تعقد في مدينة الأقصر التاريخية الجنوبية الشهر الجاري
الدورة العاشرة لمهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، بمشاركة 120 سينمائياً
عربياً وأجنبياً وتنافس نحو 80 فيلماً روائياً ووثائقياً طويلاً وقصيراً من
ثلاثين دولة إفريقية في أقسام المهرجان ومسابقاته، أما مسابقة أفلام
الدياسبورا فتسمح بمشاركة أفلام غير إفريقية. ويحلّ السودان ضيف شرف
المهرجان.
وتقام عروض المهرجان وأنشطته في أماكن مفتوحة، تطبيقاً
لإجراءات الوقاية من الإصابة بفيروس كورونا، حيث تُعدّ الأقصر متحفاً
مفتوحاً بمعابدها الفرعونية الصرحية الشاهقة التي كانت تشهد حفلي الافتتاح
والختام، سواء معبد الأقصر ومعبد الكرنك، وتشهد هذه الأماكن عروضاً لأفلام
الدورة العاشرة التي تفتتح 25 مارس وتستمرّ حتى 31 مارس.
تنظم المهرجان مؤسسة "شباب الفنانين المستقلين"، وهي مؤسسة
غير ربحية تعمل في مجال الفنون والثقافة منذ عام 2006. وفي عام 2011 نظمت
المؤسسة ـ باعتبارها عضواً في ائتلاف الثقافة المستقلة ـ أنشطة جماهيرية
عنوانها "الفنّ ميدان" في القاهرة والمحافظات. وفي ديسمبر 2011 شاركتْ في
تنظيم احتفالات، في القاهرة والإسكندرية والأقصر، بمناسبة مئوية نجيب محفوظ
(1911 ـ 2006)، وكان مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية عنواناً بارزاً
لمشروع يتوّج أنشطتها، وتكسر به مركزية القاهرة في احتكار الفنون، ويتخطى
الحدود الجغرافية لمصر.
قبل تأسيس مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، لم تكن المساحة
المتاحة في المهرجانات المصرية، إن أتيحت ولو على استحياء، تدلّ على
الحاضنة الإفريقية، وهي قدَر الانتماء الجغرافي لمصر.
في مايو 1990 جاء نيلسون مانديلا إلى مصر، وحرص على زيارة
قبر جمال عبد الناصر، وكلاهما ولد عام 1918. وفي احتفال كبير أقامته جامعة
القاهرة، لمنح مانديلا درجة الدكتوراه الفخرية، قال إنه بعد صعود الدّور
المصري في دعم حركات التحرّر منذ خمسينيات القرن العشرين، كان هناك في أقصى
جنوبي القارة، يتخيل عبد الناصر بعد تأميم قناة السويس في يوليو 1956،
ويشبّ على أطراف أصابعه لعلّ الزعيم يراه.
الأقصر أكبر متحف مفتوح في العالم، وجاء المهرجان لكي يعيد
الزهو التاريخي إلى "طيبة"، عاصمة الدولة المصرية الحديثة التي تأسست حوالي
عام 1567 قبل الميلاد
دول عربية وإفريقية وأوروبية وآسيوية وأمريكية سبقت مصر إلى
تنظيم مهرجانات للسينما الإفريقية. وبحكم ميراث مصري، عزّزه شعار القطيعة
والانكفاء "مصر أولاً" خلال حكم أنور السادات، تمّ التمحور الزائد حول
الذات. ومع اقتراب إقامة المهرجان، أثيرت أسئلة: هل توجد في إفريقيا أفلام
تكفي لإقامة مهرجان؟ من يتحمس للمشاركة بفيلمِه في مهرجان وليد أنشأته
مؤسسة أهلية شبابية؟ وكيف تحتمل مدينة الأقصر، الخالية من دار للسينما،
عروضاً لمهرجان يجب ألا يخذل ضيوفه؟
قدم الافتتاح، مع انطلاق الدورة الأولى، إجابة حاسمة على
هذه الشكوك والمخاوف. مشهد يقول إننا مقبلون على مهرجان مختلف: ضيوفه،
وأفلامه، وأنشطته المتنوعة، ووجوهه، ولجان تحكيمه، وافتتاح غير تقليدي يبدأ
بجولة في نهر النيل تحت الشمس وينتهي في ساحة معبد الأقصر في حضرة البنّاء
العظيم أمنحتب الثالث.
تمثيل إفريقي مشرّف يؤكّده وجود مخرجين وممثلين لم تفلح
أضواء مهرجان القاهرة السينمائي في أن تجذبهم وتجمعهم في دورة واحدة،
يلتقون ربما للمرة الأولى بمخرجين بارزين منهم الموريتاني عبد الرحمن
سيساكو والإثيوبي هايلي جريما، وقد جاءا من آخر الدنيا إلى الأقصر. وكان
شاكر عبد الحميد قد تولى وزارة الثقافة وجاء لافتتاح المهرجان، مع المحافظ
الجديد للأقصر السفير عزت سعد.
