مسابقة كان 74 (3): تجارب متباينة مخلصة لأساليب صناعها
أحمد شوقي
نواصل تحليل أفلام المسابقة الدولية لمهرجان كان السينمائي
الدولي الرابع والسبعين، مع خمسة أفلام جديدة من المسابقة نصل بها لتغطية
14 فيلمًا من أصل 24 تتنافس على السعفة الذهبية، أرفع الجوائز السينمائية
السنوية. وفي هذه المجموعة الثالثة تجارب يجمعها إخلاص كل منها لخصوصية
أسلوب صانعه الذي عرفناه من خلال أعماله السابقة.
ثلاثة طوابق
Three Floors –
ناني موريتي (إيطاليا)
ينتمي ناني موريتي إلى نوعية صناع الأفلام الذي يرفضون
تغيير مسارهم المميز، فلا يحب الإيطالي المخضرم الذي فاز بالسعفة الذهبية
قبل عشرين عامًا بالضبط عن "غرفة الابن
The Son’s Room"
أن يدخل أراضٍ جديدة سرديًا وبصريًا، فقط يستمر فيلمًا بعد آخر في إعادة
اكتشاف نفس المساحة الدرامية: حيوات البشر العاديين، وكيف يمكن لترتيبات
القدر وأحيانًا المصادفات أن تؤثر بشكل غير قابل للتصحيح أو التراجع.
في فيلمه الجديد المأخوذ عن رواية الكاتب الإسرائيلي أشكول
نيفو يمد موريتي تجربته لتشمل أربع عائلات تعيش في بناية واحدة من بنايات
روما الكلاسيكية الأنيقة، العائلات تعيش في منزل من ثلاثة طوابق يشهد كل
منها حكاية (هناك حكاية تجمع أسرتين من الأربعة). وتشهد حياة كل منهم ذروة
خلال ساعات، تبدأ بحادث سير في المشهد الأول للفيلم.
مونيكا (ألبا رورفاكر) امرأة على وشك الولادة، تغادر منزلها
ليلًا متجهة إلى المستشفى وحيدة، لتشاهد سيارة مسرعة يقودها الشاب المخمور
أندريا (أليساندرو سبيردوتي) فيصدم امرأة تسير في الشارع، قبل أن تقتحم
السيارة واجهة البناية محطمة جدار مكتب لوتشيو (ريكاردو سكامارتشيو) الجار
الذي يعيش في الطابق الأرضي مع زوجته وابنته الصغيرة. نعلم لاحقًا أن
أندريا هو ابن القاضي فيتوريو (ناني موريتي نفسه) ودورا (مارجريتا باي)،
المختلفان حول كيفية التعامل مع تمرده، واللذان يعلمان أن السجن أصبح مصيره
الأقرب بسبب الحادث. أما لوتشيو والذي يعتمد وزوجته على ترك الطفلة مع
جيرانهما العجائز، فيتسبب حادث في سيطرة الهوس عليه اعتقادًا أن جاره
العجوز قد انتهك الابنة جنسيًا.
تعمدنا سرد الملخص كاملًا للتأكيد على أمرين: زخم الدراما
في كل خط من الخطوط الثلاثة، وقدرة موريتي الدائمة على توظيف مجموعة من أهم
الممثلين في السينما الأوروبية يشكلون معًا باقة تمثيلية تمنح أفلامه ثقلًا
دائمًا على مستوى الأداء.
الفيلم المقسم إلى ثلاثة أقسام، أولها مدته ساعة وفيه نشاهد
التبعات الشيقة دراميًا وإنسانيًا لنقطة الانطلاق سابقة الذكر، قبل قسمين
كل منهما نصف ساعة تقفز الحكاية في كل منهما خمس سنوات للأمام (أي أن
الأحداث بشكل تقريبي تدور بين أعوام 2010 و2015 و2020).
يطرح موريتي بطبيعة الحال سؤال الزمن، وكيف يمكن لمرور
الأعوام أن يغير من ديناميات العلاقات بين البشر، محبة كانت أو عداء. لكن
أزمة "ثلاثة طوابق" تكمن في أن كل جزء من الثلاثة أضعف من سابقه، وأنه كلما
قفز النص خمس سنوات أتت مصائر الشخصيات أقرب للميلودراما التليفزيونية منها
للتطور ذي النبرة الواقعية المسيطر على القسم الأول من الفيلم.
