رحلات طرق وحياة تجمع بين أربعة أفلام عرضت في اليومين الأخيرين.
هناك «بين الجنة والأرض»، جديد المخرجة نجوى النجار في المسابقة الرسمية،
و«فتح أبواب السينما» لنزار عنداري، و«بيروت المحطة الأخيرة» لإيلي كمال،
و«صيف تشانجا» لفنغ زو. لكن الرحلات تختلف ما بين جغرافيا وتاريخ فلسطين في
الفيلم الأول، ومع شخصية سينمائية مرموقة، في الفيلم الثاني، ثم رحلة في
الضمير والذات والتاريخ الشخصي في الفيلم الثالث.
تصنع نجوى النجار أفلاماً لافتة للعين ومثيرة للاهتمام. هكذا كان حال
فيلميها الأولين «المر والرمان» (2009) و«عيون الحرامية» (2015)، هو الحال
ذاته في هذا الفيلم كذلك.
تاريخ قريب
جاء فيلمها الأول، ليفتح نافذة جديدة على موضوع غير مطروق فلسطينياً إلا في
أضيق النُطق، وهو أن هناك حياة عادية ملؤها الظروف العاطفية للفلسطينيين،
وتحكّم تلك العاطفة في اتجاهات النفس. لكن في طيّات ذلك، هناك نافذة أخرى
على مشهد لم يتم البحث فيه إلا قليلاً من قبل، وهو الحياة المسيحية داخل
فلسطين. فالحكاية تقع في البيئة المسيحية الفلسطينية، حيث تتزوّج بطلة
الفيلم من الشاب الذي تحبّه، لكنه ينتهي بعد أيام قليلة إلى السجن
الإسرائيلي، لأنه قاوم أفراد الجيش الإسرائيلي، الذي أراد الاستيلاء على
مزرعة الزيتون التي يملكها وعائلته. الوضع المستجد صعب على الزوجين
الشابّين. من ناحيتها تحبّه وتحب رقص الباليه الذي كانت تمارسه من قبل، ومن
ناحيته هو يحبّها، ويحب أيضاً كرامته التي تمنعه من توقيع التماس يؤمّن له
الخروج من سجنه في القريب العاجل. خلال ذلك، هناك أستاذ الرقص الفلسطيني،
الذي ينضم للفرقة، والذي تستدعي اهتمامه بطلة الفيلم، كما يستدعي هو
اهتمامها.
فيلمها الثاني جاء أفضل من بعض النواحي: تنسج عملاً جميلاً تبحث فيه عن
حياة سبّاك وخبير مواسير اسمه طارق (خالد أبو النجا). في مشاهد استرجاعية
نجده دخل الاعتقال الإسرائيلي بسبب نشاطاته المناوئة للاحتلال. حين خروجه
ينتقل من رام الله إلى نابلس باحثاً عن ابنته الصغيرة نور. في رام الله يجد
عملاً لدى نافذ فلسطيني (سهيل حداد) يملك مصنع خياطة تعمل فيه أرملة شابّة
(سعاد ماسي) تعني بفتاة صغيرة قد تكون ابنة طارق (التي تركها طفلة)،
والغالب أنها ليست كذلك. سيبقى السبّاك حائراً في وضع أكبر يشمل المجتمع
بأسره، وتتدخل فيه عوامل الاحتلال وظروفه، خصوصاً عندما تكشف المخرجة، في
الوقت المناسب، أن الرجل الذي يعمل بطل الفيلم لحسابه لديه علاقات مستترة
لتهريب الماء إلى المستوطنات الإسرائيلية.
مضامين خاصة
يعمل الفيلم الجديد على المنوال الفلسطيني ذاته، لناحية تعرّضه للحياة
الاجتماعية لزوجين عالقين بين رغبة الزوجة الطلاق وماضي الزوج المخفي. كذلك
بين وضعهما معاً ووضع الأراضي المحتلة والتعامل الرسمي للسلطات الإسرائيلية
معهما.
هي رحلة طريق تنتقل من الجزء الفلسطيني إلى داخل المناطق الإسرائيلية بحثاً
عن سبيل للطلاق بعد زواج دام خمس سنوات. تتهم سلمى (منى حوا) زوجها تامر
(فراس نصّار) بأنه كان أنانياً في تلك الفترة، يتصرّف كما لو لم يكن يعي
مسؤوليته حيالها، وإنه لم يمنحها حقها في الوجود كامرأة، إذ تشعر، عكس ذلك،
بأن وجودها تناقص حتى لم يعد.
على تلك الطريق هناك محطات، فالطلاق في مدينة الناصرة ليس سهلاً، لأن هناك
التباساً في هوية تامر، ما يفرض عليهما الانتقال من محطة توقف إلى أخرى.
