كان لرصاصة واحدة أو قذيفة مدفعية أو صاروخ -وما أكثرها- في
ذلك البلد الرهيب: سورية، أن تغتال شبابها قبل فيلمها، لكن ها هي اليوم
تتنقل، منذ مطلع هذا العام، من بلد إلى آخر، لتشارك في أكثر من 35 مهرجاناً
عالمياً ومحلياً للأفلام، حاصدةً أكثر من 30 جائزة لفيلمها
"إلى سما".
ربما يعود للحظ وحده الفضل، في نجاة المخرجة السورية وعد
الخطيب من موت مأساوي، فحولها يتساقط مئات القتلى، وهي التي اختارت أن
تقتحم الحرب وتعمل وتسكن أكثر مكان يستهدفه النظام السوري وحليفه الروسي؛ المشافي
الميدانية،
التي ساهمت في تأسيسها مع الأصدقاء، ومن بينهم الطبيب حمزة الخطيب، الذي
صار لاحقًا زوجها وأبًا لمولودتهم "سما" التي يحمل الفيلم اسمها.
تقول وعد لـ"العربي الجديد": "انتقلت من حلب الغربية إلى
الشرقية عام 2012، كان الأمر صعبًا، فتاة في الـ22 من عمرها وحدها في
المنطقة، كيف وأين ومع من سأعيش؟ فكان أفضل الخيارات البقاء مع الكادر
الطبي في المدينة، خاصة أنني كنت أعرف حمزة وصديقات ممرضات، فسكنت في
مشفيَين، أحدهما (القدس) وكان في بداية تأسيسه".
على مدار خمس سنوات، قضتها في حلب "الشرقية" صورت وعد مئات
المشاهد لاندلاع الثورة السلمية فيها، المجازر التي ارتكبت هناك والدمار
الهائل، وحصارها الخانق من يوليو/تموز إلى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2016،
ووثقت تفاصيل حياتها الشخصية في فلك من العلاقات الإنسانية، لتثمر مشاهدها
عن فيلم يتنقل بين عالمين متناقضين، لكنهما متوازيان.
تقول وعد: "لم أكن أصور بهدف واضح، ولم أكن أفكر بصناعة
فيلم، كنت أحاول أن أوثق أكبر قدر ممكن من الحوادث، لإحساسي بأن الحياة
التي أعيشها قد تنتهي في أي لحظة، والأشخاص الذين أعرفهم قد أفقدهم".
تفتتح وعد فيلمها بعرض صور شخصية لها، عندما كانت شابة
عازبة في أوج عنفوانها، طليقة مما تفرضه غريزة الآباء والأمهات من مخاوف
على أبنائهم، تغازل الشمس خصلات شعرها المتموج، مقبلة على التهام الحياة
بشجاعة لا تخلو من التهور وعدم الاكتراث للمصير، لكن اقتحام سما لعالمها
غيّر في شكل المعادلة، من دون أن يمسّ جوهرها. ومع توالي الصور تشرح وعد
لابنتها البكر، السبب الذي دفعها لصناعة هذا الفيلم: "لتعلمي لمَ اخترنا
مواجهة ذلك".
في المشهد التالي، نسمع وعد تغني لطفلتها الرضيعة، وما إن
تبدأ سما بالتفاعل مع والدتها حتى ينهار عالمهما الهش، مع اهتزاز غرفتهما
إثر قذائف مدفعية متلاحقة تضرب المشفى الأخير الذي يسكنون فيه. تفر "وعد"
إلى الملجأ مع تصاعد غبار القصف، حاملة سما وكاميرتها، لتوثق حركة الطاقم
الطبي هناك كخلية نحل، يجتهدون لإتمام واجبهم المهني والإنساني تجاه
المصابين والمرضى والرضع، يعالجون بتمرس ما يفرضه القصف على خطط العلاج،
متناسين أنهم هم أنفسهم ضحايا محتملون، بل يغالبون قسوة تلك الدقائق بالمرح
والسخرية... وحدها وعد تبوح لابنتها سما ولمشاهدي فيلمها، "بإحساسها العميق
بالذنب لأنها أنجبتها".
تنطلق بعدها بمشهد يلف سماء المدينة بتقنية الدرون، راصدة
الدخان الكثيف للحرائق التي خلَّفها القصف في كل أطراف حلب المقبلة على حرب
كارثية، وقد كانت قبل 5 أعوام "منذورة" لمستقبل أفضل، مع خروج أهلها في
تظاهرات سلمية، التقطتها وعد مبكرًا، بعدسة هاتفها المحمول، يومها كانت لا
تزال طالبة في كلية الاقتصاد في السنة الرابعة، نسمعها تصيح مع الطلاب
المتظاهرين في جامعة حلب: "سلمية... إسلام ومسيحية"، وهم يحطمون لوحة لحافظ
الأسد، قبل أن يفتك عناصر الأمن بالمتظاهرين، ومن ثم بالمدينة الثائرة.
