أمير كوستوريتسا: حينما تتحول كابوسية العالم إلى كرنفال
رحمة الحداد
هنالك مقولة منسوبة للمخرج الأمريكي الشهير وودي آلن قائلة:
«كلنا أبناء فيلم 8 ونصف»، سواء أكانت صحيحة أو قالها بالفعل أم لا، فهي
تحمل حقيقة يصعب إنكارها، يعتبر فيلم 8 ونصف للإيطالي فيديريكو فيليني أحد
أشهر الأفلام في تاريخ السينما وأكثرها تأثيرًا، يستشهد به معظم المخرجين
الذين نعتبرهم اليوم من الأساتذة، مثل مارتن سكورسيزي وغيره.
ربما يكون السبب الحقيقي وراء ذلك هو الحرية الإبداعية
الكبرى التي تبناها ذلك الفيلم، خلط بين الواقع والخيال، الحلم والحقيقة
دون تصنيف محدد أو رسم خطوط فاصلة بين بداية عالم وانتهاء آخر، وربما بسبب
ذاتيته الواضحة غير المساومة، يحكي فيه فيليني عن نفسه، عن شخصه وطفولته
ومعاناته الإبداعية، عن ذكرياته وعن النساء في حياته، وينهي فيلمه بكرنفال
موسيقي يجمع شخصيات حية وميتة، خيالية وحقيقية من أعمار مختلفة وخلفيات
مختلفة، يمسكون بعضهم أيدي بعض، ويتمايلون على أنغام موسيقى احتفالية.
يتم وصف أي فيلم يحكي عن صناعة الأفلام أو عن ذكريات مخرجة
أو يستخدم الأحلام بحرية بأنه
felliniesque
من كلمة فيليني مثل أفلام المخرج المصري يوسف شاهين وبعض المشاهد في أفلام
وودي آلن، لكن عادة ما يكون ذلك التأثر في صورة إحالات وتحيات للمخرج
الأيقوني، لكن هناك مخرجًا تبدو مسيرته كلها وكأنها انعكاس مضخم ومأخوذ
لحدود أبعد لذلك المشهد الكرنفالي في نهاية 8 ونصف، وهو المخرج الصربي أمير
كوستوريتسا
emir kusturica،
الفائز بالعديد من الجوائز السينمائية العالمية، منها السعفة الذهبية
مرتين، والذي يتولى منصب رئيس لجنة تحكيم مهرجان القاهرة السينمائي لهذا
العام.
تضم أفلام كوستوريتسا عناصر متنافرة تتناغم بكل سهولة تحت
يديه، أفلامه هي أفلام حرب، نضوج، سحر، خيال، وكوميديا، كل في عالم واحد،
لا يهتم بالتصنيف أو المنطق بل يخلق عوالم حية تبدو مثل كرنفالات مستمرة لا
تتوقف بها الموسيقى أبدًا حتى في أحلك الأوقات.
الحنين لوطن لم يعد كذلك
كان يا مكان، كان هناك بلد.
يأتي كوستوريتسا من أحد أحلك المناطق تاريخًا، يملك جنسية
صربية وهو بوسني الأصل، لكنه يرى نفسه يوغوسلافيًّا، أي مواطنًا لذلك البلد
الموحد قبل أن يحدث كل ما حدث، يمثل اهتمامه بتاريخ الحرب في يوغوسلافيا،
سواء كانت حربًا داخلية أو خارجية، جزءًا كبيرًا من طبيعة أفلامه، لكنه
أيضًا يجعل منه شخصًا مربكًا وغير متفق عليه بين محبي السينما ودارسيها،
فعلى الرغم من براعته التقنية التي لا تضاهى فإن البعض يتهمه بالاعتذارية
لجرائم الحرب التي ارتكبتها بلاده ضد فصيل آخر داخل وطنه الأكبر
يوغوسلافيا، وبالتبسيط المخل لعناصر تلك الحرب، أو المساواة بين أطراف ليس
من المنطق المساواة بينها، فعادة ما تقع أحداث أفلامه على خلفية حرب أو
صراع ما أو في خضم حدوثها، لكن عادة ما تكون الأيديولوجية غائمة ومربكة،
يبدو كوستوريتسا دائمًا مهتمًّا بفكرة الوطن كماضٍ يستحيل استعادته، ويملك
حنينًا كبيرًا لمكان وشعور بالانتماء اختبره لفترة قصيرة قبل أن يختفي إلى
الأبد.
