مهرجان كان.. حين تنتصر السينما على الجائحة
حكيم مرزوقي
ثلاثة أوقفوا "كان": الحرب العالمية، حركة مايو 68..
وكورونا.
أعرق تظاهرة سينمائية في العالم
يكاد كل شيء يكون هو نفسه أو يتجدّد بشكل يدعو إلى الرتابة
منذ سنوات التأسيس التي سبقت الحرب العالمية الثانية (1939)، والتي عطلت
انطلاقته الحقيقية، فكان عليه الانتظار إلى سنة 1946 كي يغدو قبلة لعشاق
الفن السابع. ولم يعطل سير هذا العرس السينمائي سوى حدثين مزلزلين: الأول
مدّ ثوري من صنع الاحتجاجات الطلابية المعروفة بحركة مايو 1968، والثاني
وباء فايروسي بات يعرف بكوفيد – 19.
ترى، ما الذي يمكن أن تلتقطه عينا مراقب حصيف لـ مهرجان كان السينمائي هذا
العام، ويصلح أن يختزل هذه الدورة في رمزية مختصرة ومعبرة؟
لا شيء مميزا يمكن أن تلتقطه عينا مراقب حصيف للدورة 74 من
عمر هذا المهرجان، غير جديد الأفلام والنجوم، سوى ظهور عدد من النجمات
بشعرهن الأبيض، كالأميركية آندي ماكدويل ومواطنتها جودي فوستر، خلافا لما
درجت عليه الممثلات اللواتي يتجنبن عادة تركَ شعرهن على طبيعته في
إطلالاتهن على السجادة الحمراء.. فما دلالة ذلك؟
إنها تعبيرات كورونا المتمثلة في ما يمكن أن يخلقه الحجر
الصحي من آثار ظاهرية وباطنية تتمثل في استخلاص الحكمة من العمر الذي لا
يمكن تحديه عبر الماكياج وقصات الشعر بل من خلال أعمال تخلدها الكاميرا عبر
معجزة السينما.
تخوّفات وتحديّات
المهرجان إعادة إطلاق للسينما بعد صدمة كورونا وإقامته تعني
دفعة للسينما بعد أكثر من عام من الخوف وتوقف الكثير من الأنشطة
عودة مهرجان كان هذا العام بعد اختفائه القسري أو الطوعي
السنة الماضية، بسبب الجائحة، أثارت تعليقات متباينة التفسيرات، فمنهم من
رأى مدينة كان قد عادت تعيش بعضا ممّا صنع مجدها وشهرتها في العالم، وعاد
إليها أهل السينما، في مشهد مبهج يواكب تفاصيل العودة إلى الحياة التي تحدث
تدريجيا في كل مكان.
ومنهم من رأى أن ما يحدث على “الكروازيت” من حشد غفير
و”تقارب اجتماعي” أمام القصر الذي تقام فيه التظاهرة، لحظة الافتتاح، يدلّ
على أن الوباء قد انتهى أو سقط من الحسابات، وأن الجمهور ملّ وما عاد يكترث
كثيرا، في حين يتوجس كثيرون ويبدون مخاوفهم من عودة هذا القاتل الشبح في
الشتاء على إيقاع موجات جديدة كما في أفلام الرعب.
القائمون على التنظيم يراهنون على أن تكون هذه النسخة،
علامة على التجاوز الجزئي للجائحة التي رهنت العديد من الفعاليات الثقافية
عبر العالم لأكثر من عام. وقال المفوض العام للمهرجان تييري فريمو “لم ننته
من الجائحة بعد وينبغي تاليا توخي الحذر. نحن معتادون على تبادل القبلات في
أعلى الدرج، لكننا لن نفعل ذلك… ومع ذلك ستكون قلوبنا حاضرة”.
كلّ هذه الأسئلة والتخوفات والتحديات هي من صلب السينما
نفسها وواحدة من مواضيعها، لذلك كان مهرجان كان عبر تاريخه الذي وثقته
الكاميرا في ما تكتبه بنفسها عن نفسها.
خلف الكاميرا
في ظل هذه الجدلية الجمالية، افتتح المخرج الفرنسي ليوس
كاراكس مسابقة المهرجان بفيلمه “أنيت”، وهو كوميديا موسيقية من بطولة
ماريون كوتيار وآدم درايفر مع فرقة “سباركس” الأميركية الشهيرة التي تولت
السيناريو والموسيقى.
