الأستاذ وفائي.. وجوه غائبة لحسن حسني
محمد محمود
غادر الفنان
الكبير حسن حسني عالمنا
في الأيام الماضية، مخلفًا وراءه إرثًا فنيًا مختلف الأطياف، من جد
التراجيديا إلى هزل الكوميديا، في حالة من الشمولية الفنية -إن جاز
التعبير- قلما وجد لها نظير، سواء في جيله أو في ما سبقه وتلاه من أجيال.
خلّف حسن حسني إرثًا فنيًا مختلف الأطياف، من جد التراجيديا
إلى هزل الكوميديا
من المعتاد أن تواجه ذاكرة المشاهد العربي الهوائية هذا
التنوع الفني بنوع من التفضيل الذي يصل ببعض الأعمال حد السماء، ويلقي
ببعضها الآخر إلى أدراج الرياح، دون الالتفات إلى القيمة الفنية للمذكور
والمنسي، فقط الجماهيرية وحدها تحكم، ولا راد لحكمها.
كوميديا حاضرة
وهو ما حدث بالفعل في حالة الفنان حسن حسني، في حياته وعقب
موته، حيث نالت أعماله الكوميدية احتفاء غير مسبوق، كان من أهم مظاهره أن
طفت "إيفيهاته" على السطح، وكأنها تُقال للمرة الأولى، رغم أنها لم تغب
أبدًا.
ما يُزيل الغموض عن هذه الظاهرة هو أن حسن حسني في أوائل
الألفية الجديدة مثّل البوابة السحرية لعبور جيل كامل من ضيق الصعود إلى
براح القمة، من هؤلاء -مثالًا وليس حصرًا- محمد هنيدي ومحمد سعد، اللذين
ساعدتهما عوامل عديدة لاقتحام عوالم المجد من أوسع أبوابها، مثّل حسني أحد
أهم هذه العوامل.
بلُغة السينما نحن نتحدث عن "سَنيّد"، ممثل كبير يقوم
بأدوار ثانوية تضيف العبق إلى بطل شاب وتقدمه إلى الجمهور على طبق من ذهب،
كان من الممكن فعلًا أن تنطبق هذه الحالة على ما نتحدث عنه، بشرط ألا يكون
الممثل المقصود حسن حسني.
موهبة حسني الفذة عصية على أن تحصر في دور مساعد "سنيّد"،
مكنته الموهبة الجلية من تحقيق حضور طاغي أضاف قيمة فنية مميزة إلى كل
الأعمال التي شهدت ظهوره، مما جعل غيابه عن أي فيلم تم إنتاجه بمصر في
أوائل الألفية معضلة تتربص بصنّاع العمل، تربص نقصان حبة الفريز بصانع
الحلوى.
كانت تلك بداية ما عرف بـ السينما الجديدة، تلك السينما
التي ساهمت في تشكيل وعي الأجيال الشابة وجذبها إلى الشاشة الكبيرة، وكانت
كافية جدًا لأن تطفو أعمال حسني الكوميدية على السطح، رغم أن أعماله الجادة
تثبت وتشهد على أننا أمام ممثل عملاق وظاهرة فنية قلما يجود الزمان بمثلها.
دراما غائبة
هناك في تسعينيات القرن الماضي، ومن عوالم دراما أسامة أنور
عكاشة التي يتصارع فيها التيه ضد اليقين، تحديدًا من رائعته
"أرابيسك"،
التي قام ببطولتها الفنان صلاح
السعدني صحبة
رَكب من الفنانين الثِقال الذين استطاع حسني أن يجد لنفسه مكانًا مميزًا
بينهم بواسطة دور "الأستاذ وفائي"، والد أنوار، الباحث عن الحقيقة، غريم
الحياة ونديم الماضي.
لطالما عُرف عكاشة بتساؤلاته الجدلية عن الهوية المصرية،
والتي ظهرت جليه في "أرابيسك"، بين حيرة الأسطى حسن المصري الأصيل، بطل حرب
أكتوبر، واستشراق الدكتور برهان الذي أبهرته أضواء الغرب، مثل الأستاذ
وفائي الشاطئ الذي تتلاقى عليه الأمواج لتهدأ.
ظل عكاشة يتساءل في فنه وصحافته عن الهوية المصرية، يمجد
أشخاصًا ويضع آخرين تحت النعال، إلا أنه بين هذا وذاك بدا دومًا معتزًا
بمصريته، فخورًا بكون المصريين عبروا أزمنة المحتلين والغزاة دون أن تعبرهم،
وهو ما مثله الأستاذ وفائي ببراعة وحرفنة منقطعة النظير.
الأستاذ وفائي فنان مغمور يرسم لوحات لا يراها غيره، مدرس
تاريخ يمسك بتلابيب الماضي، يحتفظ بجزء منها في كرسي السلطان سليم الأول
الذي يحتفظ به لديه ثم تقوم مؤامرة لانتزاعه منه، يخوض النقاشات مع الأسطى
حسن والدكتور برهان فينتصر لمنطقه الوجيه، دون أن يشعر أحدًا منهم بضاءلته.
تمثّل شخصية الأستاذ وفائي، في مسلسل "أرابيسك" نقطة التقاء
وجهات النظر المتناقضة
شخصية الأستاذ وفائي المركبة ذات الثقافة الموسوعية
والمستوى الاجتماعي المتواضع، والتي تمثل كذلك نقطة التقاء وجهات النظر
المتناقضة، كان لا بد لها من أداء سهل ممتنع، قام به حسني على أكمل وجه
وعلى الشكل الذي يشعرك أنه ولد ليكون وفائي، مثقف حينما يتطلب الأمر، وقعيد
قهاوي بلدي حين تقتضي الدراما.
رحل حسني من عالم إلى عالم، ولكن مشاهده تبقى شاهده على
ممثل متفرد لم يدخل سباقًا إلا وأصر على الفوز وناله، رحلة ومغامرة ومشقة
وترحال وقصة كتبت سطرها الأخير: حط الفارس أمتعته ولكن الرائحة لا تزال
تعبق بالأجواء.
كاتب من مصر |