مهرجان قرطاج السينمائي يتجاوز الفساتين ويخلص لمبادئه
حكيم مرزوقي
المهرجان يبتكر أساليب جديدة ويواصل حضوره كمنصة لسينما
الجنوب وقضاياها.
على عكس مهرجانات سينمائية عربية أخرى فإن أيام قرطاج
السينمائية انطلقت من رهان أن تكون منصة لسينما الجنوب والأعمال السينمائية
التي تحمل رسائل سياسية وفنية واجتماعية وتقاوم موجة الاستهلاكية التي ما
انفكت تتعاظم، كما أن المهرجان بات ملتحما بجمهوره وعادة من عادات
التونسيين لذا فهو الأكثر شعبية بين نظرائه العرب، ولا يمكن لبهرج السجاد
الأحمر أن يخفي أهمية الأفلام المشاركة فيه.
يحدث أن تقام مهرجانات تحضر فيها الفساتين المثيرة فوق
السجاد الأحمر وتحت الأضواء وعدسات المصورين، وتغيب فيها السينما من حيث
الجودة والاختيار والاهتمام والشغف. وما أدراك ما الشغف. أما كان الأجدر
بالمشرفين والقيمين على مثل هذه “المهرجانات” أن يطلقوا عليها أسماء أخرى
كـ”عرض أزياء” أو “حفل تعارف” أو ما شابه.
نعم، حدث هذا ويحدث في مهرجانات عربية معتبرة كقرطاج
التونسي والجونة المصري، أي من تلك التي يعوّل عليها في التعريف بالمنتج
السينمائي الجديد، ورصد ملامح التطور والابتكار، وحدود التميز والخصوصية،
مقارنة بالسينما العالمية.
ما يميز مهرجان قرطاج قبل إطلالات الممثلات هو إخلاصه
للمبادئ التي أرادها له مؤسسوه كاحتفاء بسينما الجنوب
الأفلام شأن ثانوي
هل يأتي هذا في سياق العولمة التي محت الملامح والخصوصيات
وجعلت الجميع ينخرط في الأورو ـ أميركي، الذي ينبغي أن يقتدي به الجميع
للقول بضرورة الانفتاح على العصر ومواكبة واقع ما يجري؟
ولكن مهلا، فحتى مصممو الأزياء العالميون الذين يحضرون
بابتكاراتهم التي ترتديها نجمات السينما فوق السجاد الأحمر في هوليوود أو
كان أو فالنسيا، يدركون ويعون جيدا أنّ “بضاعتهم” سيكتب لها الرواج في
مهرجان تتسابق فيه أروع الأفلام التي صنعها مبدعون يمثلون أفضل ما عرفته
السينما في العالم، وكذلك تدرك الشركات الراعية لهذا المهرجان أو ذاك.
أمّا أن تركز على السجاد الأحمر وباقي عناصر البهرجة في
حفلات الافتتاح والاختتام دون مضمون يذكر في مستوى الأفلام المعروضة، فهذا
يذكّر بالمثل الشعبي القائل “من برّه رخام ومن جوّه سخام”.
الإعلام بدوره تورّط في هذا المأزق من خلال تركيزه على
فساتين النجمات وما شابها من تقوّلات وانتقادات كمادة دسمة للتداول على
السوشيل ميديا بالخصوص، وهكذا بات الحديث عن الأفلام المعروضة شأنا ثانويا
يذكر على هامش الكلام عن فستان النجمة الفلانية وما أثاره من ردات فعل.
وذهب بعض الصحافيين ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، بعيدا
في الحديث عن فساتين المشاركات من نجمات التمثيل وهيئاتهن، حتى صارت هي
الحدث الرئيسي وليس السينما، إذ غلفها بعضهم ببعد أخلاقوي يدّعي الرصانة،
فتزامناً مع انتهاء فعاليات مهرجان الجونة السينمائي في دورته الخامسة
مثلا، بدأ رواد مواقع التواصل الاجتماعي يتداولون مجموعة صور من مهرجان
موسكو السينمائي، وذلك للفت إطلالات النجمات في المهرجان المذكور، حيث كان
يغلب عليها “الطابع الراقي الذي يمزج بين الأناقة والاحتشام، بخلاف أزياء
وفساتين فنانات مهرجان الجونة السينمائي بسبب جرأتهن وملابسهن المكشوفة
التي يغلب عليها الطابع الجريء الذي لا يليق بعادات مجتمعنا الشرقي
وتقاليده”.
هذا ما أشارت إليه صحف مصرية وكأن الملابس والإطلالات هي
لبّ الموضوع، وبالمقابل، فإن الكثير منهم ينتقد بشدة فيلم “ريش” المرشح
لجوائز عديدة، للمخرج عمر الزهيري، متهمين إياه بالإساءة إلى سمعة مصر،
وذلك لتركيزه على العشوائيات.
