على مدى أكثر من خمسة أعوام، خاطرت وعد الخطيب وزوجها حمزة
بحياتهما من أجل تصوير ما يحدث داخل مستشفى منكوبة في مدينة حلب السّورية.
لمّا استخدمَت وعد الخطيب هاتفها المحمول لتصوير أولى
التّظاهرات المناهضة للأسد في جامعتها في حلب، تهيّأ لها أنّ الثّورة
المتفتّحة آنذاك تعزيزاً من الاضطرابات الشّعبية الكاسحة في أنحاء الشّرق
الأوسط، ستكون بداية حقبة جديدة للسوريين. فالوصول إلى هذه المرحلة لم يكن
سهلاً في بلدٍ تُعاقَب معارضة النّظام فيه بالسّجن والضّرب حتى الموت. وبدا
الأمر وكأنّ سلطة الشّعب ستتمكّن أخيراً من إرخاء قبضة بشار الأسد على
الحكم وإسباغ الكرامة والحرية اللتين طالما تاق إليهما المواطن السّوري.
"كنا متفائلين ومؤمنين جداً بقدرتنا على التّغيير، ولا نعني
بذلك تغيير ملامح الحياة في سوريا وحسب، بل تغيير ملامح العالم ككلّ
والقيام بأمور رائعة أيضاً"، تُخبرني الخطيب فيما نجلس في غرفة طعامٍ مشرقة
وغائرة في المقرّ الرئيسي لـ"شبكة التلفزيون المستقلّة" (ITN)
في لندن. لكن لسوء الحظ، "جرت الرّياح بما لا تشتهي
السّفن"، تُضيف الخطيب بلوعة مَن عايش فظائع تفوق حدود تصوّرنا عنها.
أثناء نشأتها، حلمَت الخطيب بأن تُصبح صحافية. لكنّ أهلها
لفتوا نظرها إلى صعوبة القيام بمهام الوظيفة في بلدٍ كسوريا. فما كان منها
إلا أنّ تخلّت عن حلمها وتحوّلت لدراسة العلوم الاقتصادية والتّسويق. وفي
العام 2011، انضمّت إلى صفوف المتظاهرين لتُمسي بسرعة البرق نسخةً عن
المرأة الذي لطالما أرادت أن تكونها.
وعلى مدى الأعوام الخمسة المقبلة ومنذ اقتنائها آلة تصوير
احترافية، انكبّت على تصوير حياتها وحياة الأشخاص من حولها فيما يحاولون
بناء مجتمعٍ خارج عن طوع الحكومة شرق مدينة حلب التي يُسيطر عليها الثوّار
– بدلاً من الهروب بحثاً عن حياةٍ أفضل. وعندما حاصرت قوات النظام وحلفاؤه
الرّوس المنطقة وأحكموا قبضتهم عليها، خيّروهم بين الرّحيل والبقاء لتحمّل
العواقب.
وبالنّسبة إلى الخطيب وزوجها الطّبيب حمزة – مؤسّس "مستشفى
القدس" التي اتخذا منها محلّ إقامة لهما شرقي حلب – فقد اختارا الرّحيل إلى
المنفى وطلب اللجوء في المملكة المتحدة مع ابنتيهما البكر وطفلهما الثاني
الذي لم يكن مولوداً حينها.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2017، فازت الخطيب بـ"جائزة
"إيمي" العالمية عن التّقارير المصوّرة التي أعدّتها لبرنامج "أخبار القناة
الرابعة” البريطانية (Channel
4 News)
خلال فترة حصار حلب بين يونيو (حزيران) وديسمبر (كانون الأول) 2016. في ذلك
الوقت، كانت الخطيب قد بدأت العمل فعلاً على مشروعٍ جديد بالتعاون مع
إدوارد واتس، صانع الأفلام البريطاني الحائز على "جائزة إيمي" عن فيلمه
الوثائقي "الهروب من داعش" (Escape
from Isis).
وكانت "القناة الرابعة" قد دبّرت لقاء الاثنين في أعقاب
سؤال أحدهم للخطيب عمّا إذا كانت تمتلك تسجيلات أخرى غير معروضة وردّها
عليه بـ" طبعاً، كلّ هذا".
