إنها المرة الأولى التي يسعدني فيها الحظ بحضور فعاليات
مهرجان "أسوان الدولي لأفلام المرأة". في المرات السابقة كان يتقاطع مع
مهرجان "برلين السينمائي" الذي أحرص على حضوره منذ العام ٢٠١٤. هذا العام
كلا المهرجانين عدلا موعديهما. أسوان تقدم بموعده عدة أيام، وبرلين أخَّر
موعده أسبوعاً في ظل إدارته الجديدة.
أسوان مدينة جميلة. زرتها من قبل ثلاث مرات عام ٢٠٠٩. كنت
آنذاك أُشارك في تصوير فيلم وثائقي كتبت له السيناريو عن: «الحيوانات
المهددة بخطر الانقراض»، إنتاج مشترك بين اتحاد الإذاعات الأوروبية
والتليفزيون المصري. اخترنا لتيمة الفيلم ستة حيوانات من القائمة. في أسوان
صورنا عن قضية التمساح. يومها، استمتعنا بالطبيعة الجغرافية للمكان، بطقسها
الاستثنائي في شهري يناير وفبراير. عايشنا كرم ودماثة خلق أهل المدينة رغم
رقة حالهم وصعوبة ظروفهم الاقتصادية، طوفنا بين الآثار واستمتعنا بها مثل
معبد فيلة، خزان أسوان، المقابر الفاطمية، متحف أسوان، معبد حورس بمدينة
إدفو. ثم تحركنا بالسيارة إلى معبد أبوسمبل الذي يأتي السياح خصيصاً
لزيارته. عملنا جولة في بحيرة ناصر. صرنا بين الأخوار طويلاً بقلب بحيرة
ناصر. رحلة لا تُنسي. عقلي يستعيدها الآن بتفاصيلها.
عن بلدنا الجميلة
اليوم أعود إليها بعد عشر سنوات. ما زال الهواء صافياً،
الجو مريحاً للأعصاب، رغم برودته الليلية. هواؤه منعش، يمنحك الفرصة للتخفف
من الأعباء. قابلت في السوق بالقرب من المحطة رجلاً بدا لي من أهل الجنوب.
استوقفني أنه كان يتأمل تماثيل صغيرة فولكلورية لرجال ونساء من الصعيد كأنه
ليس من أهل المكان، كانت منحوتة بالألوان. اقتربت فسمعته يقول: «إنها حقاً
جميلة». تحدثت إليه، عرفت أنه فنان موسيقي جاء هنا، لبعض الوقت؛ لتنظيم عدة
حفلات والعمل مع فرقة موسيقية، إنه أساساً من الخرطوم، لكن يعيش خارج الوطن
العربي.
إنه نموذج للفنان الذي حقق ذاته خارج حدود الوطن، لكن
الجذور لا تزال قادرة على جذبه. تحدث عن زيارته إلى القاهرة، عن تعلقه أكثر
بالطقس والأجواء هنا في أسوان. لديه الحق بالطبع. يبدو أنه كلما تقدم بنا
العمر نصير أكثر احتياجاً للطبيعة الأم، نلوذ إليها من تعقيدات الحياة.
أتأمل النيل من شرفة غرفتي. تطفو على سطحه المراكب
الشراعية، ومن فوقه تُحلق على مستويات قريبة متباينة أسراب من الطيور.
الخضرة الكثيفة والأشجار خط الدفاع الأول عند الشاطئ الآخر، تتوارى بينها
البيوت، ومن خلفهما ترتفع الكثبان الرملية، كأن النيل يرقد في حضن الجبل
الذي يتضمن مقابر النبلاء فتضيء ليلاً.
بلدنا جميلة حقاً؛ لذلك من الذكاء أن نستغل هذا الجمال، أن
نعيد تصديره للعالم، أن نجذب الشعوب الأخرى إلينا، أن نسهم في استثمار هذا
الجمال لمساعدة أهل المكان، ودعمهم في مشاريعهم، وفتح أبواب جديدة أمامهم
وأمام مستقبل بناتهم وأبنائهم.
الدعاية المجانية
من هنا، تأتي أهمية مهرجان "أسوان الدولي لأفلام المرأة".