يفقدان الطريق ثم يلتقيان بيهوديين فرنسيين يطلبان منهما نقلهما. يحاولان
الوصول إلى بيت الأب الذي ما عاد بيته، إذ يسكن فيه يهودي الآن. ينضم
إليهما شاب فلسطيني وتعرض الزوجة عليه أن يساعدهما في وجهتهما، وهذا كله
قابع في الساعة الأولى من الفيلم الذي سينتهي وقد اكتشف كل من الزوج وزوجته
نفسيهما في مدار عاطفي مزدوج. فوالد تامر الذي لا يعرف عنه الابن شيئاً،
كانت لديه أسباب كافية لكي يبقى لغزاً غامضاً وذكريات عاصفة في وجدان ابنه.
في الوقت الذي تضغط فيه المخرجة على نواحٍ مختلفة من المضامين الخاصة
والعامة، تفتقد إلى عمق المطروح، وأحياناً حسن معالجته. الفيلم ترفيهي،
وهذا ليس عيباً، بحد ذاته، إذا ما كان السكّر المستخدم لذلك معتدلاً. بعض
أهم المفارق غير مقنعة ودخيلة (المرأة الدرزية التي تعيش في القنيطرة مجهزة
ببعض الخطب المناسبة) وبعضها الآخر يقوم على صدفة اللقاء وسريع الولوج إلى
المشهد التالي.
«فتح
أبواب السينما» لنزار عنداري هو فيلم تسجيلي عن المخرج السوري محمد ملص،
الذي كلما ابتعد عن العمل كلما تحوّل إلى أيقونة تنشد نفض الغبار عنها،
وهذا الفيلم يفعل ذلك. إنتاج لبناني مدعوم من الإمارات يدور كاملاً عن ذلك
المخرج الذي قاوم النظام والتطرف معاً من دون أن يغادر دمشق التي يحب.
يتناول فيلم عنداري أفلام المخرج فيلماً وراء آخر مستنطقاً محمد ملص حول
ذكرياته عن كل فيلم، والسبب الذي دفعه لتحقيقها. يبدأ بحكاية المخرج مع أول
مرة دخل فيها صالة سينما في القنيطرة؛ حيث وُلد، ثم دراسته السينمائية في
موسكو، ثم إقدامه على تحقيق أفلامه القصيرة، قبل تحقيق فيلميه الروائيين
الطويلين «أحلام المدينة» و«الليل».
حين يتوقف المخرج عند رحلته لموسكو لدراسة السينما، نكتشف أمرين كانا
سيبقيان مخفيين لولا بوح محمد ملص بهما وهو يتحدث للكاميرا. الأمر الأول أن
مدرّسه أنطون مانيكِن سأله عند انتهاء دراسته «ماذا درّستك هنا؟»، قال له
ملص «السينما». رد عليه أستاذه قائلاً: «لا. درّستك كيف تخرج الأشياء التي
في داخلك».
الأمر الثاني عندما شارك الروائي صنع الله إبراهيم الشقة في موسكو، وقرأ
إحدى رواياته، وقرر تحويلها فيلم تخرّج وطلب من القاص تمثيل دور البطولة
فيه.
يسرد ملص كذلك تجربته مع المخرج يوسف شاهين، الذي جاء إلى لبنان ليصوّر بعض
مشاهد فيلم «القدر» (الذي تقع أحداثه في عصر الأندلس). أصر شاهين على أن
يمثل ملص في فيلمه. قبل المخرج السوري ذلك على مضض. بعد انتهاء التصوير،
وقبل عودة شاهين إلى مصر، همس شاهين في أذن ملص: «هل عاد شغف السينما إليك؟».
ورد ذلك بعد فيلمي ملص الروائيين، وبداية فترة من القحط، حيث لم يجد المخرج
ما يقوم بتحقيقه سوى أفلام تسجيلية. صحيح أنها كانت جيدة ومهمّة، إلا أنها
لم تكن سوى جزء من حلم المخرج. وهو الآن يعيش اغتراباً وبعداً عن النشاط
مشابهاً. يرنو لتحقيق فيلم جديد لكن السينما العربية تبدو مشغولة عنه.
فيلم بلا أشخاص
من إنتاج لبناني - إماراتي أيضاً «بيرو المحطة الأخيرة» لإيلي كمال. تسجيلي
حول موضوعين مرتبطين بالتاريخ: سكة الحديد المتوقفة عن العمل، وذلك من
زاوية تاريخ إنشائها وتصوير ما بقي من معالمها في بعض القرى الجبلية،
والحرب الأهلية اللبنانية التي يصاحب الحديث عنها الخط الأول، ولو أن
اللبناني يعرف ما يدلي به صوت المخرج وما توفره الأسطر المطبوعة من معلومات.