"هذا" الذي قصدتَه الخطيب في كلامها، عبارة عن كنزٍ دفينٍ
واستثنائي من المواد المُصوّرة على امتداد نصف عقد من الزّمن. في هذه
التّسجيلات، التقطت الخطيب التفاصيل اليومية الأوّلية للمواطنين العاديين
في زمن الحرب والنّزاع. فكانت عدستها الشّاهد الأمين على بطش نظام الأسد
وشركائه الروس من جهة، وصمود السوريين وكفاحهم من أجل البقاء من جهة أخرى.
في هذه التسجيلات، هناك مشاهد سفك الدّماء والموت والبؤس التي أمست السمة
الغالبة على الحياة اليومية في المستشفى، وهناك أيضاً مشاهد سعيدة كحفل
زفاف الخطيب من حمزة وانتقال الثنائي إلى منزلٍ جديد والأوقات التي
تقاسماها مع الأصدقاء ومزاح الناس مع بعضهم البعض وابتهاج الأطفال برسمهم
بقايا حافلة متفجّرة وكتابة حمزة رسالة حب لزوجته في الثلج ولحظة اكتشاف
الخطيب موضوع حملها بطفلتها البكر، سما.
فعلى اسم هذه الصغيرة التي أبصرت النّور خلال الحرب، سُمّي
"إلى سما"، الفيلم الوثائقي الأليم والمفجع عن كلّ ما سبق ذكره والذي يُعرض
حالياً في صالات السينما بعد حصده عدداً كبيراً من الجوائز، نذكر منها على
سبيل المثال لا الحصر: جائزة "العين الذّهبية" لأفضل فيلم وثائقي في
"مهرجان كان السّينمائي الدولي" هذا العام. لكن، بنظر الخطيب التي
ألتقيتُها مع حمزة للمرة الثانية بعد الحفل الفرنسي، ردود أفعال الناس إزاء
الفيلم وأحداثه هي أكثر النتائج مبعثاً للرضا.
"صحيح أنّ مهرجان كان كان محطةً بارزة وخطوة كبيرة في
مسارنا. لكننا شهدنا بعده الكثير من الأمور الجيدة. وما أثار مفاجأتنا حقاً
هو النظرة الموحّدة للفيلم وتشاطر الناس من مختلف البلدان والجنسيات
المشاعر نفسها إزاء ما رأت عيونهم من ويلات، قل الغضب العارم أو الحزن
العميق والرّغبة في التحرّك. وهذا، بالنسبة إليّ، أفضل جائزة يستحقّها
الفيلم الذي يهدف بشكلٍ أساسي إلى إحداث تغيير في حياة الأشخاص"، تقول
الخطيب.
فالعالم مكث مكتوف اليدين أمام نداءات الاستغاثة التي
أطلقها سكان حلب حينما كانوا تحت الحصار. والأمر نفسه يحدث حالياً مع إدلب
التي زحف إليها آلاف السوريين ملتمسين اللجوء. ويظهر أنّ كل يوم يمرّ يجلب
معه أخبار فظائع جديدة ويقضي على أمل كلّ مواطن سوري في العيش بسلام وأمان.
"حين كنّا في حلب، لم أُصدّق أنّ أحداً لم يرغب في القيام بأيّ عمل فعلي من
أجل إنقاذنا وإنقاذ بلادنا. والآن، لا أستطيع أن أصدّق أنّ الأمر يتكرر رغم
كلّ ما شاهده الناس (من خارج سوريا) وكلّ ما سمعوه من أخبار النازحين. ما
سبب ذلك يا ترى؟ ولمَ لا يُحرّك أحدٌ ساكناً؟"، تتساءل الخطيب.
وفي معرض حديثها، تُقرّ الخطيب وتعترف بأنّها تشعر "بالذنب
الكبير" لوجودها هنا بعكس كثيرين لا يزالون يُعانون الأمرين في سوريا.
ولهذا تسعى جاهدة لاستغلال فيلمها "إلى سما" لإقناع أصحاب السلطة والنّفوذ
بالتدخّل. أما حمزة، فيُسرّ من جهته أنّ زيارتهما لمنظمة الأمم المتحدة في
يوليو (تموز) الماضي أشعرتهما "بالعجز واليأس" كما العديد من الناشطين.