وبالنظر إلى فيلموغرافيا ناني موريتي وأعماله السابقة، يبدو
"ثلاثة طوابق" فيلمًا صغيرًا مشابهًا لأعمال سابقة دون إضافة جديد. فيلم
يحمل قدرًا من الزخم الإنساني والدراما المؤثرة، لكنه سيبقى ذي قيمة محدودة
في مسيرة واحد من أساتذة السينما المعاصرين.
قد سيارتي
Drive My Car –
ريوسوكي هاماجوتشي (اليابان)
هناك تيمات متكررة في روايات وقصص الكاتب الياباني الشهير
هاروكي موراكامي يعرفها جميع القراء، بدأت في مرحلة رواياته الواقعية
واستمرت مع بدء ارتباطه بالفانتازيا. إخلاص الشخصيات لروتين يومي، علاقات
الزواج طويلة الأمد وتأثيرها على المشاعر، التعامل مع فعل الخيانة،
واللقاءات غير المتوقعة بين شخصيات لديها ماضي يجمعها، وبالطبع الإيقاع
الهادئ الذي تحدث التغيرات فيه للشخصيات بتراكم المشاعر الطفيفة كل يوم.
معرفة هذه التيمات يجعلنا نقول أن "قد سيارتي" لريوسوكي
هاماجوتشي هو أحد أكثر المعالجات الفيلمية إخلاصًا لأدب موراكامي، بصورة
تجعله عملًا مشبعًا لمحبي الكاتب صاحب العوالم شديدة الخصوصية، والذي تظهر
كتاباته في مسابقة كان للمرة الثانية خلال ثلاث سنوات، بعدما نال "إحراق
Bruning"
للكوري لي تشانج دونج إعجاب الجميع عام 2018.
المخرج هاماجوتشي هو الآخر ظاهرة حديثة تستحق الإعجاب،
فالرجل يعيش قمة نشاطه وتألقه الفني، في سبتمبر الماضي فاز فيلم "زوجة
جاسوس
Wife of a Spy"
الذي كتب السيناريو الخاص به وأخرجه صديقه كيوشي كوروساوا بالأسد الفضي
لمهرجان فينيسيا، قبل أن يفوز فيلمه كمؤلف ومخرج "عجلة الحظ والخيال
Wheel of Fortune and Fantasy"
بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان برلين مارس الماضي، وها هو بعد أربعة
أشهر فقط يظهر في مسابقة كان، في حدث بالغ الندرة أن يتنافس نفس الفنان في
المهرجانات الثلاثة الكبرى خلال أقل من عام.
يجيد هاماجوتشي التعامل مع قصة موراكامي "قد سيارتي"، وهي
قصة متوسطة الطول من حوالي 30 صفحة افتتح بها مجموعته "رجال بلا نساء"،
تنطلق الدراما فيها من اضطرار ممثل ومخرج مسرحي لأن يغير روتينه اليومي
ويستعين بسائقة تقود سيارته الشخصية خلال إخراجه عرضًا مسرحيًا في مدينة
أخرى. الحدث الذي يؤخره هاماجوتشي لما بعد مرور 40 دقيقة من الفيلم،
معتبرًا تلك الدقائق مقدمة للفيلم الذي يصل زمنه لثلاث ساعات، حتى أن تترات
البداية لا تظهر إلا بعد مرور كل هذه الدقائق!
القرار وإن كان مختلفًا عن الأصل الأدبي إلا أنه يعبر عن
وعي عميق بجوهر القصة، فالمقدمة الطويلة نفهم من خلالها ماضي البطل كافوكو،
سواء قصة الحب الذي يمزج بين الانجذاب الفكري والجنسي مع زوجته المؤلفة
أوتو والتعايش مع ألم فقد ابنتهما الوحيدة، أو صدمته باكتشاف خيانتها له
وتعامله مع الاكتشاف، ثم انتهاء كل شيء بالوفاة المفاجئة لأوتو، ليكون
لانتقال كافوكو إلى هيروشيما وتعرفه على السائقة ميساكي واكتشافه أن الممثل
الشاب الذي كانت زوجته تخونه معه ضمن ممثلي العرض، هذا الثقل الدرامي الذي
يمتد أثره حتى النهاية.
