"من
أجل سما".. "درامات"متعددة بوثيقة واحدة
ياسر أبو شقرة
لعله أحد الأفلام القليلة جداً، الّتي تؤثر في السوريين
وغيرهم بالقوة نفسها، والذي تستطيع معه أن تقترب من تعريف الوثيقة الذي
يشتق هذا النوع من الأفلام إسمه منها.
يصور فيلم "من أجل سما" حكاية بسيطة لثلاث شخصيات تمتد على
مدار ستة أعوام، بدءاً من عام الثورة السورية 2011 وصولاً إلى عام سيطرة
النظام على مدينة حلب 2016. تختار المخرجة طلاب جامعة حلب كأبطال للحكاية،
تندلع الثورة أثناء دوامهم في أخر سنوات دراستهم، وعد مخرجة الفيلم/
المصور/ الراوي، وحمزة صديقها ولاحقا زوجها، خريج طب، وابنتهما الرضيعة سما.
تهدي وعد الفيلم إلى سما، كي تتفهم دوافع والديها لقرار
البقاء في حلب الخارجة عن سيطرة النظام، ولتريها ما الذي كان يجري هناك
أثناء ولادتها وسنين عمرها الأولى، الخط الناظم للسرد الذي يشبه رواية
الأمهات أي حكاية لأطفالهم، لكن الحكاية هنا مختلفة، الحكاية أقسى من أن
تُروى، لكنها ابنة الواقع، فتارة نسمع مع سما، وتارة نرى ما لا تدركه، في
ظل كل تداخلات الحرب التي تتغير يوما إثر يوم، وفي هذه الطريقة من السرد،
لا تستعجل المخرجة تعاطف متلقي الفيلم، المتلقي الذي لا يعرف عن سوريا سوى
أن حربا طاحنة تدور هناك، حربا عبثية الأجدى عدم الالتفات إليها كما أشار
الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل أيام، فتعقيد الوضع في سوريا دائما ما
أدى إلى تيهٍ منفرٍ لأي متابع مهتم، أما جمهور السينما العالمية، ففي معظمه
لا يعرف عن الحكاية السورية أكثر مما تعرفه سما، وها هم يبدؤون بتلقي
الحكاية السورية مع سما.
إعلامية وطبيب أسس مشفى ميدانياً في حلب لمعالجة جرحى قصف
النظام، والخارجين من تحت أنقاض بيوتهم، وفي إحدى اللحظات القاسية تنهار
الإعلامية أمام إحدى الحالات الطبية المؤلمة لأحد الجرحى، ما يدفع الطبيب
لأن يعترف لها بحبه، ليتزوجا لاحقا. قصة الحب هذه هي الحامل الأساس لحكاية
الفيلم، ببساطتها، وعفويتها، في تحديها لقسوة ما يحصل حولها، انطلاقا من
الرغبة في الانتقال إلى مكان مناسب للسكن، وإيجاده، وبث الحياة والحب فيه،
ومن ثم الحصار والمعاناة من نقص الأغذية، فالخروج من المكان مجبرين وهذه
المرة للأبد بعد أن كانوا قد خرجوا وعادوا متحملين كل مخاطر العودة بناء
على أمل ضئيل بأهمية أدوارهم في هذا المكان.
تصلح هذه الحكاية لأن تكون وثيقة على حياة المدنيين في حلب،
لكن المخرجة لم تكتف بهذا، إنما جعلت قصة حبها غشاءً إنسانياً رقيقاً يغلف
عدداً من حكايا المدنيين التي تشكل في تسلسلها وبقسوتها المهولة أمتن خيوط
الفيلم. لعل بعض المشاهدين تعِب من الدم والقسوة الموجودة في الفيلم، وهنا
عندما نتكلم عن القسوة، لا نقصد العنف بأي حال من الأحوال، وشتان بينهما،
فالعنف يفترض التركيز على مشاهد عنيفة دون سواها، وإظهار ما بها من "دراما"
إن صح التعبير، إلا أن القسوة الموجودة في هذا الفيلم فبإمكاننا أن نشرح من
خلالها العديد من الحكايات الصغيرة المنفصلة/ المتسلسلة في الفيلم وهي على
كل حال واقع المدينة، والدافع الأساسي للفيلم، يدخل طفلان بشكل مزرٍ كما لو
أنهما خرجا من تحت الأنقاض، يأتيان مع أخيهما المصاب ويشرحان في المشفى كيف
كانا ينظران إليه من البلكون عندما نزل صاروخ النظام بجانبه، يبكيان
بانتظار أن ينجو، فننتظر معهما بأمل ولا يطول انتظارنا فيتوفى. أمٌ يصاب
ابنها يُجلب للمشفى وعندما تلحق به إلى هناك تكتشف أنه توفي فتحمله معانقة
إياه، وتهيم على وجهها واجمة في الشارع لا تعي ما حولها ولا أحد يجرؤ على
الحديث معها لشدة هول اللحظة وجحيميتها.