ومع هذا كلّه، يُعتبر فيلم "إلى سما" دليلاً دامغاً من قلب
الأحداث والمعارك في سوريا، وسلاحاً قوياً في الحرب على المعلومات المضللة
والحملات الدّعائية السّامة التي يُروّج لها النظام ومؤيّدوه. لذا لم تتردد
مديرة السّياسة في جمعيّة "أطباء لحقوق الإنسان"، سوزانا سيركين، بتسميته
في شهادتها أمام مجلس الأمن في 30 يوليو (تموز) الفائت، لدعم نقاشها عن
"التدمير المنهجي وواسع النطاق للمرافق الصحية ومقتل مئات الأطباء
والممرضين والصيادلة والمسعفين على يد النّظام السوري وحلفائه الرّوس."
لم يكن النزاع يوماً "حرباً مباشرة بين جيشين مختلفين
يتصارعان مع بعضهما البعض"، يشرح حمزة. "لطالما كان حرباً جارفة ضد كلّ من
يُريد منطقةً غير خاضعة لسيطرة الحكومة. ما يبغيه النّظام إذن هو كسر إرادة
الشعب وقدرته على الصمود؛ ولهذا، تراه يستهدف بشكلٍ أساسيّ المخابز
والمدارس والمستشفيات. هذه هي وسيلته المباشرة لإفهام الناس أن من المستحيل
عليهم العيش بعيداً عن حكم الأسد."
وفي الوقت الذي يدّعي فيه النّظام أنه يحارب الإرهابيين
وحسب، يأتي "إلى سما" ليُثبت العكس، تقول الخطيب. فتجربتها وتسجيلاتها
المصوّرة "دليل كبير على أنّ النّاس في أرض المعارك سوريّون، وليسوا أجانب
وإرهابيين أو داعش، حسب ادّعاء النّظام."
وعلى الرّغم من أنّها لا تنتمي إلى أيّ طرف من أطراف
النّزاع، عاشت الخطيب في ظلّ القصف والغارات الجوية وبين البراميل
المتفجّرة وتبادل إطلاق النيران، مدركةً أنها "قد تموت في أي لحظة".
وبواسطة آلتها للتصوير، سجّلت ما أمكنها من الأحداث، آملة -لكن غير واثقة
من- أن تبقى على قيد الحياة وتتمكّن من اتخاذ قرار بشأن ما صوّرته.
وإن كان "إلى سما" موجود اليوم، فوجوده بحدّ ذاته معجزة؛ إذ
منذ بداية الانتفاضة والأسد يُحاول السّيطرة على الأخبار من خلال تضييق
الخناق على الصحافيين والمزوّدين بآلات تصوير. "كنت العدو الأول للدولة"،
يقول صانع الأفلام السوري سايد البطل الذي فاز فيلمه الوثائقي "لسّه عم
تسجّل" بجائزة "أسبوع النّقّاد الدوليين" في "مهرجان فينيسيا السّينمائي"
عام 2018. "في البداية، كانت تصفيتنا بنظر النّظام أهمّ من تصفية أيّ أحد
آخر."
حاول النّظام كذلك طمس الحقيقة. فالخطيب تتذكّر وتروي في ما
يلي كيف قام التلفزيون الرّسمي بتغطية حادثة معيّنة كانت شهدتها بنفسها في
"جامعة حلب": "قبل ساعة واحدة فقط، تشهد بأمّ عينك تعرّض 50 طالباً
للاعتقال والضرب. ثم تعود إلى المنزل وتشاهد قناة (الدولة) الرّسمية،
وتتفاجأ بعدم ذكرها أياً ممّا حصل. ولما يُقابل صحافيّوها الناس في
الشّارع، يسألونهم: "هل حدث شيء ما اليوم؟" فيُجيبهم هؤلاء بـ"كلا، كل شيء
على ما يرام. لا بأس."