على صعيد ثالث، هناك ذاكرة المخرج التي تروي ما حدث له ولعائلته عندما
اضطرت عائلته إلى ترك القرية بسبب الحرب، وكيف سكن في الجزء الشرقي من
بيروت واكتشف الجزء الغربي من المدينة بعد انتهاء الحرب.
الصورة لدى المخرج أهم من الكلمات. ما يورده من كلمات لا يوفر جديداً لمن
يعلم، ولمن لا يعلم هي مجرد عبارات إيضاح لما هو غير مرتسم بالضرورة على
الشاشة. ما يجيده المخرج هو تصوير كائنات التاريخ والطبيعة والحاضر: الصدأ
الذي يعلو الآلات والمباني المتهالكة، كما الجبال والسهوب الخضراء والأماكن
البعيدة، وخلال ذلك لقطات للمدينة من فوق يستعرضها كما لو كانت قنوات
السيارات والبشر فيها مثل الماء الجاري.
يستخدم إيلي كمال الصوت بذكاء والصورة بدقة، ويصوّر كل شيء من دون شخص واحد.
فيلم فَنغ زو «صيف تشانغجا» يختلف عن كل هذه الرحلات على نحو كبير. هو في
الذات أكثر مما هو في الظاهر، وفي الماضي الذي لا يزال يعيش في الماضي
مقيداً حراك أصحابه.
يكتشف البعض يداً بشرية على شاطئ النهر. التحريان شو (لو يي) وزميل له (تشن
مينغاو) يهرعان للمكان، ويبدآن تحرياتهما. كل ما لديهما هو تلك اليد
المقطوعة، لكن اتصالاً من طبيبة تقول إنها حلمت بأن أخاها مات، وتم تقطيع
جثته، ورمي كل جزء منها في مكان ما، يساعد البوليس على ترميم القضية والبحث
عن باقي الجثة التي يجدانها في حقيبة مدفونة (حلمت الطبيبة بمكانها أيضاً)
ما عدا الرأس التي سيجدها التحري في النهاية، أو سيعتقد أنه وجدها.
بينما رحلة البحث عن السبب والحدث والقاتل والحقيقة تنضوي على جانب يستثمر
فيه المخرج الحكاية بمعالجة بوليسية هادئة، هناك رحلة تزداد وقعاً وأهمية
في داخل التحري الوحيد الذي يحاول الخروج من عزلته التي ارتاح فيها طويلاً.
لقد أثرت عليه حادثة انتحار صديقته، ويكتشف أن الطبيبة أثر عليها موت
ابنتها الطفلة، بسبب إغلاق شقيق الطبيبة (وهو صاحب الجثة) نوافذ السيارة
على الطفلة المتروكة في السيارة في جو حار. لم يتذكرها إلا بعد مرور ثماني
ساعات.
إذن في حياة كل منهما دراما كاملة، عنوانها فقدان من أحب، وهذا ما يجمع
بينهما، ويدفع بقليل من الرومانسية المستخدمة في الفيلم ضمن إطار أكبر من
الغاية ذاتها. فالعلاقة بينهما صعبة، لكون كل منهما منتمٍ إلى الماضي، لكن
حضور هذا الماضي الذي يحملانه هو الأساس في هذا الفيلم الذي يبتعد عن مجرد
كونه حكاية تحقيقات بوليسية.
كما الحال مع نزار عنداري وإيلي كمال: «صيف تشانغجا» هو الفيلم الأول
لمخرجه زو. وهو ينحاز لسينما التأمل في الواقع، لكنه لا يتأمل كثيراً على
نحو قد يغضب السلطات الصينية، رغم ذلك فإن غضبها وقع فلم تجز الرقابة عرض
الفيلم في البلاد، ولو أنها سمحت باشتراكه في قسم «نظرة خاصة» (خلال مهرجان
«كان» هذه السنة) وفي قسم مسابقة النقاد في مهرجان القاهرة من دون السماح
لصانعيه بالسفر مع الفيلم إلى أي من هذين المهرجانين.
هذا الموقف يبقى لغزاً، لكن اللغز الذي في الفيلم هو الذي ينمو دوماً. هناك
ذلك الشعور الآتي من رغبة المخرج دمج قصص الحياة العادية بظروفها غير
العادية والتعامل مع طبقات من المعالجات الشخصية والعامة. وجه الممثل الأول
لو يي مثل خريطة أرض كاشفة. تعابيره محدودة، لكن ما يرتسم على محياه إزاء
المواقف ملتحم بالشخصية التي لا تستطيع أن تفرح. |