وفي المسابقة أيضا أفلام لمخرجين سبق أن رفعوا السعفة
الذهبية، مثل أبيشاتبونغ وبراسيتاكول (السعفة الذهبية عام 2010) بفيلمه
الأول باللغة الإنجليزية خارج تايلاند “ميموريا” والإيطالي ناني موريتي عن
فيلمه “ثلاثة طوابق”.
وكان لا يتغافل أبدا عن الربط بين حاضره وأمسه، وذلك في سعي
دؤوب إلى إعطاء هوية حيّة ومرجعية دائمة لأعرق تظاهرة سينمائية في العالم.
بدا ذلك واضحا في حفل الافتتاح الذي قدمته الممثلة دوريا
تيلييه بأسلوب شفاف وعميق ورشيق من خلال مونولوغ على شكل تحية للسينما
وأهميتها في الحياة الثقافية للشعوب. ذكرت تيلييه وشددت على كلمة “سحر” في
حديثها عن الفن السابع. الجمهور الذي اجتمع في صالة “لوميير” الضخمة بدا
متأثرا ومنسجما مع كلامها. قالت إن ما تحبه في السحر هو أنه يعتمد على عمل
الناس الذين في الكواليس، أي كل الذين يشتغلون خلف الكاميرا. كلمة تيلييه
لم تكن تخلو من الرومانسية الممزوجة مع خفة الدم، والتعرض إلى الجائحة بشيء
من السخرية إلا أن أجمل ما قالته هو أن المهرجان لطالما كان مكانا كي يظهر
الناس أنفسهم، والآن مع ارتداء الكمامات يرون ولا أحد يراهم حقا. ثم أردفت
ببعض المزح “جميل جدا أن نرى صالة مليئة بمشاهدين، ولا نعرف مَن هم. ربما
من الجيد أن نرى من دون أن يرانا أحد”.
دوريا تيلييه: جميل
أن نرى صالة مليئة بمشاهدين ولا نعرف مَن هم
أما الأكثر عمقا ودلالة في كون المهرجان يكرم نفسه بنفسه،
فهو ما جاء في كلمة الممثلة الأميركية جودي فوستر التي منحت “سعفة” فخرية
عن مجمل مسيرتها المهنية التي بدأتها قبل نحو خمسين عاما وهي في الثامنة من
العمر.
ويذكر
أنه في شهر مايو 1976، وعندما كان عمرها 13 عاما فقط، صعدت جودي فوستر
السلالم في قصر كروازيت الفرنسي، وقدمت فيلم “سائق التاكسي” للمخرج مارتن
سكورسيزي، وغادرت مع السعفة الذهبية.
وعادت جودي فوستر مرة أخرى، بعد خمسة وأربعين عاما، لتتلقى
السعفة الذهبية هذه المرة لنفسها. ومنذ عام 1976، جمعت أفلامها السينمائية
الكبيرة بين المعايير العالية والنجاح الجماهيري، وقسّمت وقتها بين التمثيل
(العديد من الأعمال، نحو 50 فيلما)، والإخراج (4 أفلام روائية)، وقد حصلت
على جائزتي أوسكار.
قالت فوستر، وهي تشير إلى الفترة الماضية التي عاشها الناس
في الحجر الصحي “أليس من الجميل الخروج من المنزل؟”.
المخرج الإسباني ألمودوفار، الذي تميزت أفلامه بإعطاء
البطولة للمرأة، وصف بدقة شديدة أهمية فوستر، متسائلا مَن كان ليظن أن
الفتاة الصغيرة في “سائق التاكسي” ستصبح يوما ما هذه السيدة. وبفرنسية
تتحدثها بطلاقة، قالت فوستر إن الحجر الصحي ساعدها في إعادة اكتشاف السينما
وأضحى مناسبة لها لمشاهدة العديد من كلاسيكياتها.
المهرجان العريق حريص على كل شاردة وواردة، ولم ينسَ
الأفلام التي تم اختيارها العام الماضي في الدورة الملغاة وحملت ختم كان،
فوجّه دعوة إلى صنّاعها للتواجد بين الحضور.