في البداية، كنّا نصوّر بالهواتف المحمولة. "تلك كانت
طريقتنا الوحيدة لنُقنع أنفسنا والنّاس بوجود خطب ما. فإما نكون مع أو ضد،
لكن أبداً على الحياد"، على حدّ تعبير الخطيب.
في مرحلةٍ ما في فيلمها، تعرض الخطيب مجموعة شنيعة من
المشاهد لجثثٍ انتُشلت من النهر وعُرضت في الحي للتعرّف عليها. كانت كلّها
مقيّدة ومعذّبة ومقتولة برصاصة في الرأس وقيل لنا إنّها تعود لأشخاصٍ
شوهدوا أحياء للمرة الأخيرة عند نقطة تفتيش حكومية.
وفي هذا السياق، لفتتُ نظر الخطيب إلى أنّ هذه المشاهد
بالذات لها قيمة خاصة لأنّها ستحول دون تكرار ما حصل عام 1982 لمّا أقدمت
القوّات التّابعة لوالد بشار الأسد، الرّئيس الرّاحل حافظ الأسد، على إخماد
ثورة في حماة بقتل 20 ألف شخص. حينها وفي غياب أدلّة تصويرية تُثبت ما حدث،
تمكّن النّظام من إسكات الأصوات التي اعتبرتها مذبحة، مكتفياً بوصفها
بـ"الحادثة".
"إنّها واحدة من الأسباب المهمة التي جعلتنا، نحن السوريين،
ندرك أهمية التصوير. ولأنّ جلّ ما نعرفه عن أحداث حماة يقتصر على ما رواه
لنا أهلنا. وحتى هؤلاء لا يعرفون ما جرى بدقة. فكّرنا في تصوير كل شيء حتى
يكون بمثابة دليل دامغ وإثبات راسخ. ومع ذلك، لا يزال هذا الأخير حتى اليوم
ينفي كلّ ما حدث ويحدث بطريقةٍ غبيّة"، تُعلّق الخطيب.
وحمزة يوافقها الرأي قائلاً: "عندما بدأت الثورة عام 2011،
فكّرنا أننا لسنا في حماة ولسنا في العام 1982. فنحن لدينا الآن وسائل
إعلام وهواتف محمولة وإنترنت وسنتمكّن من إطلاع العالم على كل ما يجري
حولنا. ولكن، للأسف، النتيجة هي هي،" يقول متنهداً.
والثّنائي وعد وحمزة لم يلتقيا قبل اندلاع الثورة؛ ولولا
الأحداث العنيفة التي جمعتهما لكان كلّ واحد منهما قد مشى في طريقه واتّبع
خططه المنفردة للعمل خارج سوريا. "بالنّسبة إلى معظم أبناء جيلنا، هذا هو
الحلم. فالواحد منّا لا يمكنه أن يبني لنفسه حلماً في بلدٍ محكومٍ من أسرة
واحدة،" يؤكّد حمزة.
وسوريا معروفة أينما كان في العالم بأنّها "سوريا الأسد"،
ومن غير المسموح لأحد حتى الأطفال أن ينسوا هذه الحقيقة وهوية القائد. ففي
المدرسة الابتدائية، يُلقّبون التلاميذ بالـ"أشبال" أيّ صغار الأسد. وفي
المدرسة الثانوية، يُلحقونهم تلقائياً بحزب البعث. وبعد الجامعة، لو أراد
أحدٌ منهم أن يعيش بسلام تحت راية النّظام، فسيكون عليه أن يأكل ويشرب
ويعمل من دون أن يتكلّم عن الحكومة، تستذكر الخطيب.
"كانت حياتنا أشبه بالحياة داخل مزرعة، صاحبها هي عائلة
الأسد ونحن حيواناتها،" تقول الخطيب. لقد سبق وسمعت هذا الوصف من قبل. هل
هذه فعلاً الطريقة التي يرى فيها السوريون أنفسهم؟ أسأل. "إنها ليست
الطريقة التي نرى فيها أنفسنا. هذا ما كان عليه وضعنا حقيقة"، تُجيب الخطيب
بإصرار.
وتتابع: مع إنطلاقة شرارة التظاهرات، "شعرتُ للمرة الأولى
أنني لم أعد أرغب في الرحيل. أردتُ البقاء لاعتقادي بأنّه أصبح لدينا فرصة.