مثل هذه الانتقادات للفساتين لها مثيلاتها في مهرجان قرطاج
السينمائي الذي انطلق في دورته الثانية والثلاثين بالعاصمة التونسية، ولكن
بسوية أقل، وذلك لأسباب يدخل فيها الجانب الاجتماعي، ونمط الحياة في تونس
لا يبالغ في النزوع للمحافظة كما هو الحال في مصر.
لكن هذا الأمر لا يمنع الجهات السلفية والإسلامية من
التململ ومحاولة التحرك لاستثارة الرأي العام في ظروف سياسية واجتماعية
يطغى عليها الحذر.
الأمر الأكثر دقة هو أن الإطالة في الحديث عن “الإطالة”
فيما يخص بروتوكولات المهرجانات وطريقة إطلالة النجمات، لا ينبغي أن يمنعنا
من التنبه إلى أن أفضل التظاهرات السينمائية هي التي تنجح شكلا ومضمونا،
فلا ضير من الإتقان على مستوى الحالة الاحتفالية ونحن نتحدث عن السينما
كأرقى أشكال الاحتفال بالحياة.
مضامين نبيلة
كل هذا لا ينبغي أن ينسينا أصالة مهرجان سينمائي مثل قرطاج،
وقدرته على التجدد والابتكار من حيث الشكل والمضمون، فالفساتين الأنيقة
التي ظهرت بها المدعوّات، حملت أيضا مضامين نبيلة، إذ يرافق كل نجمة أو نجم
على السجاد الأحمر، طفل أو طفلة من ذوي الاحتياجات الخاصة، في مبادرة إلى
إدخال السعادة والسرور إلى هذه الفئة الاجتماعية، وتعميق إحساسهم بالانتماء
إلى الأسرة الكبيرة دون حساسيات. هذه المبادرة وحدها تجعل المتابع لافتتاح
المهرجان، يغض الطرف عن فستان النجمة ليلتفت إلى ذلك الدفء الإنساني الراقي
الأنيق.
تضاف إلى هذا مبادرة أكثر عمقا ودلالة أقدمت عليها أيام
قرطاج السينمائية، وهي تخصيصها لسبعة عروض في السجون التونسية، وذلك
بالتعاون مع الهيئة العامة للسجون والإصلاح والمنظمة العالمية لمناهضة
التعذيب في كلّ من سجون محافظات المهدية والمنستير والقصرين والكاف وبنزرت.
وأمام هذه المبادرة الجريئة التي نوّهت بها جهات دولية، هل
مازال الواحد ينتقد فستان نجمة ستزور مع فريق فيلمها سجنا، ويناقشها
المساجين في مضمون الفيلم غير آبهين بنوع الفستان الذي كانت قد ظهرت به في
حفل الافتتاح.
وفي هذا الصدد، أكد المتحدث باسم الهيئة العامة للسجون،
نزار سلام، أن الهدف من هذه العروض هو الإدماج الثقافي ما يعني أن السجين
حين يخرج من السّجن يكون له شغف بالمسرح والسينما والكتاب ما سيؤثر على
وعيه وعلى سلوكه “وهذا ما ننشده كمؤسسة تسهر على تنفيذ العقوبات السالبة
للحرية”.
الحديث عن فساتين الممثلات في المهرجانات يصبح ضربا من
اللغو، حينما تتمكن هذه التظاهرات من الوفاء بالتزاماتها من حيث الإخلاص
للسينما كقيم جمالية تمثل وسيلة وعي وتثقيف، وليس مناسبة لعرض الفساتين
القصيرة وذات الصدور العارية، دون أن يكون خلف مرتدياتها إنجاز فني تستحق
التصفيق له وأخذ الصور لأجله وحده قبل الفستان.
شيء آخر ميز مهرجان قرطاج قبل الفساتين وإطلالات الممثلات،
وهو إخلاصه للمبادئ التي أرادها له المؤسسون في فكرة الاحتفاء بسينما
الجنوب، إذ افتتح بفيلم تشادي. وفي هذا السياق، يقول الناقد السينمائي،
والمدير الفني كمال بن وناس “إنّ أيام قرطاج السينمائية مكلّفة بمهمة، كما
لديها أهداف فهي من ناحية تساهم في الترويج للأفلام العربية والأفريقية
وإبرازها، لاسيما تلك التي تتجذر بوضوح في الاهتمامات الاجتماعية والثقافية
لبلداننا، ومن ناحية أخرى، فإنّ أيام قرطاج السينمائية تعزز وتدعم إحدى
ميزات المهرجان الكبرى”. الفساتين وحدها لا تصنع مهرجانا بل يضاف إليها
الكثير من الجدية والتفاني في خدمة السينما.
كاتب تونسي |