المخرج الأميركي سبايك لي رئيس لجنة التحكيم، قال في
المؤتمر الصحافي المخصص قبل الافتتاح “كان هو أعظم مهرجان سينمائي في
العالم. السينما ومنصّات المشاهدة يمكنها التعايش معا. في ما مضى، كنّا
نعتقد أن التلفزيون يمكنه قتل السينما، ولكن السينما ستبقى وستعيش”. وأضاف
الرجل الذي كان يرتدي بدلة زهرية اللون “المهرجان إعادة إطلاق للسينما بعد
صدمة كورونا. إقامته تعني دفعة للسينما بعد أكثر من عام من الخوف وتوقف
الكثير من الأنشطة السينمائية”.
أين العرب
ولسائل أن يسأل: أين العرب من هذا المهرجان الضارب في
التاريخ والمشرع على كل جهات الإبداع في الشرق والغرب؟ أين الكاميرا
العربية مما وصل إليه فن الصورة والخيال في مختلف أصقاع العالم؟ هل كنا
مجرد مجاورين لضفاف المتوسط، ولا تزور الأقدام العربية مدينة كان إلا
للتسوّق والتنزه أو للتستر بالجهاد في أبشع الصور وأشدها قتامة، أم كان لنا
بعض الصولات الموفقة فوق السجاد الأحمر، وإن كانت سريعة وخاطفة.
سيكون
فيلم “علّي صوتك” الذي تم إنتاجه من طرف شركة “عليان للإنتاج” واستفاد من
صندوق دعم الإنتاج السينمائي المغربي، هذا العام ضمن 23 فيلما تتنافس على
السعفة الذهبية للمهرجان.
تييري فريمو: لن
نتبادل القبلات أعلى الدرج ولكن ستكون قلوبنا حاضرة
ويرصد الفيلم رحلة التحرر عبر موسيقى الهيب هوب، من خلال
تسليط الضوء على أحد الأحياء الشعبية بالدار البيضاء، حي سيدي مومن، الذي
بنى فيه المخرج مركزا ثقافيا، في محاولة منه ومن مجموعة من الناشطين
الثقافيين والفنيين بالمدينة من أجل انتشال شبابها من مخالب الإرهاب.
هذا على مستوى المنافسة حول الجائزة الكبرى في الأفلام
الروائية الطويلة، أما مسابقة “نظرة ما”، فتنافس المخرجة التونسية –
الجزائرية، والتي تحمل الجنسية الفرنسية حفصية حرزي بفيلم “أم طيبة”، الذي
يسرد حكاية مدبّرة منزل تحاول مساعدة ابنها المقبوض عليه بتهمة التورّط في
حادث سطو.
وكذلك يسعى المخرج اللبناني إيلي داغر الحاصل على السعفة
الذهبية من قبل عن أفضل شريط قصير بفيلم “موج 98” (2015)، إلى الحصول على
الجائرة للمرة الثانية بفيلمه “البحر أمامكم” ضمن برنامج نصف شهر المخرجين،
الذي يحكي قصة الفتاة، جنى، التي تعود فجأة إلى بيروت، في محاولة لاستعادة
ذكرياتها وعاداتها وعلاقاتها التي افتقدتها أثناء رحيلها.
أما المخرج المصري، عمر الزهيري فيشارك في مسابقة “أسبوع
النقاد” بأولى تجاربه الطويلة “ريش”، الذي تدور أحداثه في أجواء خيالية حول
أمّ تفني حياتها من أجل زوجها وأولادها، وتعيش حياة رتيبة داخل المنزل، لكن
حياتها تتبدل تماما عندما يفشل ساحر في السيطرة على ألعابه، ويحول زوجها
إلى دجاجة.
وفي النهاية تختتم فعاليات أسبوع النقاد بفيلم المخرجة
التونسية، ليلى بوزيد “مجنون فرح”، الذي يحكي قصة شاب في الثامنة عشرة من
عمره، وهو فرنسي من أصل جزائري نشأ في ضواحي باريس، ويحاول مقاومة نداء
قلبه الذي نبض بالحب لشابة تونسية على مقاعد الدراسة في الجامعة.
الحقيقة أن الحضور العربي وإن بدا متفاوتا بين دورة وأخرى،
وكذلك في حجم المشاركة بين دولة وثانية، فإنه لافت للانتباه من خلال أسماء
شبابية واعدة في السنوات الأخيرة، ظهرت وسط أحداث عاصفة وكسرت الركود
المخيم الذي تسبب فيه جيل من السينمائيين ظلوا مسيطرين على الساحة.