صورت وعد معظم مشاهد فيلمها داخل المستشفيات الميدانية، من
تأسيسها واستقبال المصابين فيها وعلاجهم، والمشقات الكبيرة التي يكابدها
الكادر الطبي في عملهم، وهزيمتهم أمام كل روح تزهق، والنهوض سريعًا من سطوة
الانكسار، إذ لا متسع للحزن، ولا مكان للانهيار في عالم ينهار من حولك،
فهناك طوابير من الجرحى والمصابين تنتظرهم. ورصدت تحويل المشافي إلى
ترسانات تسدّ نوافذها السواتر الرملية، إذ كانت الهدف الأبرز للأسد وروسيا،
وشهدت كاميرتها على دمارها واحدة تلو الأخرى، ومقتل أصدقائهم داخلها، وكان
من أوائلهم عمر طالب الهندسة الذي ترك دراسته وتفرغ للعمل ممرضًا في
المشفى، وغيث الطالب في كلية الطب البشري، فكان لمقتلهما أن يزيد من إصرار
الرفاق على إكمال الطريق.
وسيكتشف متابعو الفيلم، أن مخرجته نقلت بعدستها للعالم، عبر
محطات التلفزة، أقسى الحوادث التي مرت بها مدينة حلب، إحداها مجزرة النهر،
وعمليات انتشال الأهالي للجثامين مقيدة الأيدي، ونحيب الأمهات وهن يتعرفن
إلى ملامح أبنائهن الذين أعدمتهم المخابرات ميدانيًا، ثم دفنوهم في مقابر
جماعية. وبعدستها أيضًا وثقت المعجزة التي تحققت على أيدي الأطباء في عملية
ولادة رضيع أصيبت أمه في القصف، ومحاولات إنعاشه البدائية التي انتهت بشهقة
عودته إلى الحياة.
كذلك، سنكتشف أن "وعد" كانت إحدى الناجيات المحظوظات من قصف
العدوان الروسي لمشفى "القدس"، في 27 إبريل/نيسان 2016 الذي قُتل فيه
العشرات من المرضى والممرضين، فضلًا عن ثلاثة أطباء، أحدهم الطبيب وسيم
معاذ، أول طبيب أطفال فحص العلامات الحيوية لـسما لحظة ولادتها، وآخر طبيب
أطفال كان يعمل في حلب.
في تلك الحرب المروعة التي اقتحمتها وعد بإصرار لتناضل في
سبيل الثورة، اختارت أن تمضي بشجاعتها إلى النهاية، مفسحة لنفسها حياةً
أخرى، فأحبت وتزوجت، هناك حيث تترمل النساء، وأسست بيتًا وزرعته بالورود،
هناك حيث تُدمر البيوت وتحرق، وأنجبت، هناك حيث تفقد الأمهات عقولهن وهن
يثكلن بأطفالهن.
تقول وعد: "لم أكن أعتقد أن الانخراط في الثورة يتعارض مع
الأمومة، حاولت عيش المسارين بالتوازي، ككثير من الأمهات هناك، سعيت لأكون
الأم التي تمنح أطفالها كل الإمكانيات المتاحة، والإعلامية التي أطمح أن
أكونها في الوقت نفسه". وتتابع: "في بداية زواجنا، اتفقنا أنا وحمزة ألا
ننجب، إذ يكفينا أن نربط مصيرينا معًا، لكننا أدركنا أننا سنمضي حياتنا
هنا، وأننا لن نترك المدينة بقرار شخصي، ولم نكن وقتها نعلم شيئَا عن
التهجير القسري، لذا قررنا أن نعيش حياتنا الشخصية، ونبني أسرتنا وبيتنا،
وأن يكون ارتباطنا بهذه الأرض وثيقًا بعائلة كاملة، وتوجنا ذلك بقرار إنجاب
سما". وتضيف: "كنا نعرف أن هذه الحياة قد تنتهي في أي لحظة، أنا أو حمزة أو
حتى سما، إلا أننا قررنا المضي بهذا الخيار وتحمل مسؤوليته، وكان لدينا أمل
بأن الحياة ستسير نحو الأفضل".
