فنانة مصرية تمردت على ملامحها الأوروبية ولعبت دور الفتاة
الشعبية، متفردة عن بنات جيلها بتلقفها للمبادرات الاجتماعية والسياسية.
رحلت الفنانة المصرية نادية لطفي، الثلاثاء، وهي التي
امتازت عن جيلها بتغيير جلدها باستمرار والتمرد على ملامحها الأوروبية، وقد
أدت أدوارا عبرت عن المرأة في جميع أشكالها المجتمعية، كما تفرّدت بحس
سياسي واضح ورؤية مغايرة لأعمالها، لتشتبك مع العديد من القضايا القومية
العربية حتى حملت لقب “تشي غيفارا” السينما المصرية.
القاهرة
- طوت
نادية لطفي صفحات رحلة فنية طويلة وصلت إلى 75 فيلما سينمائيا، على مدار
عمر ناهز الـ83 عاما، كرّست خلالها لمدرسة تتسم بأداء تمثيلي مختلف،
وتتجاوز حاجز الانفعال التقليدي، مع المشهد إلى التعبير بالصمت والدموع
والنظرات والابتسامة وحتى العبوس.
انتهجت الراحلة منذ دخولها الوسط الفني أسلوبا خاصا، يعتمد
على تجنب التكرار، فلعبت رغم ملامحها الشقراء أدوارا متباينة للمرأة بين
البنت الأرستقراطية والشعبية والصحافية والمحامية والمحاربة والطيبة
والشريرة والعاهرة، بطريقة تتماشى مع قناعاتها كمدافعة عن القضايا النسوية
خاصة والحريات بوجه عام.
كانت متفردة عن بنات جيلها بتلقفها للمبادرات الاجتماعية
والسياسية، وانغماسها في القضايا العربية والقومية، حتى لقبها النقاد
والمخرجون في السبعينات بـ”سيدة المواقف” و”تشي غيفارا السينما المصرية”،
تيمنا بالمناضل اللاتيني الشهير الذي حارب الاستعمار.
مسارات سياسية
أثناء حصار قوات الاحتلال الإسرائيلي لبيروت عام 1982، لم
تخش التوجه إلى العاصمة اللبنانية وقضاء أكثر من أسبوعين في صفوف المقاومة
الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، وتوثيق ما يحدث على الأرض بالصور التي بثتها
بعض الصحف المصرية المحلية وقتها، لتحيي هواية الطفولة بالتصوير والكتابة،
كما نقلت عنها الإذاعات العربية تطورات الأوضاع على الأرض، لتصبح بمثابة
مراسلة حربية.
هي الوحيدة من جيلها التي واصلت زياراتها إلى جبهة القتال
في حرب الاستنزاف عشرات المرات، وفي حرب أكتوبر 1973 انضمت إلى مستشفيي
“قصر العيني” و”المعادي العسكري” لتعيد دورها في فيلم “الناصر صلاح الدين”
على أرض الواقع، عبر تضميدها للجروح وتنظيف غرف العمليات.
في كتاب “نادية لطفي.. زهرة الصعيد البرية” الصادر عن
المهرجان القومي الثامن للسينما المصرية، تقول الناقدة نعمة الله حسين إن
الراحلة تفردت بلقب الفنانة الإنسانة بعدما شاركت في القضايا الاجتماعية
والنقابية بفعالية دون ادّعاء، فانضمت إلى جمعيات رعاية المعاقين وحصلت على
مئة فدان لمصلحة نقابة المهن التمثيلية مخصّصة لإسكان الأعضاء وأنشأت
صناعات تتصل بالفون التطبيقية لتعزيز مواد النقابة وحماية مصالح زملائها.
يبدو أنها أرادت تحقيق حلم والدها بإنجاب ضابط، فشاركت في
الحروب بشكل غير مباشر عبر التطوّع سواء بزيارة جبهات القتال أو بالمشاركة
في الأعمال الفنية الحربية دون أجر، وربما زواجها من جارها الضابط البحري
الذي أنجبت منه نجلها الوحيد، كان الهدف منه إدخال شخصية عسكرية للأسرة
مثلما كان يتمنّى والدها.
شاركت الراحلة في العديد من الأفلام الحربية مثل “عمالقة
البحار” عن مهمة بحرية لمجموعة من الضباط والجنود في أعقاب العدوان الثلاثي
على مصر، كما جمعت شهادات المصابين خلال حرب أكتوبر 1973 في فيلم تسجيلي
تحملت تكلفة إنتاجه بعنوان “جيوش الشمس” تضمن جميع مراحل الحروب المصرية
منذ النكسة وحتى الانتصار.
ورغم اعتزالها العمل الفني منذ عام 1993، عادت خصيصا للظهور
من أجل قضية وطنية عربية، وشاركت في أوبريت غنائي بعنوان “القدس ح ترجع لنا
(سترجع لنا)” بمشاركة نحو 40 فنانا من المطربين والممثلين، على خلفية
استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرّة في أحضان والده عام 2000.