تسير الأحداث بإيقاع هادئ ناضج، يحتاج مشاهد صبور لا ينتظر
دراما ضخمة ولا مواجهات صاخبة في كل مشهد، بل يتفهم الشخصيات ويتابع تطور
علاقاتها ورؤيتها للعالم شيئًا فشيئًا، في أحد أقوى أفلام المسابقة حتى
الآن.
جزيرة بيرجمان
Bergman Island –
ميا هانسن لوف (فرنسا)
لعل أكثر ما يميز أفلام الفرنسية ميا هانسن لوف هو أبرز
عيوبها في الوقت ذاته. فالمخرجة ذات مسيرة ملفتة للانتباه في قدرتها على
تجاهل كل الأفكار الكبرى التي تسيطر على العالم بشكل عام وعلى صناع الأفلام
بشكل خاص. ففي الوقت الذي ستجد في أغلب الأفلام فكرة ما يمكن ربطها بجدل
قائم، فإن هانسن لوف تهتم بأمور ذاتية تمامًا، هواجس وأفكار تخصها تبقى
متاحة لمن يمكنه التماس معها، فمن يجد هذا الاتصال يستمتع، ومن لا يعثر
عليه تبقى علاقته بالفيلم مبتورة كليًا.
في فيلمها الجديد تذهب ميا إلى جزيرة فارو أو "جزيرة
بيرجمان" كما صار الجميع يعرفها، فهي الجزيرة التي قصدها المخرج السويدي
الأسطوري إنجمار بيرجمان ليصور فيها بعض أفلامه، ثم قرر الانتقال والعيش
فيها حتى نهاية حياته. الأمر الذي حولها مزارًا سياحيًا يقصده محبو أفلام
بيرجمان لزيارة منزله وأماكن تصويره وتفاصيل حياته اليومية، وصارت كذلك
مقصدًا فنيًا لكُتاب وصناع أفلام يذهبون هناك لقضاء منح إقامة لإنجاز
أفلامهم.
تذهب كريس (فيكي كريبس) وزوجها توني (تيم روث) في واحدة من
تلك الإقامات. كلاهما صانع أفلام وإن كان توني أكثر نجاحًا وشهرة، وكلاهما
يحاول العمل على مشروعه الجديد خلال الإقامة في المنزل الذي صور فيه
بيرجمان فيلم "مشاهد من زواج"، الذي تصفه المرأة القائمة على رعاية المنزل
بأنه "الفيلم الذي تسبب في طلاق الملايين حول العالم"!
في الأمر إشارة ذاتية واضحة لحياة ميا هانسن لوف، وللعلاقة
التي جمعتها لسنوات طويلة مع المخرج الفرنسي ذائع الشهرة أوليفيه أساياس
وانتهت مؤخرًا بالانفصال. وكأن المخرجة تحاول في أحد مستويات فيلمها تحليل
ماضيها مع شريكها السابق، وبحث شكل العلاقة بين فنانين كلاهما شخص جيد محب
مؤمن بالآخر (فلا توجد مشكلات حقيقية بين بطلي الفيلم)، لكن أسباب الانفصال
تبقى موجودة تحت السطح تنتظر الفرصة كي تظهر.
يقدم الفيلم كذلك تحية سينيفيلية كبيرة لبيرجمان وسينماه،
لا سيما في نصف الفيلم الأول الذي ننطلق المخرجة فيه في رحلة لجزيرته، رحلة
فعلية بزيارة مواقع الحياة والتصوير، ورحلة فكرية بالنقاشات المستمرة بين
الأبطال ومن حولهما عن سينما بيرجمان وحياته، مع إشارة للجانب المظلم في
حياة الرجل وهو أنانيته وغياب دوره كأب لتسعة أبناء أنجبهم من ست زيجات.
خلال النصف الثاني تتحول هانسن لوف لتقنية الفيلم داخل
فيلم، عندما تبدأ كريس في سرد الفيلم الذي بدأت في كتابته والذي تدور
أحداثه بطبيعة الحال في جزيرة فارو، ليتنقل السيناريو بذكاء بالغ بين حياة
كريس وحياة بطلتها المناظرة لها، قبل أن تذوب الفوارق بين الواقع والخيال
في نهاية أفضل ما فيها هو انفتاحها على كافة الاحتمالات. نهاية تكمل فيلمًا
ستكون علاقة أي مشاهد معه قطعية، فإما أن يمسّ شيئًا داخلك فتقع في غرامه،
أو تجد نفسك تتابع أحداثًا لا تدري لماذا يمكن أن تروى في فيلم.
