بمجرد أن تدخل إلى 17 قصر النيل، ستجد نفسك تلقائيا تبحث عنه، تفتش عن ذلك
المثقف الواعي الذي ساهم في تشكيل وجدان أجيال مختلفة.. وفي اللحظة التي
تقع عيناك عليه، لن تستطيع سوى الابتسام، والشعور بالراحة والطمأنينة
المطلقة، فطالما هو هناك، كل شيء سيكون على ما يرام.
لم
يتغير إحساسي ولم تختلف تلك الحالة في كل تفاصيلها، منذ المرة الأولى التي
التقيت فيها الأستاذ صاحب الثقافة السينمائية الرفيعة، يوسف شريف رزق الله،
وحتى الآن، وبالطبع لا أنسى المرات القليلة التي لم أصادفه هناك، وبسبب هذا
كان مزاجي يتعكر وأشعر أن هناك شيئا غير مكتمل. فالأستاذ وصمام الأمان ليس
هنا، وكانت دائما الجملة التي لا أحبذ سماعها "الأستاذ كان هنا وغادر منذ
قليل".
قد
لا يعرف الناقد والمدير الفني لمهرجان القاهرة السينمائي، يوسف شريف رزق
الله أنه منذ أن بدأت العمل في مهنة الصحافة، يمثل لي - بالتأكيد للكثيرين
غيري- باب المعرفة والمتعة الفنية. هناك في قريتنا الصغيرة حيث نشأت كانت
برامجه السينمائية هي المتنفس الوحيد لنا والعين الخاصة التي نطل من خلالها
على هذا العالم السحري، في قري وبلدان تهدمت دور العرض بها، ولم يعد هناك
مكان للسينمات.
كانت برامجه التي يقوم بإعدادها أو تقديمها مثل (أوسكار) في 1980، و(تيلي
سينما) 1981 – 1995، و(ستار) 1986 – 1994، و(سينما
x
سينما)
1994 – 2004،
و(الفانوس السحري) 2008 – 2010، و(سينما رزق الله) 2008 – 2010، عالم مختلف
عن تفاصيل حياتنا اليومية.. نعرف من خلالها أهم الأفلام الحاصلة على جوائز،
وأسماء أهم النجوم، لذلك كان اليوم الأول الذي التقيت فيه وجها لوجه بحارس
البوابة الذي أدخلني هذا العالم السحري، يوما لا ينسى. ظللت أراقبه من بعيد
ولم أصدق بساطته، وتلقائيته، وتواضعه، وملامحه الهادئة، يصعب أن تراه
منفعلا في أي موقف.
تكررت لقاءاتنا وأبدا لم أنسَ المشاهد التي كان يجتمع فيها يوسف شريف رزق
الله بالمخرج المبدع محمد خان -أصدقاء عمر- حيث كانت لعبتيهما المفضلة في
السفر أو الجلسات لعبة الأفلام ليس بطريقتنا البسيطة، بل أفلام السينما
العالمية بمخرجيها وكتابها، ونجومها، ومديرين التصوير في بعض الأحيان.. كان
تحدياً مختلفاً، يثير حالة من البهجة والحماس في نفوس متابعي هذا المشهد،
خصوصا عندما كان ينضم إليهما أيضا الناقد اللبناني محمد رضا.
ورغم مرور السنوات يظل الناقد والمعلم يوسف شريف رزق الله من الشخصيات
الإنسانية النادرة في حياتنا، التي ساهمت ولا تزال في تشكل وعي ووجدان
أجيال مختلفة، فيما يتعلق بالتعامل مع الثقافة السينمائية.
يوسف شريف رزق الله هو نموذج يصعب تكراره.. يعمل بروح محارب.. لم يتوقف
يوما عن السفر إلى المهرجانات، وتسجيل اللقاءات، مهد الطريق للكثيرين في
مجال البرامج السينمائية ذات الرؤى، وناضل كثيرا لأجل مهرجان القاهرة
السينمائي، وعمل مع إدارات مختلفة وفي ظروف صعبة، وفي ظني أن رهانه دائما
كان العمل لأجل ولصالح هذا المهرجان العريق والذي يحتفل في دورته المقبلة
بالدورة الأربعين.
سيظل يوسف شريف رزق الله هو العلامة الأصيلة لمهرجان القاهرة السينمائي،
وفي ظني أن سر المعلم رزق الله يكمن في روح الطفل الذي لا يزال يملك نفس
الشغف والعشق لفن السينما منذ أن كان طفلا يذهب إلى السينما برفقة والده
ووالدته، وبدأ في سن الرابعة أو الخامسة عشرة يعي أن خلف هذه السينما
والأفلام صناعا منهم المخرج، ومن هنا كانت رحلة بحثه وتشكل وعيه، وبحث بدأب
عن كل مخرج وأفلامه، وساعده في ذلك أنه في هذه الفترة كانت تصدر في مصر
مجلة
Radio Monde
المختصة بالفنون مثل السينما والمسرح كما كانت تنشر برامج الإذاعة، وكان
الناقد سمير نصري يكتب في هذه المجلة عن السينما والأفلام باللغة الفرنسية.
كما كانت المجلة تنظم مسابقة أسبوعية عن السينما، وهي المسابقة التي فاز
فيها رزق الله بجائزة، عبارة عن زيارة إلى استوديو أثناء تصوير فيلم وكان
فيلم "أنا حرة" للمخرج صلاح أبو سيف، ومن وقتها زاد الشغف والولع بهذا
العالم السحري، والذي فتحه رزق الله على مصراعيه أمام كل عشاق السينما من
خلال لقاءات وكتابات وحوارات مميزة، ورصد لكواليس الأعمال السينمائية في
مصر والعالم.
يوسف شريف رزق الله دمت لنا معلما، وأحد المعلمين الكبار في حياتنا، من
خلال اختياراتك الفنية بمهرجان القاهرة السينمائي. |