يتبلور ذلك الشعور في فيلمه الأشهر تحت الأرض
underground 1995
الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان، يبدأ الفيلم بعنوان متفرع من عنوانه
الأصلي مثل قصة خرافية يخبرنا أنه في يوم من الأيام كان هناك بلد، وكأنه
مكان خيالي لا يوجد إلا في عقول من يذكرونه، فالكثيرون ولدوا في البلاد
المختلفة المنبثقة من جمهورية يوغوسلافيا، والتي اتسمت بتعددية نادرة لم
تدم طويلًا بعدما تشرذمت واهترأت بسبب الحروب المتعددة، يرسخ الفيلم لذلك
الشعور بانعدام المنطق بتمثيله لكل ما حدث كأنه كابوس طويل، لأنه يغطي فترة
طويلة من تاريخ يوغوسلافيا، بداية من الحرب العالمية الثانية وصولًا للحروب
الداخلية التي قسمتها إلى دول ودويلات، لكن بعض الشخصيات لم تعش ذلك؛ لأنها
حبست تحت الأرض في قبو مغلق ومنعزل للعمل لصالح أحد نشطاء الحرب والثورة
الذي استغل عمالتهم وجهلهم، بعضهم عاش ومات دون أن يعلم أن الحرب انتهت،
وبعضهم تفاجأ بتغير كل شيء عند تحرره وكأنه ذهب للنوم وهو يعلم أنه في وطنه
واستيقظ على اختفائه.
لكن كوستوريتسا لا يظهر دائمًا حنينه القومي في شكل سياسي
واضح ومربك، ففي بعض الأحيان يصور أحداث أفلامه في زمن بعيد فعلًا دون أن
يتطرق لما حدث بعد ذلك، يحدث ذلك في فيلمه زمن الغجر
time of the gypsies 1989،
أحد أكثر أفلامه شاعرية وجمالًا، قصة عن أفراد وعائلات تعيش على أطراف
المدن لا ينتمون بالكامل لوطن محدد، لكنهم يعيشون في تناغم مع الطبيعة من
حولهم يتعرفون على ذواتهم ويحاولون التعامل مع المشكلات اليومية الصعبة مثل
الفقر والمرض.
يحكي الفيلم من وجهة نظر المراهق بيهران (دافور دوجموفيتش)
الذي يتطلع للمزيد، ويتحول الفيلم من دراما عائلية صغيرة إلى ملحمة متسلسلة
تصور نضوج ذلك الشاب ووقوعه في عالم جريمة لا يرحم، يذكرنا بأجواء فيلم
once upon a time in america،
حيث يفقد براءته بالتدريج، تمثل تيمة فقدان البراءة تلك جزءًا كبيرًا من
اهتمام كوستوريتسا لذلك يضع الأطفال والمراهقين في مقدمة قصصه ويصنع
أفلامًا يمكن تسميتها بأفلام النضوج
coming of age،
وهو النوع الفيلمي الذي عادة ما يتم تناوله من منطلق كوميدي أو درامي، لكن
أفلام نضوج كوستوريتسا تعادي النوعية وتتواجد في مساحة تصنيفية خاصة بها.
العالم في أعين الصغار
في أول أفلامه الطويلة هل تتذكر دولي بيل؟
do you remember dolly bell? 1981
يحكي كوستوريتسا قصة بسيطة عن نضوج شاب على خلفية ارتباك سياسي، وأسرة
لديها مصاعب مادية، أب مهووس بالاشتراكية وينظم أطفاله كل يوم وكأنه يملك
حزبًا منزليًّا صغيرًا، في وسط كل ذلك يتعرف دينو على نفسه، على جنسانيته،
وبالتدريج يفقد براءته ويستكشف ما يعنيه أن يترك الطفولة، دينو مهووس
بالتنويم المغناطيسي والدراسات النفسية، يعطيه ذلك سحرًا خاصًّا، ويجعله
نقيضً لوالده العملي المنطقي، هو وكعادة أبطال كوستوريتسا شخص حالم في عالم
قاسٍ، في دولي بيل لم يستكشف كوستوريتسا بعد هويته “السريالية” أو السحرية
واهتمامه بالميتافيزيقا، لكنه لم يأخذ وقتًا طويلًا ليفعل ذلك.
