فيلم
«House of Gucci»:
ملحمة لا تهم صناعها
رحمة الحداد
في الأسابيع القليلة الماضية تم تداول تصريحين لمخرجين
مختلفين، أولهما هو المخرج الشهير ريدلي سكوت، الذي أدلى بدلوه- مثل عدة
سبقوه- عن أفلام عالم مارفل السينمائي قائلاً إنها «أفلام مملة لعينة»
وتكرارية، وإنها أفلام تنقذها المؤثرات البصرية وإن ذلك أصبح مملًا،
التصريح الآخر هو للمخرج توم فورد أو بشكل أوضح مصمم الأزياء توم فورد،
الذي علق في مقال عن فيلم «بيت جوتشي
– House of gucci»
للمخرج «ريدلي سكوت»، مادحًا التصوير والأزياء وناقدًا السيناريو الهزلي
والكوميديا التي يصعب تفريقها عن الاسكتشات الساخرة في برامج التلفزيون
المسائية.
ظل مشروع فيلم بيت جوتشي معلقًا لسنوات وارتبط بأسماء عدة
مخرجين وممثلين مختلفين حتى استقر على ريدلي سكوت مخرجًا، و«ليدي جاجا»
و«آدم درايفر» في الأدوار الرئيسية. عرض الفيلم عالميًا في نوفمبر/ تشرين
الثاني 2021، وعرض لأول مرة في الشرق الأوسط خلال فعاليات مهرجان القاهرة
للعام ذاته.
انتزع الفيلم ضحكات وشهقات الجمهور الحاضر على الرغم من
قصته الدموية التي حدثت في الواقع بالفعل. يمتلئ الفيلم بـأداءات تمثيلية
ضخمة وأزياء متنوعة وقصة مثيرة لكن ما يجعل التصريحين معبرين عن النتيجة
النهائية لكل تلك العناصر هو الطبيعة التكرارية لأفلام السيرة الذاتية
الهوليوودية وحقيقة أن شخصية «توم فورد» لها دور في الفيلم.
وعلى الرغم من غضبه على الأفلام الجماهيرية، هل لا يزال
ريدلي سكوت الذي صنع تحف مثل «بليد رانر
– blade runner»
يملك قدرته السابقة على صناعة أفلام توازن بين الفنية
والجماهيرية، أم أن بيت جوتشي مجرد فيلم من عشرات الأفلام السنوية الباحثة
عن الجوائز السهلة؟
إيطاليا الهوليوودية
لطالما كانت هوليوود مولعة بإيطاليا والإيطاليين، بداية من
المناظر الطبيعية الجميلة حتى عالم العصابات السرية والمافيا، والطريقة
المميزة التي يتحدثون بها، لكن كان ذلك منطقيًا في إطار ثنائية تجمع
الإيطالي بالأمريكي التي أصبحت شيئًا راسخًا في تاريخ السينما على يد
مخرجين يمتلكون تلك الهوية الثنائية مثل «فرانسيس فورد كوبولا»، وثلاثيته
الشهيرة «الأب الروحي
– The Godfather»
التي يتم اقتباس جماليتها وحتى أسلوب الممثلين ولهجاتهم حتى الآن، وبالطبع
المخرج «مارتن سكورسيزي» الذي يصنع شخصيات أمريكية ذات خلفية إيطالية كما
تربى وعاش، لكن في حالة صناع الأفلام الأيقونيين هؤلاء ارتبطت إيطاليا
بهوليوود في صناعة أفلام عن الحلم الأمريكي والهجرة والأحفاد ذوي الهويات
المختلطة، أما في أفلام مثل بيت جوتشي فإن الأمر ليس كذلك، فهؤلاء ليسوا
شخصيات أمريكية ذات خلفية إيطالية أو هوية مزدوجة، بل هم شخصيات إيطالية
بعيون أمريكية حتى وإن كان ريدلي سكوت نفسه بريطانيًا في الأساس.
يحكي فيلم بيت جوتشي في نصفه الأول قصة حب تقليدية بين
ماوريتزيو (آدم درايفر) وباتريزيا (ليدي جاجا)، ما يجعل العلاقة معقدة هو
لقب ماوريتزيو: «جوتشي» إحدى أكثر العائلات ثراء في إيطاليا، أما باتريزيا
فهي فتاة من طبقة متوسطة تطمح في التسلق الاجتماعي.