لقد اختار القائمون عليه نجمة مهمة من السينما العالمية هي فيكتوريا أبرِل؛
لتكون ضيفة شرف المهرجان - وهي الفنانة الحائزة على جائزتين من مهرجان
"برلين"؛ جائزة الدب الفضي لأفضل ممثلة، ثم جائزة كاميرا البرلينالة -؛
لتكريمها، والتي أضفت قدراً كبيراً من الحيوية والمرح على أجواء المهرجان،
ثم انطلقت إلى معبد أبوسمبل؛ لتلتقط هناك عشرات الصور في قلب ذلك المكان
الساحر.
لنتخيل فنانة بهذا القدر وتلك الحيوية، تُنشر لها صوراً على
مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تتحرك آمنة سعيدة والابتسامة لا تفارق وجهها،
وهي تتحرك بين آثار مصر. إنها دعاية مجانية تتفوق على عشرات من حملات
الدعاية. إنها أحد أسلحتنا ضد الإرهاب، أحد أشكال الجذب السياحي، وإعادة
الثقة للآخرين بأن بلادنا الجميلة بطقسها الاستثنائي آمنة.
يُحسب لمهرجان "أسوان الدولي لأفلام المرأة" أنه يُشارك في
تكثيف الحياة وتفعيلها بهذه المحافظة الجميلة خلال مدة فعالياته الممتدة من
١٠- ١٥ فبراير الجاري. فخلال هذه الفترة وبخلاف الأفلام المهمة التي تم
اختيارها بجودة عالية، وتطرح موضوعات تتعلق بالمرأة من زوايا متعددة، ومن
جغرافيات مختلفة لكنها تصب في منطقة إنسانية لها علاقة بالمرأة ومحيطها
وعلاقاتها بمجتمعها.
لاحظت إقبال المشاهدين في حفلات ما بعد الظهر. هذا جيد. أن
نعيد الجمهور إلى صالة السينما في الجنوب. أن نشارك في إعادة تربية ذائقته
بأفلام تنتمي للنوعية. إنها خطوة على الطريق، لها قيمتها. ربما، ستُؤتي
ثمارها الواضحة بعد سنوات، لكنها منذ الآن تشارك في الحرب ضد الإرهاب. إن
الفن، والسينما تحديداً لها دورها في نشر الوعي، ونبذ الفكر المتطرف.
كذلك، يحسب له إصداره تقريرًا في كتاب لأول مرة هذا العام
عن «صورة المرأة في السينما العربية»، والذي شارك في كتابته عدد من
الناقدات والنقاد من مختلف دول الوطن العربي. بادرة تستحق التحية. من المهم
أن تستمر، من الضروري أن يتم تطويرها؛ لتتضمن أرقاماً وإحصائيات كما هو
متحقق في بعضها، وإن كان البعض الآخر جاء خفيفا متعجلاً.
"لحلم الكونفوشيوسي" في أسوان
من بين الأفلام المعروضة بأسوان أختار لك - عزيزي القارئ
عزيزتي القارئة - الفيلم الوثائقي الصيني "الحلم الكونفوشيوسي" البالغ ٨٥
دقيقة. إنه بكلمات على الشاشة تقول: "تأسست الفلسفة الكونفوشيوسية منذ آلاف
السنين، تلك الفلسفة التي تُحدد العلاقات بشكل هارموني وأخلاقي. إنها
مجموعة من المعتقدات والمبادئ تنصب حول الأخلاق والآداب، وشكل العلاقات
الاجتماعية، وفي ذات الوقت لا تفصل بين النظامين السياسي والاجتماعي. ربما
لذلك، في ظل الحداثة السريعة بالصين اليوم، فإن ملايين العائلات أخذت تتجه
صوب هذه الطرق التعليمية القديمة مجدداً".
نعيش مع بطلة الفيلم تجربة شيقة مؤلمة، مليئة بالتوتر
الدرامي الذي يستحوذ على انتباهنا. فالبطلة امرأة شابة، لديها طفل صغير،
تترك وظيفتها من أجل الحصول على دروس في الفلسفة الكونفوشيوسية، تمهيداً
لأن تساعد ابنها في دراسة تلك الفلسفة لاحقاً، لكن زوجها غير مقتنع. إنه ضد
رغبتها في دراسة هذا العلم. في مشاهد مكبلة بالتوتر يكاد يتجاهلها أحياناً
لئلا يتناقشا في الأمر. لكن أحد الأصدقاء ينصحها بتغيير نفسها أولاً،
بالبدء فعلياً في قراءة تلك الدروس والاجتهاد فيها حتى تثبت لزوجها أهمية
تلك الفلسفة، فيقتنع.