في فيلمه التالي عندما ذهب والدنا في رحلة عمل
when father was away on business 1985،
استخدم كوستوريتسا أبطالًا صغار السن كذلك ليحكي قصة نضوجهم بالتوازي مع
حكي قصة ذات طابع سياسي، لكن هذه المرة اختار بطلًا أصغر سنًّا بكثير من
مرحلة المراهقة، فبدا الفيلم وكأنه قصة كوستوريتسا نفسه، كيف رأى العالم
وماذا يتذكر منه حينما كان في السابعة مثلًا، يروي الطفل مالك أحداث الفيلم
ويعلق على ما يمر به، يومياته واختباره للحياة الأسرية ونقاشات والديه،
حكايات الحي والموسيقى المكسيكية التي يلعبها عمه للابتعاد عن أي شبهة
سياسية في الموسيقى المحلية، مناوشاته مع أخيه وخيانات والده المتعددة
لأمه، لكن أهم من كل ذلك، عندما اختفى أبوه لفترة في رحلة عمل، والتي
بالطبع كانت نفيًا سياسيًّا لأفكاره غير المتماشية مع الأفكار العامة
للحكام وقتها، خاصة بعد سقوط الشيوعية.
يقع مالك في الحب لأول مرة ويستكشف نفسه، لكن في مرحلة
مختلفة كثيرًا أكثر براءة من دينو في الفيلم السابق، ينكسر قلبه للمرة
الأولى ويفقد جزءًا من سذاجته، ونظرًا لكونه على سجيته تمامًا فإن كونه
يتمتع بالقدرة على الانتقال من مكان لآخر بالطيران لا تمثل له أي صعوبة في
الفهم أو إحساس بالغرابة، ما الغريب في أن يطفو طفل صغير في الجو أثناء
نومه للهروب من الواقع؟
ما الغريب في الطيران؟
هذا فيلم حب.
يسير مالك أثناء نومه ويستيقظ ليجد نفسه على قمة جبل،
ويستطيع بيهران أن يحرك الأشياء بقدرته العقلية، يستخدم ذلك في البداية
للفت نظر الفتاة التي يحب، ثم يستخدمه للانتقام من المجرمين، وفي معظم
أفلام كوستوريتسا يمكنك توقع مشهد للطفو فوق سطح الأرض، يطفو محبون في لحظة
حب رقيقة، أو تطفو فتاة أثناء ولادتها لأن جنينها قد ورث قدرات أبيه، يطفو
منزل فوق ساكنيه ويظل معلقًا في الهواء، يتمنى البعض الطيران لكن لا يملك
القدرة مثل إلين في فيلمه الهوليوودي الوحيد حلم أريزونا
arizona dream 1993،
ويتكرر في أكثر من فيلم طفو طرحة عروس أو فستان زفاف وهي موتيفة ربما تكون
رمزًا آخر لفقدان البراءة أو ربما موت المستقبل، لكن المهم أن كل تلك
الخوارق تحدث دون استغراب من أحد ولا تكون أبدًا مقحمة على القصة، بل هي
جزء رئيسي من عالم الأحداث، مما ينفي عنها كونها خوارق من الأساس، وهو ما
يجعل أفلام كوستوريتسا أقرب للواقعية السحرية منها إلى السريالية.