تتطور تلك العلاقة حتى تصبح صراعًا على اسم الشركة وثروتها
وملحمة عن الغيرة والخلافات العائلية القاتلة، ربما من هنا تبدأ مشكلات
الفيلم، في تخصيص الأدوار من البداية. يظهر كلا الممثلين بأشكالهما التي
نعرفها لكن بالطبع يتبعان مظهر الشخصيات الحقيقية، وطبيعة الفترة من
الملابس وتسريحات الشعر ولكنهما يبدوان في أعمارهما الحالية التي نعلمها
بينما الشخصيات لم تزل في سن الجامعة أي أوائل العشرينيات، ذلك إضافة
للالتزام بالتحدث باللغة الإنجليزية مع لكنة إيطالية ثقيلة تختلف من ممثل
لآخر، تحتد أو تخفت من مشهد لآخر مما يجعل الاعتياد على ذلك العالم الذي
يصعب تصديقه عملية تتطلب بعض الوقت.
لطالما صنعت هوليوود أفلام عن ثقافات مختلفة وجنسيات
مختلفة، ولعبت شخصياتها ممثلون أمريكيون يتحدثون الإنجليزية، لكن مع تصاعد
حملات تطالب بضرورة التمثيل الدقيق للجنسيات والأعراق المختلفة، يظهر بيت
جوتشي رجعيًا وتقليديًا.
لو كان صدر من عشرة أعوام لم يكن ليختلف عما رأيناه اليوم.
يمثل الفيلم رؤية أمريكية لطبيعة الإيطاليين العنيفة
الأجنبية في أعين صناع السينما الهوليوودية، لغة جسدهم وحركتهم ولهجاتهم،
لكن في حقيقة الأمر من المستحيل تصور باتريزيا وماوريتزيو جوتشي يجلسان في
خصوصية بيتهما يتحدثان الإنجليزية معًا من دون أفراد من جنسيات أخرى عدا
الجمهور الواسع الذي يشاهدهما.
تملك جاجا أصولًا إيطالية لكن ذلك ليس جزءًا من هويتها
الحالية أو لهجتها الطبيعية على عكس ممثلين مثل «آل باتشينو» الذي يملك
ظهورًا في الفيلم من دون أن يقحم لهجة تمثيلية على صوته الطبيعي. يأخذ ذلك
إلى أبعد حد الممثل «جاريد ليتو» الذي يظهر في شخصية بعيدة عن هيئته
الحقيقية كرجل نحيف ووسيم فيظهر بشخصية أحمق زائد الوزن خفيف الشعر مما
يجعله مادة لسخرية جميع شخصيات الفيلم؛ يملك لكنة هزلية ثقيلة ولغة جسد
مبالغة. تظل مشاهدة ليتو في الدور ممتعة ومسلية حتى تتوقف عن كونها كذلك،
ويصبح وجودها مكررًا ومسرحيًا وكأنه على حد وصف توم فورد، فقرة في برنامج
كوميدي للسخرية من طبيعة الإيطاليين المغالية.
أفلام مارفل وأفلام السيرة الذاتية
أبدى «ريدلي سكوت» رأيه في أفلام مارفل المملة وتكرارها
للقصص والأدوات والأساليب في كل إضافة جديدة، لكن هل يوجد ما هو أكثر
تكرارًا ومللًا من الأفلام الهوليوودية عن السير الذاتية؟ الخيارات اللونية
ذاتها، الكسل في معالجة القصص والاكتفاء بالمحطات المهمة في حياة الأشخاص،
الاعتماد الكامل على كاريزما وأداءات النجوم الكبار حتى لو كان ذلك على
حساب ملاءمتهم للشخصيات، والأهم من كل ذلك هو صيد الجوائز بأفلام متوسطة
سوف تنسى فور انتهاء الموسم ويبقى تحت أسمائها جائزة أو اثنان للأزياء التي
تمثل الفترة بدقة، أو الممثل الذي يحظى بأكبر فرصة للصراخ بلهجة لا يعلم
عنها شيئًا، أو يغير شكله حتى يصبح من الصعب تمييزه فينبهر المشاهد من
قدرته على التلون.
يحاول الفيلم التعامل مع قصته العائلية في شكل دراما
ملحمية، عن روابط الدم وطبيعة الثروة والعلاقات الانسانية لكنه يبدو غير
مهتم بالشخصيات التي يقدمها. تتبدل دوافعها من دون شرح أو إيضاح مما يجعلها
غير مثيرة للتعاطف.
