أقيمت الدورة الـ 43 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
وإقامته يعتبر في حد ذاته، نجاحا، في العودة إلى مهرجان يقام على أرض
الواقع، لا الواقع الافتراضي، رغم استمرار المخاوف بشأن تفشي فيروس كوفيد-
19.
نعم نجح المهرجان في تشكيل لجنة تحكيم برئاسة أمير
كوستوريتسا، ولكن بولغ كثيرا- من جانب الصحافة أساسا- في أهمية كوستوريتسا
وعبقريته.. الخ رغم أنني شخصيا أميل إلى أنه لم يقدم عملا مهما منذ فيلمه
“تحت الأرض”
Underground (1996)
الذي مازال يعيش على ذكراه. لكن لا بأس فهو مخرج مرموق ومعروف ويحب أفلامه
كثير من الشباب من هواة السينما.
ومع ذلك، كان موقف كوستوريتسا في الافتتاح والختام موقفا
غريبا ومثيرا للتساؤل. ففي الافتتاح تحدث بطريقة سلبية غير لائقة عن البلد
الذي استضافه، وكان يجب أن يلقى ردا على ذلك، من جانب الإعلام- لا من جانب
رئيس المهرجان بالطبع- الذي تقضي أصول اللياقة بتجاهل ما قاله رئيس لجنة
التحكيم. ولعل المبالغة في الاحتفاء به والتهليل له، هي التي دفعته إلى أن
يفقد أعصابه ويتحدث بتلك الطريقة التي لا تليق بفنان سينمائي معروف. فقد
فوجي كما فوجئنا جميعا، بظهور فرقة موسيقية يرتدي أفرادها ملابس مخططة،
يدقون الطبول ويزمجرون بآلات النفخ بمقطوعة موسيقية رديئة ليست هي الموسيقى
التي عرفناها في فيلمه الشهير “تحت الأرض”، كما أن هذه الفرقة أخذت تحاصر
كوستوريتسا الذي قابلها بالانحناء أكثر من مرة على سبيل الشكر ومن أجل أن
تكتفي بما قدمته وعزفته، ولكن الفرقة تمادت واستغرقت وقتا طويلا كما لو أن
المقصود استغلاله لتقديم فقرة موسيقية، وهو أمر غير مفهم وغير مقبول أيضا.
أما في حفل الختام فقد تلاشى كوستوريتسا تماما من دون إشعار
مسبق من إدارة المهرجان، ولابد أنه غادر البلاد قبل ذلك، وربما كان هذا
معروفا مسبقا من قبل الإدارة، وكان يجب في كل الأحوال، الإشارة إلى ما حدث
في بيان صحفي قبل الحفل. فغياب رئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية الرئيسية
في مهرجان سينمائي دولي، أمر خارج المألوف تماما. ما الذي حدث بالضبط؟ لا
نعرف!
صحيح أن المهرجان نجح في استقطاب عدد من الأفلام الجيدة، من
العالم العربي والعالم، وهو ما يرجع دون شك إلى الجهد الكبير الذي بذله
فريق المهرجان، إلا أن الملاحظة التي برزت هذا العام، بل وفي العام الماضي
أيضا، أن كل مسؤول عن أحد أقسام المهرجان، أصبح يعتبر القسم الذي يشرف عليه
قسمه الخاص، أو بالأحرى، مهرجانه الخاص، يصعد الى المنصة ليخاطب الجمهور
كما لو كان هذا القسم أو هذه المسابقة أو تلك، عملا قائما بذاته، مستقلا عن
باقي أقسام المهرجان، وهذا تقليد أراه غريبا لم نره في أي مهرجان سينمائي
كبير محترم في العالم، فالذي يظهر هو فقط المدير الفني للمهرجان. ولكن يبدو
أن هذا التقليد جاء لإرضاء الجميع!
ولعل مرجع ذلك إلى غياب وظيفة المدير الفني للمهرجان شأن كل
مهرجانات العالم. ففي مهرجان القاهرة هناك فقط ما يسمى بـ”مدير المكتب
الفني” وهي صفة استحدثت منذ غياب يوسف شريف رزق الله عن عالمنا رحمة الله
عليه، وتبدو صفة بيروقراطية أكثر من أي شيء آخر، وهي تجعل من يحملها مجرد
منسق بين الإقطاعيات المختلفة التي يحتلها المسؤولون عن أقسام المهرجان عدا
مسابقته الرسمية. والخلاصة أن مهرجان القاهرة السينمائي الذي يقام في بلد
يمتلك تراثا سينمائيا عريقا يتفوق على غالبية الدول الأوروبية، وفيه آلاف
المثقفين السينمائيين وصناع السينما وأساتذتها، يبدو أمام العالم كما لوكان
قد عجز عن العثور على من يصلح لتولي مهمة المدير الفني!