أنفلونزا بيتروف
Petrov’s Flu –
كيريل سيربرينيكوف (روسيا)
لن تجد مراجعة نقدية غربية واحدة أو حتى خبر نُشر قبل عرض
الفيلم في كان لا يشير لحقيقة تعرض المخرج كيريل سيربرينيكوف للإقامة
الجبرية في منزله على هامش فساد مالي خلال إدارته لأحد المسارح الروسية.
العقوبة التي أنهاها المخرج وصار بإمكانه الخروج والعمل ليصور "أنفلونزا
بيتروف"، وإن لم يُسمح له بعد بمغادرة البلاد، لذا فقد عُرض الفيلم وظل
مخرجه في موسكو.
التفاصيل تغيب عن تلك القضية، التي يُظهرها الإعلام الغربي
باعتبارها قضية رأي تم تلفيق التهمة فيها لسيربرينيكوف بسبب آراءه المعارضة
وأفلامه التي تشير دائمًا لعلاقات مثلية يجرمها القانون الروسي. لكن الخبرة
علمتنا أن الفارق بين رأي الإعلام الغربي والواقع دائمًا كبير، وأن المخرج
الذي تمكن من تصوير فيلم بهذه الضخامة يصعب أن يكون هناك تضييق حول عمله.
الأزمة هنا أن السينما تذوب وسط أحاديث السياسة، وكل تفصيلة
في الفيلم يُسرع النقاد الغربيون ليفسروها على طريقتهم ويمنحوها بُعدًا
نضاليًا، والمناضل بالطبع يستحق الحفاوة أكثر من غيره (سينما سيربرينيكوف
في مواجهة سينما ميا هانسن لوف)، وهو ما حدث مع ذلك الفيلم العسير على
الفهم، والذي حاول فيها المخرج فعل كل شيء شكلًا ومضمونًا فانتهى المستوى
متخبطًا.
أسرة يتشارك أفرادها الثلاثة اسم "بيتروف" يخوض كل منهم أحد
أغرب أيام حياته في روسيا ما بعد سقوط الشيوعية: الجميع مصاب بأنفلونزا
ترفع درجة حرارته وتضعه في حالة أقرب للهذيان، فيبدأ كل منهم في خوض رحلته
الداخلية: الأب (سيميون سرزين) عامل صباحًا ورسام كوميكس مساء، يبدأ في
رحلات تخيلية للحظات من ماضيه أقرب لمنطق الحلم، بعضها مصور بالأبيض
والأسود والبعض مصوّر بنسب عرض قديمة وصورة أقرب للتصوير بالخام.
الزوجة (تشولبان خاماتوفا) أمينة مكتبة تمتلك سرًا خطيرًا،
ففي أوقات تتحول عينيها للون الأسود وتمتلك قدرات خارقة على الطيران والضرب
كأبطال القصص المصورة، وتنفتح شهيتها على إراقة الدماء حتى أنها تتخيل ذبح
ابنها (فلاديسلاف سميلتيكوف) الذي يُكمل مثلث الأنفلونزا بهذيانه المتعلق
بالكائنات الفضائية التي اختطفته وأثرت عليه!
فيلم جنوني كما يمكن لكل من يقرأ الملخص السابق أن يتخيل
قدر صعوبة استيعاب ما يحدث فيه، لدرجة جعلته أحد أكثر أفلام المسابقة التي
شهدت خروج المشاهدين خلال العرض الصحفي. وبالرغم من الجهد الواضح والتميز
البصري، إلا أن الفيلم يختبر في كل لحظة قدرتك على المواصلة وأنت بالكاد
تفهم ما تراه أمامك، خاصة مع زمن الفيلم الممتد لساعتين ونصف.
يمكن الاختلاف والاتفاق كثيرًا على المستوى الفني العام
للفيلم، وعلى فكرة جودة التفاصيل على حساب وجود شيء يمكن تلقيه من الفيلم
ككتلة واحدة، لكنه بالتأكيد ليس عملًا نضاليًا، وحتى الصورة السوداوية التي
يُظهر فيها العالم السفلي للمجتمع الروسي لطالما شاهدناها في أفلام أخرى لم
يتم منع مخرجيها من السفر. وفي تقدير كاتب هذه السطور هو استمرار للضجة
المثارة حول سيربرينيكوف لأسباب لا تتعلق بمحتوى أعماله.