ووصل نشاطها المجتمعي إلى تأسيس لجنة للدفاع عن حقوق
الحيوان مع بداية ثمانينات القرن العشرين، وتأسيس “جمعية حماية الحمير”،
وحتى حينما نفق كلبها رفضت استبداله بآخر من الفصيلة ذاتها، قائلة “وهل
يستبدل الصديق؟”.
ولدت نادية لطفي، واسمها الأصلي بولا محمد شفيق، لأب مصري
وأم بولندية، بحي عابدين في وسط القاهرة عام 1937، وظهرت ميولها الفنية
مبكرا، فاعتلت خشبة المسرح في سن العاشرة، متأثرة بنشأتها داخل حي اتخذه
الكثير من الفنانين سكنا، وقد امتلأ بالمسارح ودور السينما، وكانت تنبثق من
ميدانه شوارع صناعة آلات الطرب المختلفة وخاصة آلة العود ومستلزمات الرقص
الشعبي.
رعاية مختلفة
اكتشفها المخرج رمسيس نجيب خلال سهرة اجتماعية بالصدفة وعرض
عليها التمثيل، واختار لها اسمها الفني نادية، تيمنا بشخصية تحمل الاسم
ذاته قدّمتها الفنانة فاتن حمامة في فيلم “لا أنام” للكاتب إحسان
عبدالقدوس، لتجذب الأنظار إليها في فيلمهما الأول “سلطان” مع فريد شوقي عام
1957، في دور صحافية تقتحم أوكار زعيم عصابة تطارده الشرطة.
واستفادت من انفتاح والدها الثقافي الذي سمح لها باحتراف
التمثيل في سن مبكرة، واحترم هوايتها في تعلم ركوب الخيل الذي حوّلته من
مجرد نشاط رياضي إلى احتراف كامل من بعدُ، حيث توجهت إلى مدرسة لتعلم
الفروسية في الإسكندرية، ما ساعدها في أداء دور لويز المحاربة الصليبية في
فيلم “الناصر صلاح الدين”.
انتقت الراحلة أعمالا بعينها تنغمس في قضايا مجتمعية شائكة،
كأحقية السيدات في العمل الميداني بقطاع الكشف عن النفط في فيلم “للرجال
فقط” مع إيهاب نافع في وقت كان المجتمع يعتبر مكانها الطبيعي داخل المنزل،
أو الوقوف ضد النظرة الذكورية للمرأة وتقزيم دورها داخل المجتمع في “عدو
المرأة” مع رشدي أباظة.
حكمت عقليتها الواقعية اختياراتها التالية، فغالبا ما توجد
نزعة سياسية أو أهداف واضحة عند قبولها لأي دور، ففي “السمان والخريف”،
ترصد بحرفية واقع قادة الأحزاب السياسية التي انتهى دورها بانتهاء الحياة
السياسية في أعقاب ثورة 23 يوليو 1952، وتخبط القياديين الذي صادفهم في
حياتهم، والميول النفسية الانتقامية لديهم، حتى ولو كانت في فرض السيطرة
والسطوة على فتاة ليل فقيرة.
يتكرّر الأمر ذاته في فيلم “قصر الشوق” الذي يرصد طبيعة
الحياة داخل الأحياء المصرية القديمة بتتبع سيرة أسرة واحدة عبر الأجيال،
ولعبت دور الراقصة زنوبة، التي تنتقم من السيد عبدالجواد (الفنان يحيى
شاهين) الذي يعيش بوجهين أحدهما يدعي فيه الفضيلة بدكتاتورية شديدة في
منزله، والآخر لشخص منحل يلهث وراء الراقصات في الحانات، وتخدعه بحبها حتى
تتزوج في الوقت ذاته نجله الأكبر، لتمثل مكيدتها انتقاما لعالم النساء
بأسره.
في فيلم “المستحيل”، عالجت قضية التربية كمفصل أساسي في
تكوين الشخصية وصقلها، عن قصة شاب ضعيف الشخصية، يعيش في فلك والده الذي
أجبره على الزواج، وبعد وفاة الأب يخوض الابن علاقات نسائية متعددة مع
محامية مدعية للثقافة، وفتاة مغلوبة على أمرها تعاني من ظروفه ذاتها.
برعت في تقديم دور المرأة التي تضحي بنفسها، فهي تنتحر من
أجل أن يبقى سر حبيبها مخفيا في “حب للأبد”، وتهدّد زعيم عصابة بالانتحار
إذا أقدم على إيذاء حبيبها في “سلطان”، وتكابد الحب من الحفاظ على صورتها
ومعتقداتها الدينية كمقاتلة في “الناصر صلاح الدين”.