تحاول الزوجة تطبيق نصيحة الصديق، لكنها لا تقدر على قيادة
أمورها بهدوء، دائما تنفعل، وسرعان ما تتفجر المشاحنات بينها وبين الزوج،
تبدأ في لومه بأسلوب جاف غاضب آمر، تلومه لأن والديه يعيشان معهما، فليس
لها بيتها الخاص. ثم تقرر الانفصال. أثناء ذلك تتقدم للمحكمة بطلب الطلاق،
لكن المحكمة ترفض، بحجة الضرر الواقع على الأسرة.
رغم ما سبق، الزوجة لن تستسلم. تصر على موقفها، وعلى عدم
العودة. عندما تسألها المخرجة لماذا فعلت ذلك فتخلت عن ابنها تقول: "لأنني
فكرت فيه عندما سيكبر، عندما سأُخبره أنني ضحيت بسعادتي ورغباتي من أجله،
سيكون رده: "ومن قال لك تفعلي ذلك. لم يطلب منك أحد فعل هذا، أنا على الأقل
لم أفعل"، ثم تواصل الزوجة حديثها الاستبطاني: "عندما فكرت وتأملت نفسي،
اكتشفت أنني كنت أفكر في نفسي، وفي راحتي، إنني فعلت ذلك من أجل نفسي.
اكتشفت أيضاً أنني لم أكن جيدة بالقدر الكافي، إنني كان لا بد من أن أُغير
نفسي أولاً. كان لا بد أن أشتغل على نفسي".
اجتياز البرزخ
نتابع مع البطلة خلال الفيلم رحلتها لاجتياز هذا البرزخ،
معاناتها، صراعها مع الزوج في حضور الوالدين حول تعليم الطفل، نعايش
معركتهما الكبيرة التي يتم فيها التشويح بالأيدي، والصراخ، لدرجة أن
المخرجة تضطر في جزء منها لإخفاء الصوت - على ما يبدو أنه تضمن تجريحًا
كبيرًا بين الاثنين - فاكتفت بالإيماءات الغاضبة، بتلويح كل منهما في وجه
الآخر بينما الابن يبكي محاولاً أن يفصل بينهما، ثم لاحقاً - بعد شهور -
عندما يتم التفاهم بينها وبين الزوج تبدأ الحماة في الصراخ والبكاء لأنهم
سيأخذون منها الطفل لأنه سيلتحق بالمدرسة ويتعلم الكونفوشيوسية.
أما - المستوى البصري - في فترات الانفصال فقد استعانت
المخرجة بلقطات تتضمن لمحات من زيارة الزوجة للعائلة لترى ابنها أو لتقضي
معه بعض الوقت، فتعطيه بعض الدروس وهى تبكي أحياناً بينما الطفل يسألها
ببراءة وحيرة: "ماذا بك يا أمي؟ من أين تأتي هذه الدموع؟!" فتجيبه: "هناك
مطر بالخارج".
للصور الفوتوغرافية نصيب كبير بالفيلم، نصيب كاشف لقصة حب
كبيرة. يتم القطع بينها وبين اللقطات الحية لها وهي تسير في الشارع تتحدث
كأنما بصوتها الداخلي، كأنها تُعيد التفكير في شخصيتها، وفي حياتها،
وتصرفاتها؛ لدرجة أنها في لحظة ما تشعر بأنها كانت هي السبب في ذلك
الانفصال والتوتر وتمزيق أوصال أسرتها. لكنها تعود فتتساءل: «هل كان لا بد
أن أتخلي عن أحلامي، وعن الأصدقاء؟" ثم تعود وتفتح ملف الصور في بداية
علاقتها بزوجها، عندما تعارفا للمرة الأولى، للأيام الخوالي لقصة الحب
بينهما، والأيام السعيدة التي عاشها الاثنان معًا. تحكي بموضوعية كبيرة، من
دون أن تغفل الفروق الجوهرية عن العلاقة أثناء فترات الخطوبة وتأجج الحب،
ثم النقلة النوعية بعد الزواج لدرجة أنها تشعر بأن الرجل الذي أحبته اختفى
بعد الزواج. |