الرسالة الفرنسية
The French Dispatch –
ويس أندرسون (الولايات المتحدة)
قد يكون ويس أندرسون هو أكثر صانع أفلام معاصر يمكن معرفة
أي مشهد، بل أي لقطة، من إخراجه بمجرد إلقاء نظرة عليها. هذه المهارة
الخاصة على توظيف الألوان والديكور، والتكوينات التي تميل لوضع الشخصيات في
المنتصف واستخدام السيمترية بين نصفي الكادر، وبالطبع اللقطات بالغة
الاتساع للمباني. كلها بصمات تجعل الفيلم الجديد لويس أندرسون حدثًا بصريًا
في حد ذاته.
"الرسالة
الفرنسية" حدث بصري وفني أيضًا، قرر أندرسون وأصحاب حقوق الفيلم تأجيل عرضه
عامًا كاملًا بعدما كان من المقرر أن ينطلق في كان 2020، وهو الأمر المنطقي
ليس فقط للحصول على عرض عالمي أول كبير حقيقي لا افتراضي، ولكن لأن الفيلم
مشروع ضخم لم يكن من الممكن عرضه خلال العام الماضي وسط الجائحة وتأثيرها
على اقتصاديات السينما.
بيل موراي، أوين ويلسون، تيلدا سوينتون، إليزابيث موس،
فرانسيس مكدورماند، بينوتشو ديل تورو، ليا سيدو، أدريان برودي، تيموثي
تشالاميت، جيفر رايت، ليف شرايبر، إدوارد نورتون، كريستوفر فالتز، ماتيو
أمالريك، ساشا رونان، ويليام ديفوى، وآخرين. طاقم تمثيل مرعب يمكن لكل اسم
فيه أن يكون مصدر جذب لفيلم كامل. فكيف يمكن لفيلم واحد أن يجمعهم؟ وكيف
يمكن لهذا العدد من نجوم الصف الأول في السينما العالمية الموافقة على
الظهور في أدوار لا تتجاوز عدة مشاهد وأحيانًا مشهد واحد؟
الإجابة هي ثقتهم في المشروع وصانعه، الثقة في ويس أندرسون
الذي يظهر معه الممثلون دائمًا في صورة مغايرة عن كل أعمالهم الأخرى، وفي
المشروع الذي يأتي هذه المرة في صورة من الصعب تخيلها سينمائيًا: في صورة
مجلة!
"الرسالة
الفرنسية" هو اسم المجلة الخيالية التي أسسها ناشر أمريكي مخضرم (بيل
موراي) في مدينة فرنسية وهمية، ليجمع خلالها فريق من أمهر الصحفيين
والمراسلين، ليقدم الفيلم العدد الأخير من المجلة والذي يتم نشره بعد وفاة
المؤسس. وبالتالي، فقد قام أندرسون بتقسيم الفيلم إلى خمسة أقسام، مقدمة
خفيفة من موضوعات الرحلات، ثم ثلاث موضوعات كبيرة من أقسام الفن والسياسة
والطهي، ثم خاتمة هي أخبار الوفيات بنعي الناشر المؤسس.
كيف يمكن أن نشاهد مجلة في فيلم سينمائي؟ هذا السؤال الذي
يجيب عنه أسلوب ويس أندرسون. والذي يقدم هنا واحدًا من أكثر الأفلام
الأنطولوجية فرادة، سواء في اختلاف الشكل الذي يُقدم به كل جزء أو قصة، في
النبرة التي تتغير في كل مرة لكنها تحافظ على هارمونية كأي مجلة جيدة
التحرير، وفي الحس المحب لصناعة النشر على الطريقة الكلاسيكية، وبالرغم من
النبرة الساخرة المألوفة فإن أندرسون يقدم في كل لحظة تحية للصحافة التي لم
تعد كما كانت منذ بدأ عصر الأنترنت ومطاردة أعداد الزوار على حساب المحتوى.
"الرسالة
الفرنسية" فيلم يصعب تلخيصه، لكنه وجبة سينمائية خفيفة الظل، مشبعة بصريًا
ودراميًا، وتجربة مختلفة عن كل ما يمكن أن تراه على الشاشة. لذا فإن وجود
ويس أندرسون وسط منافسة كان أمر منطقي، وربما يكون فوزه بإحدى الجوائز كذلك. |