أفلام مرت بكان
المهرجان يعيد الحياة إلى مدينة كان
الأسماء الموجودة في لجان التحكيم بكان، تقيم الدليل على
هذا الأمر مثل الممثل الجزائري الأصل طاهر رحيم، الذي شارك لأول مرة في هذا
المهرجان بفيلمه “النبي” للمخرج جاك أوديار عام 2009، وحصل على إعجاب
النقاد حينها، ثم عاد في الدورة التالية ليفوز بجائزتي سيزار لأفضل ممثل
واعد وأفضل ممثل.
كذلك ينضم للجنة تحكيم مسابقتي الأفلام القصيرة ومسابقة
“سيني فونداسيون” كلّ من المخرجة التونسية كوثر بن هنية، التي ترشح فيلمها
“الرجل الذي باع ظهره” لجائزة الأوسكار هذا العام، حيث نافس في فئة الأفلام
الروائية الدولية، والمخرج المصري سامح علاء، الذي فاز العام الماضي
بالجائزة الأولى والسعفة الذهبية لأفضل فيلم قصير في دورة العام الماضي
للمهرجان عن فيلمه “أخشى أن أنسى وجهك”.
ولوحظ تنامي المواكبة العربية للمهرجان من خلال منصات فاعلة
ومؤثرة كمركز السينما العربية الذي عمل على إطلاق مجلة السينما العربية،
وتقديم جوائز النقاد للأفلام العربية وجائزة الإنجاز النقدي، وإطلاق قائمة
الـ101 الأكثر تأثيرا في العالم العربي.
سبايك لي رئيس لجنة التحكيم: كان
هو أعظم مهرجان، في ما مضى كنّا نعتقد أن التلفزيون يمكنه قتل السينما ولكن
السينما ستبقى وستعيش
الحقيقة أن السينما العربية كانت حاضرة في مهرجان كان منذ
منتصف ستينات القرن الماضي. وقد رصد الناقد السينمائي جوزيف فهيم أبرز
الأفلام العربية التي شاركت في مهرجان كان على مدار تاريخه، والتي تتباين
في موضوعاتها وجمالياتها ورواياتها. ومن هذه الأفلام:
“الحرام”
(1965) للمخرج هنري بركات، ويتناول الفيلم قصة فلاحة مصرية تضطر إلى إخفاء
حملها بعد تعرّضها لحادثة اغتصاب؛ خشية أن يلاحقها العار.
“الأرض”
(1969) للمخرج يوسف شاهين، وبرع الفنان الراحل محمود المليجي في أدائه لدور
أحد صغار المزارعين الذين يواجهون ملاك الأراضي من أجل وصول المياه إلى
أراضيهم.
وفيلم “وقائع سنوات الجمر” (1975) للمخرج محمد لخضر حامينا،
وهو الفيلم العربي الوحيد الفائز بجائزة السعفة الذهبية، متفوقا على أفلام
لمارتن سكورسيزي، وفيرنر هيرتسوج، ومايكل أنجلو أنطونيوني.
فيلم “ريح السدّ” (1986) للمخرج التونسي نوري بوزيد، الذي
وضع على الخارطة لأول مرة مع فيلمه المثير للجدل عن نجار شاب تهدد حياته
المخاطر بفعل التحرش الجنسي من قبل رئيسه في العمل.
فيلم “خارج الحياة” (1991) للمخرج مارون بغدادي، وهو قصة
حقيقية عن اختطاف وتعذيب مصور فرنسي من قبل ميليشيا لبنانية في بيروت.
وفيلم “صمت القصور” (1994) للمخرجة مفيدة التلاتلي، ويتناول
قصة غامضة عن ابنة خادمة في سن المراهقة (النجمة هند صبري في أول ظهور لها
على الشاشة) تنشأ في منزل أرستقراطي في نهاية الحكم الاستعماري الفرنسي في
تونس.
“يد
إلهية” (2002) المخرج إيليا سليمان الفلسطيني، لا يزال واحدا من الأفلام
العربية الأكثر راديكالية حتى الآن. تميز “يد إلهية”، الحائز على جائزة
لجنة التحكيم، بتنسيق العمل والصوت بدقة لتسليط الضوء على العبثية الهائلة
للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وأخيرا فيلم “على حافة الهاوية” (2011) للمخرجة للمغربية
ليلى الكيلاني التي حققت قفزة لها في صناعة الأفلام مع هذا الفيلم الشجاع،
الذي يتناول دراما الجريمة حول فتاتين تعملان بمصنع وتجدان نفسيهما تنزلقان
إلى عالم الجريمة.
كاتب تونسي |