تتصاعد أحداث الفيلم بالتدريج حتى تؤدي إلى حادث دموي
منتظر، لكن عندما يصل لذروته يصبح من الصعب الشعور بهول الحدث، أو ثقل
الصراعات، فالمشاهد كلها أشبه بسلسلة من الأحداث المتتابعة التي تؤدي
لنتيجة معلومة مسبقًا دون إضافة أو محاولة لصناعة رؤية سينمائية حقيقية
لتلك الأحداث أو الشخصيات، يمكن وصفه بأنه بمقدمة ويكيبيديا عن عائلة
جوتشي. يتقابل ماوريتزيو وباتريزيا يقعان في الحب، تبدأ الخلافات الطبقية
والاجتماعية، تختلف العائلة داخلها حول تقسيم تركة جوتشي ثم ينهار كل شيء.
فيلم لا يهم صناعة
وسط كل ذلك البذخ البصري والتمثيلي ينسى «ريدلي سكوت» أن
اسم جوتشي هو أحد أكبر وأشهر الأسماء في عالم الأزياء.
تتصاعد أحداث الفيلم بينما تنمو إمبراطورية جوتشي فيصبح
اسمها مرتبط بسلسلة محلات ملابس كبرى، وتظهر فجأة العلامة التجارية الشهيرة
لجوتشي، والنّقشة التي يعلمها محبو الأزياء حول العالم على الحقائب
والأثواب كما تظهر الأحذية الشهيرة ذات الحلقات المعدنية، لكن الفيلم لا
يهتم بإيضاح بداية تلك العلامة التجارية البارزة، لا يعطي ذلك الجانب من
القصة وقتًا على الرغم من قابلية ذلك، يبدو الفيلم على الرغم من اسمه غير
مهتم أو ملم بطبيعة عالم الأزياء أو التصميم.
بالطبع يوجد مجهود كبير من مصممة الأزياء «جانتي ييتس» في
جعل الملابس دقيقة وملائمة للفترات الزمنية المختلفة في الفيلم، لكن الفيلم
أبعد ما يكون عن التصور المنتظر لفيلم في عنوانه كلمة جوتشي.
يرى ريدلي عالم الأزياء بعيون سطحية، يصور على سبيل المثال
شخصية «توم فورد» الشاب الذي يتولى الإدارة الفنية لجوتشي، ويعيد اكتشافها
من جديد بشكلٍ نمطي يكاد يكون مهينًا. ربما يبرر ذلك اعتراضات فورد في
الحقيقة على الفيلم، لكن تعليقاته ليست مجرد غضب ساذج؛ فبجانب مسيرته
الاستثنائية كمصمم، دخل فورد عالم السينما بفيلم «رجل أعزب
– a single man»
في عام 2009، وهو فيلم أول شاعري ويملك لغة سينمائية مميزة ورؤية إخراجية
متفردة.
إذاً؛ فإن فورد يعرف شيء أو اثنين عن صناعة الأفلام كما
يعلم كثير عن عالم الأزياء، ربما إذا أسند بيت جوتشي لشخص مثله لأصبحت
النتيجة أقل ابتذالًا وأكثر شاعرية وتعاطفًا مع طبيعة وحجم المأساة مع
الاحتفاظ باللمسة الكوميدية أو التجارية المسلية.
يحاول بيت جوتشي بكل الطرق أن يكون أيقونيًا، بجمل رنانة
يمكن استخدامها في التسويق للفيلم ووضعها في الإعلانات التشويقية لكنها لا
تملك نفس الوزن في سياق الفيلم بالكامل. ربما كان سيصبح الفيلم أيقونيًا
بالفعل إذا التزم بأن يكون غرائبيًا ومبالغًا لأبعد حد، لكنه ظل يتأرجح بين
جدية وتقليدية أفلام السير الذاتية ومغالاة المسلسلات المكسيكية.
يظل بيت جوتشي تجربة مسلية إذا تم تلقيه كمسرحية ذات
التواءات وأحداث متسارعة وصراع تقليدي بين أفراد العائلات للسيطرة على
السلطة والثروة، لكن يصعب الاستمتاع به كتجربة سينمائية تجارية مرضية. |