وصولا إلى مشهد الفيلم الأقسى وهو عملية ولادة قيصرية، تجرى
لجريحة من قصف النظام، جُرح الجنين في بطنها أيضا، نشاهد الولادة وندرك أن
الجنين ميت، فنيأس قبل أن نصل إلى اللحظة التي يعيد فيها الأطباء الجنين
للحياة بأبسط الوسائل وبأطول الدقائق على المشاهد محبوس الأنفاس، يبكي
الطفل فتعود الحياة إلى صالة السينما، فما هو العنف في مشهد الولادة؟ بل هي
القسوة الموجودة في زاوية من زاويا فيلم، تدور معظم أحداثه في مشفى ميداني،
لا يخلو أي كادر من كوادره من طفل أو امرأة، يعيشون أصعب المواقف على هذا
الكوكب كونهم في زمان ومكان غير مناسبين فنسمع حكايتهم مع سما ونراها بعين
الوالدين.
لا أبطال في هذا الفيلم، إنما أناس كل ما يحاولون تقديمه هو
أن يكون ضميرهم راضياً عن دورهم في خدمة مجتمعاتهم في أقصى لحظات الحاجة،
وكل ما يأملونه هي ألا تجبرهم الظروف، وأن يجبروها هم على الانصياع لئلا
يشعروا بالندم تجاه خيار يتخذونه مضطرين، فالندم أقسى من كل لحظات الدم هذه
من وجهة نظرهم، لا استجداء للعالم إنما تقديم صورة حقيقية عما يجري يوميا
في مدينة كانت تصنف الأخطر على وجه الأرض في تلك السنوات. تقديم صورة أشخاص
أوفياء لإنسانيتهم في لحظات ضعفهم.
لا غموض في التمييز بين المجرم والضحية، الفيلم يصور
المظاهرات، وتطور الأحداث التدريجي، النظام في الفيلم لا نراه إلا أثناء
اعتقاله وضربه للشبان أثناء المظاهرات، عدا ذلك هو جحيم قادم من السماء،
وسرطان ينهش أحياء حلب المحررة من سطوته واحداً تلو الآخر. تقترب المجزرة
كلما اقترب الفيلم من نهايته، وجود السلاح بين المدنيين لا ينشز المقطوعة،
لأن باقي العزف يصم الاذان خلال دقائق الفيلم جميعها، أما التنويه لوجود
الإسلاميين في المدينة، فتدينه وعد في فيلمها كما يدينه كل سوري خرج للحرية
والعدالة، ودون مزايدات، إنما بالحجم الطبيعي الذي يجسد حال السوريين
الفعلي تحت قذائف النظام، يكرهون الإسلاميين لكن خطر النظام في كل لحظات
حياتهم يشغلهم عن أي مجرم سواه.
في ذلك تكون وعد الخطيب استطاعت تقديم وثيقة لسنوات من
الموت، تحكي حال الناس الأضعف والأكثر تهميشا في مدينة الاقتصاد السوري،
وثيقة ستراها سما حينما تكبر، ويراها جيلها، ويسمعون نداء وعد الخطيب
الأخير في الفيلم وهي تصور المدينة بكاميرا الدرون الطيارة وتسير مع ابنتها
في الأزقة المهدمة، أن كل هذا كان من أجل ألا تعيشوا ما عشناه مع آل الأسد.
(*)
يعرض في الصالات في فرنسا |