وما لم نستغلّ هذه الفرصة الآن، سنخسرها للأبد. كان التحرك حينها الخيار
الأفضل من التزام الصمّت والبقاء تحت قبضة النظام للأبد".
وبطبيعة الحال، ردّ الأسد على التظاهرات بمستويات صادمة من
العنف، مُغرقاً سوريا في حالة من الفوضى الدّموية التي لا تزال مستمرة منذ
ثماني سنوات.
وفي مستشفى حمزة البدائية في شرق حلب، كانت الخطيب في
الأساس فرداً من أفراد مجموعة من "10 أصدقاء مقرّبين جداً جداً. كنّا
فتاتين وثمانية شبان نعيش معاً ونأكل معاً ونتشارك في كلّ شيء". وخلال
العام الأول من الحرب (2013-2014)، قُتل ثلاثة من المجموعة. لكنّ هذه
المأساة لم تُضعف الآخرين، بل على العكس قوّت عزيمتهم وزادتهم صلابةً.
وفيما كان النّظام ينشر الموت والرّعب بين الناس، كانت
الخطيب وحمزة يؤكدان على قيمة الحياة بوقوعهما في حب أحدهما الآخر. وما
"زاد الأمور تعقيداً،" تقول صانعة الأفلام، "أنّه كان متزوجاً من قبل.
ولكننا شعرنا بأننا نتشارك المصير نفسه وسنقوى ببعضنا."
كان من الممكن لهما أن يُغادرا حلب ويبدآ حياةً جديدة معاً
في مكانٍ آمن، لكنّ خسارتهما لأصدقائهما جعلتهما يشعران بأنهما وصلا إلى
"نقطة اللاعودة". "لو رحلنا، لبدا الأمر وكأنّ موتهم ذهب سدىً أو كأننا
نقول لهم "حسناً، نحن بخير وسنغادر،" يروي حمزة.
برأي الخطيب، الجزء الأسوأ والأكثر شناعةً هو معرفتهما
بأشخاص تعرّضوا للاختفاء القسري من قبل النظام، على غرار قريبها "النّاشط
العظيم" محمد العمر الذي أهداها كاميرتها الأولى إبان الثورة أو صديقهما
المقرّب، الناشط الإعلامي عبد الوهاب ملا الذي اختطفه تنظيم "داعش". "كنّا
نعلم أنهم ربما لم يعودوا أحياء، ومع ذلك لم نتخلَ لحظة واحدة عن أمل فك
أسرهم وإخلاء سبيلهم. ولهذا، كان لا بدّ أن نكون قادرين على إخبارهم بأننا
راوحنا مكاننا وعملنا لأجل سوريا، وبأننا لم ننسهم ولم نغادر أرضنا لنبدأ
حياةً جديدة في مكانٍ آخر – وأننا باختصار لا زلنا نكافح. هذا الأمر كان
مهماً جدا بالنّسبة إلينا."
كان من المفترض بالمستشفى أن تُوفّر لهما ملجأً آمناً
نسبياً. لكن بعد قصف "مستشفى دار الشفاء" في حلب عام 2012، أيقن الثنائي
أنّ المراكز الطبية ليست بمأمن من الاستهداف. الحقيقة أنّ كلّ من كان يأمّ
المستشفى طلباً للمساعدة كان يعلم ذلك. وحسب حمزة، "كلّما أتانا مريض أو
جريح، كان يتوسّلنا أن "نعالجه في أسرع وقتٍ" أو "نُعطه الدواء حتى يستطيع
العودة إلى منزله."
وأثناء حضورها الدّائم والمتغلغل في أنحاء "مستشفى القدس"،
صوّرت الخطيب الجرحى والقتلى والمحتضرين (أكثريتهم من الأطفال). "كنتُ مثل
أي عامل آخر في المستشفى؛ أرى هؤلاء الناس وأتعاطى معهم وأتخيّل نفسي أو
حمزة بدلاً منهم ذات يوم".