الفن للفن
ارتبطت حياة الفنانة الراحلة بالسينما دون الدراما أو
المسرح، فلم تقدّم في حياتها سوى ثلاثة مسلسلات فقط أولها “إلّا دمعة
الحزن” ثم منزل “العائلة المسمومة”، وأخيرا “ناس ولاد ناس” الذي جاء في خضم
مشوارها الفني في مطلع التسعينات ورصد تقلبات الأسرة المصرية والمشكلات
الاقتصادية التي تواجهها في عصر النفعية المالية والانفتاح الاقتصادي،
فيعمل الابن الأول مساعدا لفني سباكة، والآخر يحاول شق طريقه في عالم
الغناء.
ولم تشارك إلّا في مسرحية وحيدة بعنوان “بُمبَة كشر” عن
سيرة راقصة شهيرة مثيرة للجدل سياسيا كانت معروفة برقصها وعلى رأسها أكواب
ذهبية ممتلئة بالماء، وتوقفت بعدها عن العمل المسرحي، ربما لإيمانها
بافتقارها القدرات الكوميدية الكفيلة بإضحاك الجمهور، فمبدأها في الحياة
كان دائما عدم القبول بأنصاف الحلول أو الالتواء على المنطق.
اتسمت نادية لطفي بأنها فنانة بسيطة لم تغير النجومية من
طبيعتها الشخصية، فظل “الفول” الطعام المفضل لديها في جلسات التصوير، إلى
درجة جعلت زميلها الفنان جورج سيدهم، يردّد مقولة إن الراحلة تلتهم 5 أفدنة
من البقوليات سنويا.
لم تضع نادية لطفي في حساباتها كثيرا لعبة الإيرادات أو
حسابات الأجر فكان هدفها في المقام الأول المشاركة في أعمال خالدة، وألّا
تنساق وراء تخمة الإنتاج في فترة الستينات والسبعينات التي ضمت أعمالا
ضعيفة المستوى، ولا تتضمن فكرة أو هدفا.
يقول الناقد محمود قاسم، لـ”العرب”، إن نادية لطفي أثبتت أن
الفنان في حاجة إلى مخرج ونص متجدّد يبعده عن النمطية التي يصنعها الآخرون،
فإذا كان ممثلون قد نجحوا في إبراز مواهبهم في أدوار الشر بعدما دأبوا على
الشخصيات الطيبة، فإن نادية كان عليها أن تقوم بأدوار لا تناسب بداياتها
كفتاة أرستقراطية، وأن تضطر إلى التخلي عن شعرها الذهبي، وتقوم بدور
العاهرة وبنت البلد وغيرهما.
وحينما علمت برفض مؤسسة السينما (جهة إنتاجية رسمية) تمويل
المخرج شادي عبدالسلام لإنهاء فيلم “المومياء” عن سرقة الآثار المصرية،
بسبب طبيعته المغايرة في الشكل والمضمون عن السينما التجارية التي عهدها
الجمهور، وافقت على الانضمام إلى فريق التمثيل في دور لا يتعدى ثلاث دقائق
ومن دون أي مقابل مالي، لتساهم في عمل احتل المرتبة الأولى في استفتاء
النقاد لعام 2013 لأفضل الأفلام العربية.
ساهم انتقاء الفنانة الراحلة لأدوارها في جعل العديد من
أعمالها تحظى بمكانة خاصة داخل قائمة أعظم 100 فيلم في تاريخ السينما
المصرية، فغالبيتها دار في فلك قضايا إنسانية أو اجتماعية صرفة، وحصلت على
العديد من التكريمات الرسمية كان آخرها في 2019 من قبل وزارة الثقافة
المصرية، وقد فازت حينها بجائزة الدولة التقديرية.
لكن أفضل تكريم من وجهة نظرها كان حصولها على “وسام القدس”
من قبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال زيارته لها في مستشفى المعادي
العسكري مطلع 2019.
كانت الراحلة أولى الفنانات اللاتي شعرن بتضاريس الزمن التي
تطحن الوجوه، فقرّرت الانزواء بعيدا عن الأضواء حتى تظل صورة الفتاة
الجميلة عالقة بالأذهان، واعتذرت عن حضور تكريمها رغم تسمية دورة مهرجان
القاهرة باسمها عام 2004.
وظلت في بيتها تتابع أعمالها القديمة، وتزاول هوايتها
القديمة في إدمان الطهي والكتابة قبل أن تطاردها سمات عصر التكنولوجيا
بعشرات من كاميرات الهواتف المحمولة التي التقطت لها صورا في مناسبات
مختلفة، وحتى قبيل دخولها المستشفى ثم وفاتها.
حافظت الفنانة الراحلة نادية لطفي على مساحة كبيرة في ذاكرة
الجمهور العربي رغم اعتزالها الفن، لتؤكد أن الأدوار الجيدة في السينما
والدراما والمواقف الواضحة من القضايا الاجتماعية والسياسية ميراث كبير
يمكن للفنان أن يخلفه للأجيال القادمة. |