من أقوى "إفيهات" الكاتب والسيناريست المصري الراحل وحيد
حامد، ما جاء في فيلم "كشف المستور" للمخرج عاطف الطيب، على لسان سلوى
شاهين (نبيلة عبيد) عميلة المخابرات وهي تواجه المسؤول عنها: "يعني كل
الكفاح اللي كافحناه على السراير ماجبش أي نتيجة؟!"
سؤال أقرب إلى الحسرة، وإقرار بالهزيمة. سؤال عن جدوى
النظام البوليسي كله. وهذا لا يبعد كثيرًا عن فيلم آخر كتبه وحيد حامد
لنبيلة عبيد هو "الراقصة والسياسي"، عن قصة لإحسان عبد القدوس. وكان حامد
من الأصوات الجريئة في عالم الكتابة، في حين كان عاطف الطيب هو الأعلى
صوتاً، والأشد غضبًا، بين مخرجي جيله، منذ صرخة "سواق الأتوبيس"، وربما
"كشف المستور" الذي يظلّ أقل حدّة من صرخة "البريء"، كتبه أيضاً وحيد حامد،
ومثّله أحمد زكي.
ما بعد نكسة يونيو
فالانشغال بميراث، ما بعد نكسة يونيو، مرورًا بمحطة
الانفتاح "السداح مدّاح"، بتعبير الكاتب أحمد بهاء الدين، كان أساسيًا عند
أبناء هذا الجيل كتّابًا ومخرجين.
ربما الفارق الوحيد في حدة النبرة التي التزم بها عاطف
الطيب حتى الممات، بينما تحرر منها تباعًا رفاق الدرب. هذا الانشغال
السياسي (متفاوت النبرة)، لازم وحيد حامد في مجمل أعماله، حتى وإن بدا
الفيلم هزليًا مثل "الهلفوت" لعادل إمام. فالحمال المغيّب عن الوعي،
والمكبوت، يتقاطع مصيره مع "الفتوة عسران" الذي ينال كل شيء بسهولة، وهنا
يقول "الهلفوت" واحدة من أكثر جمل وحيد حامد استبصارًا: "الراجل مخوخ
(أجوف) من جوه وراعب بلد بحالها".
رسائل سياسية
كان وحيد حامد بارعًا في تمرير مقولاته، ومناورة الرقابة،
يساعده في ذلك ولعه بتشييد السيناريو حول شخصيات لا تغادر الذاكرة. فكل
فيلم كتبه، مُسيّس بالضرورة، إلى أن يثبت العكس، مهما بدا بعيدًا عن
السياسة. ومن أشهر العلامات في مسيرته: "اللعب مع الكبار"، و"معالي
الوزير"، و"عمارة يعقوبيان" عن رواية علاء الأسواني.
لكن يظلّ "سوق المتعة" لمحمود عبد العزيز، الديستوبيا
السياسية الأجمل، والأكثر سخرية عن السجن الكبير، الذي نصنعه لأنفسنا، ولا
نستطيع الخلاص منه. فالسجين أحمد حبيب (والذي خرج من سجنه)، لم يشعر بطعم
الحرية، ووجد نفسه منغمسًا في ممارسة حياته كما كان في السجن. وبصدفة قدرية
يحصل على ثروة كبيرة، يقرر استثمارها في "صناعة سجن" مطابق لسجنه الحقيقي،
بنفس السجّان والمساجين.
في نصوص وحيد حامد استلهام للنص المحفوظي، ولا شكّ أنّ نصوص
محفوظ ظلّت ملهمة لكل كتاب السيناريو من أبناء جيله، خصوصًا محسن زايد الذي
عالجها مباشرة. لكنّ وحيد حامد "استحلبها" من مخزونه القرائي ووعيه الباطن،
وخير مثلٍ على ذلك قصة "الحمّال والفتوة" في "الهلفوت"، وحتى في مسلسله
الشهير "بدون ذكر أسماء"، حيث يحضر صدى رواية "القاهرة 30".
كما لا يغيب استلهام نصوص وأفلام عالمية، تسهل الإشارة
إليها، لكن هذا لا ينفي عن حامد أصالته في إسباغ الروح المصرية عليها، لأنه
اقتباس من يؤمن بكلمة، وليس اقتباس "صنايعي".
الإسلام السياسي في أعماله
بموازاة الخط السياسي، انتبه حامد، بحسه الصحافي والقارئ
لتحولات المجتمع المصرية المتداعية، إلى ظاهرة الإسلام السياسي، وكان من
أبرز كتاب جيله مواجهة للظاهرة، ليس فقط عبر أفلامه، بل حتى مقالاته في
الصحف، بحيث كان خصمًا عنيدًا عبر أعمال مثل "طيور الظلام"، و"الإرهاب
والكباب" وكذلك مسلسل "الجماعة".
وفي كلا المسارين، كان يدرك كمثقف مستنير، صعوبة أي تطور
نحو الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، طالما أن الوعي العام مستلب
بين فكيّ كماشة الأنظمة البوليسية، وشعارات الجماعات الأصولية.
شكل المساران أهم رافدين في تجربة حامد، وما بينهما مسار
ثالث أقرب إلى النقد الاجتماعي، مثل "آخر الرجال المحترمين" و"غريب في
بيتي" بطولة نور الشريف، و"حدّ السيف" لمحمود مرسي، و"اضحك الصورة تطلع
حلوة" لأحمد زكي.
ولم تخل تجربته من بعض الأفلام التجارية المتأرجحة مثل "نور
العيون" لفيفي عبده، أو معالجات متواضعة لنصوص عالمية كما في "رغبة متوحشة"
عن المسرحية الإيطالية "جريمة في جزيرة الماعز" لأوبتي.
مع عادل إمام
وربما لا ينتبه الكثيرون إلى الشراكة الممتدة بين عادل إمام
ووحيد حامد، والتي ساهمت في تتويجه "زعيم الكوميديا" خصوصًا في بداياته،
لأن نصوصه وفرت الضحك والسخرية إلى جانب قوة الكلمة وبراعة الإسقاط. وأثمرت
هذه الشراكة عن أعمال مثل: الهلفوت، اللعب مع الكبار، الغول، الإرهاب
والكباب، مسجل خطر، عمارة يعقوبيان، ومسلسل عادل إمام الأول والأشهر "أحلام
الفتى الطائر".
ومعظمها أعمال لا تعالج فكرة "الفتوة" في منحاها السياسي
فحسب، بل أيضًا في المنحى الاقتصادي، وارتباط الثروة بالقوة والفساد.
مسيرة وحيد حامد تغطي لأكثر من أربعين عامًا، ما شهده
المجتمع المصري من تغيرات دراماتيكية: ثورات واغتيال ساسة، وحروب ونكسة
ومعاهدة سلام مع عدو الأمس، وإرهاب، وأثرياء جدد.
وكان قلم وحيد حامد الأكثر حساسية في التعبير الفوري، عن كل
ذلك. والأصدق تعبيرًا عن "الميراث المرّ" لما بعد النكسة. |