ومع الوقت، صارت مشاهد الضّحايا، الموتى منهم والأحياء،
الخبز اليومي للخطيب. ورغم فظاعة المجازر التي شهدتها وصورّتها، لم تصبح
رؤية الدم عادةً لديها. فـ"كلّ ما تراه الآن، وإن سبق ورأيت ما هو أفظع
منه، سيظلّ يؤثّر فيك مثل أوّل مرة،" على حدّ قولها.
قُبيل تدخّل بوتين في النّزاع السوري، اتّخذ الثنائي حمزة
والخطيب القرار الصّعب بالإنجاب، ظنّاً منهما أنّ الوضع سيء على ما هو عليه
ولن يزيد سوءاً. ولكنّهما للأسف، كانا مخطئين.
"مع دخول الرّوس طرفاً في الحرب في سبتمبر (أيلول) 2015،
اتّضح لنا أنّ الأعمال الإجرامية باتت تتخذ أشكالاً لا حدود لها،" تقول
الخطيب. "صحيح أنّ القصف والمجازر ليسا بجديد وأنّ تنظيم داعش استطاع
اقتحام حلب والمكوث فيها لفترةٍ وجيزة لا تتعدى الثلاثة أشهر قبل أن يُجبر
على التقهقر، "ولكننا ظننا لوهلة أنّ الوضع هذه المرة تحت السيطرة أو يمكن
وضعه تحت السيطرة وأنّ النظام الحالي قد ينتهي في أي لحظة.... بوجود
الرّوس، اختلف توازن القوى إلى حدٍّ كبير".
ومع تصاعد حدّة الهجمات في الفيلم الوثائقي، تُوضّح الخطيب
بصوتها الحزين الاتجاه السّوداوي والكئيب الذي سلكه عقلها جراء الحرب. وفي
مشهدٍ من المشاهد، نسمعها تعترف على الملأ بشعورها بالحسد من أمّ طفلٍ ميت
لأنّها قُتلت في الهجوم الذي أودى بحياة صغيرها ولم تعش يوماً واحداً من
بعده لتدفنه. لم تفخر الخطيب دائماً بمشاعرها، لكنّها أصرّت على البوح بها
لتكون صريحة وصادقة إلى أقصى حدّ.
"لم أتردد في ذكر الأمور التي لا أحبّ أن أقولها أو أُجاهر
بها أو أكره نفسي لمجرد إحساسي بها. فتجربتي وتجربة كلّ الأمهات كانت على
المحك. صدّقني شعرتُ بالخزي من مشاعر عديدة اعترتني ولكنّها كانت حقيقية.
وعلى الناس أن يفهموا أنّ كلّ الأمهات وكلّ الناس، حتى حمزة في مرحلةٍ ما،
اختبروا مثل هذه المشاعر لكنّهم أبوا التعبير عنها. أما أنا، فلم أرد ذلك
وأردت للفيلم أن يكون على قدرٍ كبير من الواقعية."
بعض الناس انتقد الثنائي لأخذهما سما إلى حلب عشيّة الحصار
عام 2016 بدلاً من تركها مع والدا حمزة في تركيا حيث كانا موجودين لمّا
وصلتهما أخبار ما سيحدث. لكنّ بعض القرارات لا تعني شيئاً إلا في السّياق
الذي اتُخذت فيه؛ ولا خلاف على أنّ هذا القرار هو واحد منها.
لكنّ حصار الغوطة استمرّ خمس سنوات طويلة، يُخبر حمزة. "فهل
كان من الأفضل أن نترك سما (في تركيا) ولا نراها طيلة خمس سنوات؟ ربما لو
كانت أكبر سناً لفكرنا في هذا الاحتمال حتى نمنحها فرصة الالتحاق بالمدرسة،
لكنّها كانت آنذاك في شهرها السابع."
وماذا لو مات هو ووعد؟ يسأل حمزة ثم يُجيب نفسه: "هل من
الأفضل أن نترك طفلة يتيمة في عهدة جدّيها؟ (نحن لم نرد ذلك) لذا قررنا أن
نتشارك المصير نفسه؛ إما نموت سوياً أو نعيش سوياً."