لا يخرج كوستوريتسا الممثلين فحسب، بل يقوم بإخراج عالم
بأكمله، عندما تشاهد أفلامه يمكنك للحظة عدم تصديق أن ذلك عالم تم تصويره
والتحكم فيه من قبل شخص، فما يحدث على الشاشة أكثر من أن يتم التحكم فيه،
حياة كاملة معيشة وصاخبة، حيوية لا تتوقف عن الحركة، عالم يمكنك الشعور به
بل لمسه، لا تشعر للحظة بأن هناك شاشة تفصله عنك، يستطيع بقدرة إلهية أن
يخرج الحيوانات والأطفال والطقس ويجعل ذلك كله متناغمًا واقعيًّا، أو
عبثيًّا سحريًّا، يستخدم كوستوريتسا ذلك السحر كجزء من حنينه لعالم أبسط،
أكثر فطرية وكأنه عالم أسطوري تمامًا، لكن الحداثة تخترقه ويتخلل كل ذلك حب
عميق لفنون الحداثة نفسها مثل السينما، في معظم أفلامه نرى الأبطال يشاهدون
فيلمًا، يتعرف المراهقون على الحب منه، ويرغب الشباب اليائس في أن يصبح مثل
آل باتشينو أو روبرت دي نيرو، يملك كوستوريتسا حبًّا وتقديرًا للسينما
الأمريكية الكلاسيكية على الرغم من احتقاره لهوليوود بشكلها الحالي
وتقييدها للإبداع، لكن بجانب ثقافته السينمائية وحبه العاطفي لها فإن الفن
الذي يصنع عوالم كوستوريتسا بحق هو الموسيقى.
مهما حدث لا توقف الموسيقى
بجانب عمله كمخرج سينمائي فإن أمير كوستوريتسا يملك فرقة
موسيقية تسمى أمير كوستوريتسا وأوركسترا ممنوع التدخين
Emir kusturica & the no smoking orchestra،
تلعب فرقته موسيقى تدمج بين الفلكلور المحلي والموسيقى الحديثة تمامًا مثل
أفلامه، لا ينفصل كونه سينمائيًّا عن كونه موسيقيًّا أبدًا، فأفلامه هي
كرنفالات موسيقية لا تتوقف، يندر أن تشاهد مشهدًا له دون موسيقى، الحيوانات
تتحرك على خلفية موسيقية، البشر يتشاجرون على أنغامها، بل إن الحروب تندلع
والموسيقى لم تزل تلعب في كل مكان، موسيقى أفلامه ليست خفية أو جزءًا من
الشريط الصوتي، بل هي حاضرة جسديًّا على الشاشة، جوقة من آلات النفخ في
خلفية مشهد ما أو مقدمته، فتاة تلعب الأكورديون تتدلى سيجارة من فمها بينما
تتحدث، فريق موسيقى يستمر في اللعب بينما يتم ربطه في شجرة ضخمة.
يستكشف كوستوريتسا تراثه الموسيقي وحبه لها عادة مع المؤلف
جوران بريجوفيتش، معًا يخلقان مشاهد صاخبة وشاعرية، فإذا كنت في حلم أو
كابوس فإن الموسيقى مستمرة غير آبهة تمامًا مثل الحياة. في فيلميه الشهيرين
تحت الأرض وزمن الغجر تلعب الموسيقى دورًا أساسيًّا مثلها مثل الممثلين أو
القصة، لكنها تختلف كثيرًا في طريقة التناول، في تحت الأرض الموسيقى
متسارعة وكأنك تعيش في سيرك مستمر تتصاعد وتعلو مع حركة الكاميرا الهذيانية
التي تعمق من فوضى الحرب والعلاقات الإنسانية المعقدة حيث، على عكس استخدام
الموسيقى في زمن الغجر التي تصنع تأثيرًا يكاد يكون متساميًا وكأنها موسيقى
قادمة من عالم آخر.
إذا قررت الولوج لعالم أمير كوستوريتسا فأنت أمام رحلة في
ماضٍ لم تعشه وحاضر مرتبك يصعب تخطيه، لكنها رحلة حافلة بكل ما يجعل
السينما ما هي عليه، لا يترك عنصرًا من عناصرها إلا واستخدمه لأقصى حدوده،
في أفلامه ستتوحد مع أطفال ينضجون وكبار يخونون ويتعاركون ومحبين يرتفعون
عن الأرض بقوة الحب، فربما من الأفضل أن تترك المنطق جانبًا وتنغمس في تلك
العوالم المخلوقة بعناية مفرطة وفوضى عشوائية في الوقت نفسه. |