تؤكد وعد لـ"العربي الجديد" أن سنواتها في حلب كانت عظيمة،
بكل تفاصيلها التي أحبتها وكرهتها فيها، بما عاشته بملء إرادتها أو رغمًا
عنها، كوضعها الحجاب، وتقول: "كانت الحرية الشخصية مهمة لنا، وطالبنا بها
منذ البداية، إلى جانب الحرية السياسية، لكنها لم تعد أولوية. لم أكترث
لحجابي وأنا أرى البراميل المتفجرة تسقط على البيوت، وأشاهد الناس يموتون
تحت الأنقاض، وتأقلمت معه لأنه كان مؤقتًا، ولأن هناك شيئا أهم أحاول أن
أفعله".
وتضيف: "وسط عالم الدم الذي كنا نتجرعه كل لحظة، كانت
الحريات الشخصية معركة مؤجلة، ولم أكن لأتوانى عن النضال في سبيلها
مستقبلًا".
يكاد فيلم "إلى سما" أن يكون مجموعة متلاحقة من القبض على
أنفاس المشاهدين، لا ترتخي سوى في بعض المشاهد للحياة الشخصية التي
اقتنصتها "وعد" من بين فكي الحرب، لحظات المرح مع الأصدقاء، لهو أطفال حلب
بالقليل المتاح، عرسها وقد طغى صوت الموسيقى على أصوات القذائف، رسائل الحب
المستمرة مع حمزة، الأمسيات بصحبة الأصدقاء، والغناء لعبد الحليم.. وليلة
ولادة سما.
ولأن الفيلم عن الشجاعة، فقد كان أوجها، قرار العودة من
تركيا، الذي اتخذاه، وعد وحمزة، بعد زيارة أيام لأهلهم هناك، عند سماعهم
بأن حصارًا سيطبق على حلب، رافضين إغواء الأمان والسلام في أرض أخرى، أو
حتى ترك سما هناك، وفي طريق العودة المحفوف بخطر القناصين ومليشيات الأسد
وحلفائه، وقد قطعوا قسمًا كبيرًا منه سيرًا على الأقدام، أكد حمزة أن لكل
سوري دوره في إبراز عدالة الخلاص من هذا النظام، حتى رضيعتهم سما.
تقول وعد: "لم أستطع أن أدير ظهري وأرحل، وأن أترك الناس
الذين تشاركت معهم اللحظات السيئة والسعيدة، الموت والأمل والخوف والفرح.
العلاقة التي تربطني بالمدينة وأهلها قوية ومعقدة، ارتباطي بتلك الأرض راسخ
ومن المستحيل أن ينقطع لأي سبب مثل مشاعر الخوف والموت الحتمي".
وتتابع: "كنت في كل لحظة أرى فيها ابنتي، أشعر أنها اللحظة
الأخيرة، لكن روح الثورة التي كانت في المدينة، القوة التي تحلينا بها،
اليقين بأننا سنشاهد النتائج التي نتمناها من الثورة، فقط إن قدمنا نوعًا
من التضحيات، نوعًا من القتال، القتال الذي لا ينتهي بمرحلة معينة، ويستمر
حتى النهاية، دفعنا للمضي قدمًا".
غير أن هذا النوع من القتال الذي تحدثت عنه وعد، وكان تعني فيه الصمود
والتضحية والشجاعة أفضى في الختام إلى التهجير القسري للأهالي، وبينما كانت
حلب الشرقية تشهد قيامتها الأخيرة، استمرت وعد بتوثيق الحدث، وحمزة ورفاقه
بإنقاذ المرضى والمصابين. وعلى أنقاض المستشفى الأخير المتهاوي، أحصى حمزة
عدد المصابين الذين استقبلهم المستشفى خلال 20 يومًا الأخيرة، وقد تجاوزا
6000 في حين أجريت 890 عملية فيه، ووسط دموعه أكد لرفيقة دربه وعد، أن "لا
مشكلة في المكان... فالمكان يصنعه أهله.. تماما كهذا المستشفى".
قد يظن مشاهدو الفيلم أن تلك كانت نهاية الحكاية، لأبطال
صمدوا 5 سنوات في وجه حرب لعينة، وأن كل تلك الضحيات لم تسفر سوى عن
هزيمة... لكن بعد عامين فقط من خروجهم القسري، يدور فيلم "إلى سما" في
أنحاء العالم، حاصدًا الجوائز في كل مهرجان يشارك فيه، هو فيلم فريد لا
لقيمته الفنية فحسب، ولا لأنه صُوِّر بالدم المسفوك في الحرب، بل لأنه يروي
حكاية أبطال اختاروا المواجهة بشجاعة وصبر وتضحية مطلقة، صانعين لأنفسهم
أقدارًا تتحدى ما تفرضه الحرب من مصائر على ضحاياها، من موت وأحزان
وكراهيات جمة وهزائم... فيلم "إلى سما" انتصار للشجعان الذين صنعوه... من
قضى منهم ومن بقي حيًا. |