الأقصر أكبر متحف مفتوح في العالم، وجاء المهرجان لكي يعيد
الزهو التاريخي إلى "طيبة"، عاصمة الدولة المصرية الحديثة التي تأسست حوالي
عام 1567 قبل الميلاد، مع نجاح الملك أحمس في تحرير مصر من الغزاة الهكسوس.
ويسمي علماء الآثار والمصريات تلك المرحلة التي استمرت حتى عام 1320 قبل
الميلاد "عصر الإمبراطورية". وكان أفولها مقدمة لغروب مصري طويل، لا يخلو
بالطبع من محاولات مجهَضة، وناجحة أحياناً، لاستعادة مصر إلى أهلها، ومنها
لحظة يناير 2011.
وإذا كانت الأعمال بالنيات، فإن المهرجانات ليست كذلك. لا
يكفي نبل الهدف وصدق الفكرة لإنجاح مشروع. وشأن أي عمل جماعي، جاء مهرجان
الأقصر للسينما الإفريقية ثمرة جهود تتفاعل وتتكامل وتستمر؛ فقد أطلق
المهرجان السيناريست سيد فؤاد بصفته صاحب ومبدع الفكرة والمشروع، وسجل
المهرجان باعتباره "مصنفاً مكتوباً".
من الإستراتيجيات التي حددتها "ورقة المشروع" تكوين قاعدة
بيانات إلكترونية عن السينما والسينمائيين الأفارقة، وتهيئة الأجواء
الجمالية لاستقبال الفيلم الإفريقي في مصر
وعلى الفور تولت المخرجة عزة الحسيني صياغة الحلم، ووضع أطر
عملية لتطويره. وبعد ترجمة المشروع إلى مهرجان، لا تزال تتعهده بإضافة
أنشطة جديدة يشارك فيها مجتمع الأقصر المحلي، أو ينجزها المهرجان بالتعاون
والتوأمة مع مهرجانات في القارة الإفريقية وخارجها.
وفي "ورقة المشروع" التي صاغتها عزة الحسيني إشارة إلى
علاقات سياسية واقتصادية بين إفريقيا وكلٍّ من الصين وكندا، "في حين أن مصر
لا يوجد بها أي تواصل ثقافي أو فنّي مع القارة التي تربطها بها كلّ هذه
العلاقات التاريخية والثقافية والجغرافية... ولم يحدث حتى الآن (قبل
المهرجان) أي تواصل معها على المستوى السينمائي".
ومن الإستراتيجيات التي حددتها "ورقة المشروع" تكوين قاعدة
بيانات إلكترونية عن السينما والسينمائيين الأفارقة، وتهيئة الأجواء
الجمالية لاستقبال الفيلم الإفريقي في مصر، وإعادة عرض الأفلام الفائزة في
المهرجان بمراكز ثقافية في القاهرة والإسكندرية وغيرها.
جاءت الدورة الأولى للمهرجان (2012) امتحانا لطموحات "ورقة
المشروع". ومنذ حفل الافتتاح بدا المهرجان حالة حب فرحة للأفارقة باستعادة
مصر، وسعادة للمصريين بعودة الثقة، والرهان على السينما والثقافة عموماً في
إصلاح الخطايا السياسية.
وكان ختام الدورة الأولى، على شرف جمال عبد الناصر، بتصفيق
الحاضرين طويلاً لكلمة ارتجلها هايلي جريما "المكرم"، حين تحدث عن آباء
إفريقيا، وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر. هذا المعنى نفسه شدد عليه عبد
الرحمن سيساكو عضو لجنة التحكيم الذي يزور مصر للمرة الأولى، وكان قد رفض
دعوات سابقة، ولم يتردد في تلبية هذه الدعوة؛ لأن المهرجان إفريقي، ولأن
مصر ثارت في 25 يناير 2011، واستعادت روحها، وتريد بصدق تجديد دورها
الإفريقي.
شهد ختام الدورة الأولى، في الفضاء الرحب بساحة معبد
الكرنك، استعادة أجواء الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. تجاوب
الحاضرون مع منصة يتردد فيها ذكر جمال عبد الناصر، وكان هناك أعضاء لجنة
التحكيم ومحافظ الأقصر عزت سعد، وعماد أبو غازي الذي ابتسم، ولم يصفق. وبعد
قليل، سألتُه في حفل العشاء، وأنا أعرف أنه لا يحبّ عبد الناصر: كنتَ
الوحيد الممتنع عن التصفيق، ألا يستحق عبد الناصر أكثر من ابتسامتك، مجاملة
للمصفّقين لذكراه؟ فقال ضاحكاً: "مش ممكن!". |