وعند هذه النقطة، تعترف الخطيب أنّهما فكرا باستمرار في
مختلف احتمالات الخسارة التي يُمكن أن تُواجه ثلاثتهم. ماذا لو مات هو؟
ماذا لو ماتت هي؟ ماذا لو مات أحدهما مع سما تاركاً الآخر وراءه؟ "كنا نفكر
في أمور موجعة وصادمة طوال الوقت،" تقول الخطيب.
"لم ننم مفترقين يوماً ولم نترك سما نائمة في غرفةٍ لوحدها
أبداً. كنّا دائماً معاً حتى إذا حدث أمر ما، يحدث لنا جميعاً سواسية. كنا
في مكانٍ مظلم جداً،" يذكر حمزة .
ولمّا تستعرض الخطيب لحظة معرفتها بحملها الثاني في فيلم
"إلى سما"، نلمس لديها مشاعر اليأس بدلاً من مشاعر الفرح التي غمرتها إبان
حملها الأول. فبسبب الحصار، لم يكونوا قادرين على التزوّد بالفاكهة والخضار
الطازجة ولم يكونوا أكيدين من استمرار الإمدادات الطبية في المستشفى لحين
ولادتها. كانت فترةً محيّرة للغاية.
"في مثل هذا الموقف، لا يمكن لأحد أن يفهم ما يحدث أو يدرك
حجم ما يحدث. أنا عن نفسي، لم أكن أعلم ما إذا كان يُفترص بي أن آكل شيئاً
أو أعطيه لسما. مهما فعلت، ستكون مخطأً بشكلٍ أو بآخر".
لحسن الحظ وبعد إجلائهم من حلب في ديسمبر (كانون الأول)
2016، وضعت الخطيب طفلةً في تمام الصّحة أسمتها تيماء؛ وهي كانت قد استفادت
من حملها لتُخفي تسجيلاتها القيّمة والمحفّظة على 12 قرص صلب داخل حقيبة
ظهر زنّرت بها نفسها وارتدت فوقها معطفاً شتوياً.
منذ مغادرتهما سوريا والثنائي الخطيب وحمزة يُجاهران
بعمليات التدمير الإجرامية التي اقترفها الأسد وحلفاؤه الروس. ولغاية
اليوم، اقتصرت محاولات مؤيّدي النظام التّشهير بهما على بضع تغريدات تتّهم
وعد بصلتها بمجموعة إرهابية مكّنتها من تصوير الفيلم، وعلى ادّعاءات تُشكّك
في مصداقية حمزة كطبيب. الظاهر أنّ الثنائي كان يتوقع أكثر من ذلك بكثير
ولا يعتقد بأنّ المضايقات ستقف عند هذا الحد.
"كنّا نعلم أنّ النظام، ليس فقط في البداية بل في النهاية
أيضاً، قتل أفراد أسر بعض الأشخاص الذين لمعت أسماءهم خلال الثورة. وكنا
نعلم تماماً ألا شيء سيردعه. الحقيقة أنني لن أتفاجأ أبداً لو حاول أحدهم
مهاجمتنا في الشّارع أو في أيّ مكان."
الثنائي الخطيب وحمزة لن يسكتا أبداً وسيبقى صوتهما هادراً
صادحاً بالعدل، حتى ولو خارت قواهما أحياناً أو شعرا بأنّهما على وشك
الانهيار. فهما يُساندان بعضهما البعض؛ وعندما ستشتدّ الأمور، سيقف الواحد
منهما بجانب الآخر ليرفع معنوياته. في يومٍ من الأيام، سوف يكون لديهما
متّسع من الوقت ليحزنا. أما اليوم، فيُصرّان على بذل ما في وسعهما من أجل
السوريين الذين لا يزالون يتعرّضون للاعتداء من قبل الأسد والروس.
"ما مررنا به هو أمر صعب للغاية ولكنّه لا شيء طالما أننا
بخير وعلى قيد الحياة. علينا الآن أن نفكّر في الآخرين لا بأنفسنا،" تقول
الخطيب خاتمة.
يُذكر أنّ فيلم "إلى سما" سيُعرض لأول مرة في صالات كورزون
السينمائية في سوهو، تلي العرض جلسة أسئلة وأجوبة مع المخرجين. |