو مؤقتا إلى حين تستطيع أن تضع مولودها وتحل مشكلتها
على نحو أو آخر، فهي لا تستطيع العودة إلى أسرتها لكي تلد هناك. لكنها تطرق
جميع الأبواب دون جدوى، فلا أحد يريد أن يسند إليها عملا وهي في هذه الحالة
المتأخرة من الحمل، إلى أن تلتقي بالمرأة الثانية “عبلة” (لبنى عزبال)
الأرملة التي تقيم مع ابنتها “وردة” (8 سنوات) بعد وفاة زوجها، وهي تعتمد
على نفسها في تدبير شؤون الحياة من خلال بيع الشطائر التقليدية وأرغفة
الخبز التي تصنعها في المنزل وتعرضها للبيع عبر نافذة غرفة في منزلها
جعلتها بمثابة دكان، هذه النافذة تفتح على الشارع الذي يعج بالبشر.
الفيلم الأول الذي تخرجه الممثلة المغربية مريم توزاني وكتب
له السيناريو وأنتجه زوجها المخرج المغربي المعروف نبيل عيوش
في البداية تتردد عبلة كثيرا في قبول مساعدة سامية لها في
عملها، لكنها مع إلحاح ابنتها وردة التي تشعر بمعاناة واغتراب سامية، تقبل
بوجودها كضيفة بصفة مؤقتة، لكنها ترفض أي مساعدة منها سواء في الأعمال
المنزلية أو ما يتعلق بتجارتها. ولكن العلاقة بين المرأتين تنمو تدريجيا،
ثم توحدهما المشكلة التي ليس من الممكن أن تشعر بها حقا سوى امرأة خبرت
الحياة مثل عبلة، إلى أن يحدث التغيير في حياة المرأتين.
نعرف أن “عبلة” رفضت الزواج منذ وفاة زوجها. وهي تغطي
رأسها، ترفض أن تتزين، متجهمة لا يعرف الابتسام طريقا إلى وجهها رغم
ملامحها الجميلة، ترفض محاولات سليمان الذي ينقل لها الدقيق والسكر، التقرب
منها بل وتتحفظ على رغبته الارتباط بها. إنها تقمع أنوثتها. أما سامية فهي
تعاني الاكتئاب بسبب أزمتها التي لا تجد لها حلا، فهي لا تستطيع العودة إلى
قريتها، ولا تستطيع إجراء عملية إجهاض لا تملك أولا ثمنها كما لا يمكنها
المجازفة بمخاطرها مع ما بلغه حملها من مرحلة متأخرة كثيرا، لكنها في الوقت
نفسه لا تستطيع- كما تقول- أن تأتي إلى العالم بطفل يشقى نتيجة كونه طفلا
غير شرعي، أو “ابن زنا”، ينشأ في الفقر والفاقة والتخلف مجللا بالعار. لذلك
فهي تصر على ضرورة التخلص منه بتركه في ملجأ للأطفال الأيتام.
الفيلم ليس معنيا هنا بماضي سامية، من أين جاءت بالضبط،
وماذا وقع لها، ومن هو الرجل الذي عاشرها وحملت منه، ولماذا تخلى عنها وفي
أي ظروف.. الخ. فالرجل شبه غائب عن الفيلم عمدا فهذا ليس فيلم الرجل بل
المرأة أمام واقعها وأمام مشكلتها. وأزمة سامية هي التي تكشف أيضا أزمة
لبنى. فالمأزق مشترك.
تدريجيا ستنجح سامية في تعليم لبنى كيف تصنع المأكولات
الشهية التي تجعل تجارتها تزدهر، كما تقنعها بالتخلي عن قمع أنوثتها، وأن
تتفتح وتتزين وتقبل على الحياة. أما لبنى فتنجح وهي صاحبة تجربة الأمومة،
في إقناع سامية بالتمسك بأمومتها وعدم التخلي عن وليدها بعد أن تضعه بالفعل
في منزل لبنى. هنا تنتصر الأمومة على المحنة، وتنتصر الأنوثة على القهر
الاجتماعي. وينتهي الفيلم نهاية متفائلة في سياق طبيعي مقنع وبسيط.
يكمن جمال هذا الفيلم في بساطته، في سرده البسيط الواضح،
فشخصيات الفيلم لا تزيد عن خمس شخصيات فقط. والسيناريو يرصد التغيرات التي
تنشأ لدى الشخصيتين الرئيسيتين تدريجيا ومن خلال مواقف منسوجة جيدا، مع
براعة التعبير الدرامي عنها بفضل أداء الممثلتين اللتين قامتا بالدورين.
فيلم "آدم" يتنافس على جوائز لجنة تحكيم هذه التظاهرة، التي
ترأسها المخرجة اللبنانية نادين لبكي، كما يتنافس على جائزة “الكاميرا
الذهبية” التي تمنح لأفضل عمل أول
لا شك أن تجربة مريم توزاني (التي شاهدناها كممثلة في فيلم
نبيل عيوش الأخير “غزية”) في إخراج هذا الفيلم أتت بنتيجة جيدة، والسبب
الأساسي يرجع إلى توفر السيناريو المكتوب جيدا، الذي لا يلجأ إلى النمطية
أو القوالب العتيقة المعهودة في مثل هذا النوع من القصص السينمائية، كما
يرسم ملامح التطور الذي يطرأ على المرأتين بطريقة واقعية مقنعة بعيدة عن
المبالغات الميلودرامية التي تفسد عادة هذا النوع من الأفلام.
الفيلم يصور في بساطة ومن دون خطابات مباشرة، كيف يمكن أن
تجد المرأة عزوتها في كنف امرأة أخرى مثلها، وتصبح ابنة لبنى “وردة” مدعاة
لسرورها وتفاؤلها بل هي التي تفتح عيني سامية على ولع لبنى القديم بأغاني
المطربة وردة الجزائرية (التي أطلقت اسمها على ابنتها. وفي أحد المشاهد
الجميلة في الفيلم، تدير سامية شريطا لأغنية من أغاني وردة كانت القاسم
المشترك بين عبلة وزوجها الراحل. مما يستدعي حبها للحياة وذكرياتها الجميلة
مع الرجل الذي غادر الحياة.. تحاول سامية جذب عبلة من ذراعها وإقناعها
بمشاركتها الرقص على إيقاعات الأغنية. لكن عبلة تتشدد وتقاوم وترفض، ولكنها
تدريجيا تتخلى عن تشددها وتلين ويبدأ جسدها في الاستجابة لإيقاعات الأغنية.
لقد استردت رغبتها في الحياة والاستمتاع بما بها كما ينبغي لامرأة لم يذبل
شبابها بعد. وربما أيضا تقبل ما أبداه سليمان من رغبة في الزواج منها.
أما “آدم” فهو الاسم الذي تطلقه سامية على وليدها، بعد أن
تتخلى عن رفضها الاقتراب منه أو إرضاعه وتودع فكرة التخلص منه، فمشاعر
الأمومة تنتصر في النهاية. ولذلك تهدي مريم توزاني فيلمها الأول إلى المرأة
التي أنجبتها.. إلى أمها.
كاتب وناقد سينمائي مصري |