هذه الملاحظة وغيرها تنبع من حبي للمهرجان وللقائمين عليه
ولتاريخه، ولرغبتي في تطويره، فالتطور هو سنة الوجود، ومع اعترافي بالجهد
الكبير الذي بذله ويبذله محمد حفظي رئيس المهرجان، وأندرو محسن مدير المكتب
الفني وباقي الإخوة والزملاء وعلى رأسهم الناقد المثابر رامي عبد الرازق،
إلا أنني أتطلع إلى أن تصبح الدورة القادمة أكثر تطورا وتدقيقا، تخضع
لتقاليد دقيقة وخطة موضوعة مسبقا بحيث لا يُترك أي شيء للمصادفات أو
للارتجال. ويجب أن أعترف بأنني قد استمتعت بوجودي بين الجميع في المهرجان،
فقد شاهدت ما كنت أريده من أفلام، والتقيت بمن أحب أن ألتقي بهم، واستمتعت
بالمناقشات التي دارت على هامش المهرجان مع كثير من الأصدقاء.
عودةً إلى حفل الافتتاح لأهميته الشديدة كونه هو البوابة
التي ينطلق منها المهرجان. من المهم أن نعرف أن مهرجانات السينما هي أولا
وأخيرا، احتفال بفن السينما، لا بفنون الرقص والموسيقى مع اعترافنا بأن
السينما بوتقة تنصهر فيها الفنون. لذا يجب أن تكون الصورة السينمائية،
وتاريخ السينما، ليس في مصر فقط بل في العالم، جزءا أساسيا فيما يتم
التركيز عليه في حفل الافتتاح. مهرجان القاهرة ليس مهرجانا محليا نحتفل فيه
فقط، بأنفسنا، بنجومنا وأفلامنا وتاريخنا. هذا كله مهم. ولكنه مهرجان
عالمي، يضم أفلاما من عشرات الدول. لذا يجب أن يتم التخفف بعض الشيء، من
مديح الذات، والاتجاه أكثر نحو الاهتمام بالآخر، بسينما العالم، بتاريخ
السينما في العالم.
في الوقت نفسه لا أرى أن الفقرة الارتجالية التي أصبحت سمة
مستقرة في الدورات الأخيرة، والتي يظهر فيها ممثل سينمائي كوميدي يتمازح
ويمزح خلالها مع زميل له، هي فقرة ذات أهمية، أو أنها تعطي صورة جيدة عن
مصر والمصريين وكيف يديرون الأمور في مهرجان سينمائي دولي كبير، خصوصا وان
الحاضرين من الأجانب لا يعرفون هؤلاء المضحكين، ولا يمكنهم الضحك على ما
يضحك عليه البعض منا ويعتبره مسليا وطريفا حتى لو افترضنا إمكانية ترجمته
ترجمة فورية وهي مهمة أظن أنها شبه مستحيلة!
لا أعرف أيضا لماذا أصبحت عروض السجادة الحمراء التي تسبق
حفل الافتتاح تستغرق كل هذا الوقت. فلو تم الالتزام بالموعد بحيث يبدأ
الحفل في السابعة مساء وينتهي في التاسعة تماما ليبدأ فيلم الافتتاح كما
يحدث في سائر المهرجانات الدولية الكبرى، لأصبح هذا أفضل كثيرا من الاضطرار
الى الانتظار داخل المسرح لأكثر من أربع ساعات قبل أن يبدأ الحفل ليختتم من
دون عرض الفيلم الذي يعرضونه في اليوم التالي، وبالتالي لا يصلح أن نطلق
عليه “فيلم الافتتاح”!
والمشكلة أن كل عروض السجادة الحمراء (ما يسمى بالجالا)
تتأخر يوميا ويصل التأخير الى أكثر من نصف ساعة وهو أمر ليس من الممكن
تحمله ولا فهمه، فيمكن جدا التنبيه بصرامة على جميع النجوم أن ينتهوا من
التصوير وغيره، في زمن محدد، ففي هذ احترام للجمهور الذي اشترى التذاكر،
ومن دون الجمهور لا توجد مهرجانات.
ولابد من الإشادة هنا بنجاح مهرجان القاهرة في استقطاب عدد
كبير من جمهور السينما معظمه من الشباب، وحتى السجاد الأحمر تم توزيعه
وتنسيقه بشكل أكثر جاذبية هذا العام مما جعل الكثيرين يأتون الى الأوبرا
للتصوير والاحتفال بالتواجد وسط النجوم ومشاهدتهم وهم يسيرون على السجاد
الأحمر.. لا بأس بالطبع، ولكن هذه المظاهر لا تغني بالطبع عن محتوى
المهرجان نفسه الذي يتميز بالأفلام المثيرة للجدل، وكان منها الكثير هذا
العام، والمناقشات والندوات ومنصات دعم الصناعة.. إلخ، وإن كنت أميل إلى
ضرورة تقليل عدد الجوائز في المسابقات الفرعية مثل مسابقة السينما العربية
التي تمنح جوائز كثيرة للغاية منها للتمثيل أيضا.. والأفضل أن تكون هناك
جائزة أفضل فيلم وأفضل سيناريو الى جانب جائزة لجنة التحكيم. وكذلك الأفضل
أن تكون جائزة النقاد جائزة واحدة فقط، فالإفراط في الجوائز يقلل كثيرا من
قيمتها. وليس من المعقول أن يصل عدد جوائز مسابقة الأفلام العربية الى ما
يوازي جوائز المسابقة الرسمية.
أتمنى أن يتم تقليص توجيه الشكر التي تتكرر من جانب كل من
يصعدون الى المنصة، بعاطفة صادقة حقيقية من جانب الجميع الى الجميع، وأن
تصبح الكلمات التي يلقيها المسؤولون، مكتوبة بعناية ومعدة سلفا ومقتضبة،
ومترجمة أيضا في نفس الوقت. فالمهرجان بفعالياته، هو الذي يتحدث عن نفسه في
النهاية، مهما قلنا في حق أنفسنا وما أنجزناه وما سنقدمه وقدمناه.. أليس
كذلك؟
ليس من الممكن معرفة ما إذا كان غياب كثير من المخرجين
الذين فازت أفلامهم بالجوائز عن حفل الختام وحلول الدبلوماسيين والسفراء
محلهم لاستلام جوائزهم، يرجع إلى غيابهم من البداية عن المهرجان، أم إلى
مغادرتهم مبكرا. لكني أتمنى أن تختفي هذه الظاهرة السلبية، أيا كان سببها.
عن مسألة المكرمين والتكريم. لا أظنني من الذين يميلون إلى
تكريم المشاهير وتجاهل غيرهم الأقل شهرة. بل اظن أن العبرة بمستوى الإنجاز
السينمائي الذي قدمه من يتم تكريمه، سواء من المصريين أو العرب أو الأجانب.
وهذا التنوع مهم حتى لا يكون مهرجان القاهرة مناسبة للاحتفال بأنفسنا فقط.
أي من المهم أن تكرم شخصية عربية (من المنطقة أو الإقليم) وشخصية مصرية
وشخصية عالمية وقد جاء تكريم المنتج الأمريكي لورانس بيندر، مفاجأة في حفل
الختام، وكذلك تييري فريمو مدير مهرجان كان السينمائي وكنا ننتظر ظهورهما
على المسرح في الافتتاح.
وأما المخرج المثقف يسري نصر الله الذي صعد ليقدم تييري
فريمو مدير مهرجان كان السينمائي لكي يتلقى الهرم التكريمي، فقد وصفه
باللغة العربية، بأنه “رئيس” (بتفخيم) مهرجان كان.. وما أدراك ما كان..
ياما كان… وقد تُرجم ما قاله يسري، مما جعل فريمو يصحح بشل غير مباشر
بالطبع، بالقول إن رئيس المهرجان هو مسيو بيير ليسكير وأنه هو الذي أسند
إليه وظيفته ووجه له الشكر كما وجه الشكر الى مساعديه، وهو ما يؤكد ما
أقوله من أن الارتجال لا ينتج سوى الفهلوة.. وليس بالفهلوة يحيا الإنسان في
أي زمان أو مكان!
ومن المؤسف أن فكرة النظام الرئاسي مسيطرة تماما بشكل غير
مفهوم على عقلية الكثيرين أي أن مدير أي مؤسسة لابد أن يكون هو “الرئيس” أي
رئيسها بعد أن ألغي منصب المدير وحل محله الرئيس، فمدير المركز القومي
للسينما أصبح رئيسه. ومدير دار الأوبرا أصبح رئيس دار الأوبرا، وهكذا..
والسبب؟ أن هناك مديرين عموميين يعملون تحته، فكيف يكون هو مدير، وتحته
أكثر من مدير عام؟ إنها بالطبع البيروقراطية المصرية العتيقة، ولكني أتساءل
ولا أعرف الجواب: كيف كانت الأمور تسير عندما كان المدير هو المدير وليس
الرئيس؟! الله أعلم.
أود أيضا أن أسوق ملحوظة مهمة فهي ضرورة التدقيق فيمن
يقومون بتقديم المكرمين أو المحتفى بهم، من خلال كلمات معدة ومكتوبة، تصلح
ترجمتها وليس على هذا النحو من الارتجال. فالارتجال هو السمة الراسخة في
ضمير الآخر عنا ومن الضروري تغيير هذه النظرة.
ولا شك أن الاحتفال بمرور 30 سنة على عرض فيلم “الكيت كات”
للمخرج الكبير داود عبد السيد، كان حدثا رائعا في أجواء المهرجان. لكني
أتساءل: لماذا “الكيت كات” تحديدا، ولماذا 30 سنة؟ ولماذا لم يتم مثلا
الاحتفاء بفيلم مثل “غزل البنات” في دورة 2019، بمناسبة مرور 70 عاما على
عرضه الأول؟ أليس الأولى أن يكون الاحتفاء بالكلاسيكيات الكبرى التي صنعت
مجد السينما المصرية؟ وكل عام والجميع بخير.. والمهرجان بخير..ومصر بخير. |