“عد
إلى الرماد”.. الشقاء والحب والموت
أمير العمري- برلين
يظل أجمل الأفلام وأكثرها بقاء في الذاكرة من تلك التي
شاهدناها حتى الآن من أفلام مسابقة مهرجان برلين السينمائي (10-20 فبراير)
هو الفيلم الصيني “عد إلى الرماد”
Return to Dust
سادس أفلام المخرج لي رويجون Li Ruijun (38
سنة). إنه بمثابة إحياء لتيار السينما الصينية الجديدة الذي بدأه في
الثمانينيات، تشين كايجي (الأرض الصفراء)، وجانغ ييمو (الذرة الحمراء)،
ووصل هذا التيار إلى ذروته في التسعينيات. إنه ينتمي بالكامل إلى الإنتاج
المستقل في الأفلام الصينية بعيدا عن الأفلام التجارية التي تصنع للضخ في
شبكات العرض السينمائي الضخمة في المولات التجارية في المدن الكبرى. إنه
عودة إلى سينما الشعر، كما أنه يعبر أفضل تعبير، عن سينما المؤلف صاحب
الرؤية الفنية بملامحها الخاصة.
من جهة أخرى، يعتبر الفيلم أيضا عودة إلى الصين التي لا
يعرفها أحد، إلى الريف الصيني في منطقة نائية تقع في شمال البلاد. وأهم ما
يميز هذا الفيلم البديع حقا، ذلك المستوى الإنساني الذي يجعله يلمس مشاعر
الناس في كل مكان، فهو يخاطب كلا العقل والعاطفة، ويكثف الحس الإنساني،
ويعبر بمفردات الشعر السينمائي: التكوين والصمت، الحركة البطيئة للكاميرا
والموسيقى، الاختيار الدقيق للأماكن، مع وجود الإنسان باستمرار داخل اللقطة
الواحدة، جنبا إلى جنب مع الحيوان (الحمار) ومع الدجاج والكلاب والخنازير
والعصافير، والأهم في قلب الطبيعة، فالإنسان نفسه هو جزء من الطبيعة، وبطل
الفيلم، ذلك القروي الصامت الحزين المقهور عبر القرون، عندما يتحدث فهو
يتحدث عن أهمية عدم إيذاء الطبيعة، ويسعى جاهدا إلى إنقاذ أعشاش الطيور
الصغيرة من الدمار.
ورغم أن الفيلم يدور حول العلاقة الإنسانية بين رجل وامرأة
في ظروف شاقة، إلا أنه في الوقت نفسه، تعبير بليغ وشجي عن الاحتجاج، ضد
القهر وضد التفرقة وضد هدم القديم لصالح الجديد الذي يخدم شركات المقاولات
ويضر بالفلاح. وليس من الممكن استقبال الفيلم سوى على أرضية ما يجري من
“تحديث” في الصين حاليا، على حساب الكثير من الضحايا، كما أنه يوجه نقدا
مستترا بعض الشيء، للبيروقراطية الحكومية، ويكشف على نحو ما، ارتباط
المصالح بشبكة الفساد والتربح على حساب كل قيمة إنسانية.
النقد الاجتماعي والسياسي يوجد هنا على هامش الموضوع
الرئيسي أو الفكرة الأساسية، وهي حاجة الإنسان إلى التواصل، وكيف يمكن أن
ينشأ الحب بين شخصين لا يبدو أن هناك ما يجمعهما، ثم كيف تخلق التجربة
الشاقة، كل ما ينمو من تعاطف إنساني نبيل ورفقة إنسانية، من خلال البناء
والإبداع معا، والدخول في علاقة جدلية شاقة مع الطبيعة نفسها وترويضها
وتحويلها إلى تربة خصبة صالحة للإنتاج.
إن “مايوتي” هذا الفلاح الفقير البائس الذي يتمتع رغم بؤسه،
بنبل حقيقي، هو آخر من بقى من أفراد أسرته من دون زواج، وقد مات جده ووالده
وشقيقاه اللذان يطلق عليهما الذهب والفضة، أما مايوتي فاسمه الرمزي حسب
التقاليد الصينية، هو “الحديد”. يتم ترتيب زواجه من فتاة هي “شاو غوينغ”
تجاوزت سن الشباب لكنها أيضا، شبه معوقة، تعرج بساقها وتسير بصعوبة، كما
أنها تعاني منذ طفوتها من التبول اللاإرادي. إنها الأشد فقرا في عائلتها.
بينما مايوتي هو ذلك الشخص المنطوي بسبب ما تعرض له كثيرا في الماضي من
الإيذاء والسخرية. يتم الزواج بين الاثنين. ويعيش الزوجان معا حياة شبه
صامتة في البداية. يعملان معا ويشقان طريقا صعبا في الحياة، مع الطبيعة،
ومع الأرض. ثالثهما هو الحمار الوحيد الذي يمتلكه مايوتي ويسخره في النقل
والانتقال والحرث والحصاد، وهو موجود في غالبية مشاهد الفيلم كشخصية
رئيسية، ينظر ويرنو ويستمع وينصت ويتعلم ويطيع ويحزن.
يذهب الاثنان معا، إلى مقابر عائلة مايوتي: يحرق الرجل
أوراقا ترمز إلى أوراق النقد، يهديها إلى الراحلين لإنفاقها في الحياة
الآخرة، في تقليد صيني سنوي قائم بالفعل، يصعد الاثنان إلى قمة تلة من
الرمال، يقاومان البرد الشديد في الليل، تأتيه هي بالماء الساخن وهو يعمل،
ليشرب. لكنه يصر أن يجعلها تشرب قبله. التعاطف الإنساني يقرب بينهما. هنا
مشاعر صامتة، لكنها عميقة صادقة. إنهما يرقدان بجوار بعضهما لكن لا تلامس
يحدث ولا جنس بل فقط مشاعر الحنان والتضامن الإنساني والود والاحساس
المتبادل والحب العميق.
مسؤول الصحة في القرية يجمع الأهالي ثم يخبرهم بأن الرجل
الثري الذي يعمل لحسابه الفلاحون في أرضهم التي يؤجرونها له على أن
يتقاسموا الريع، على وشك الموت في المستشفى، وهو في حاجة إلى نقل دم، وأن
مايوتي الطيب القلب المنطوي الخجول، هو الوحيد في القرية الذي تصلح فصيلة
دمه للنقل إلى ذلك الثري. يثور الأهالي، فكيف يطلب منهم انقاذ الرجل الذي
رفض أن يمنحهم حقوقهم. يأتي ابنه الشاب ويزعم أن الحصاد كان سيئا كثيرا هذا
العام ولم يتمكنوا من بيع المحصول حتى الآن، ويعد بإعطاء كل ذي حق حقه
عندما تتحسن الأمور. يوافق مايوتي على أن يذهب معه للتبرع بالدم لوالده
وهو ما يتكرر كثيرا فيما بعد.
مايوتي يريد أن يشتري لها معطفا من البلدة القريبة، لكن
البائعة تطلب مبلغا ليس في حوزته. يلمحه ابن الرجل المريض يشتري المعطف
ويصر على أن يعطيه له لكن مايوتي يؤكد له أنه سيعتبره على سبيل القرض. وهو
يذهب ويقترض بعض المال أيضا لكي يبني بيتا يليق به وبزوجته، ثم يقترض عشرة
بيضات. وعملية بناء المنزل من أهم مشاهد الفيلم حيث يشترك الاثنان معا في
كل شيء. مايوتي يعجن الطين ويصبه في القوالب الخشبية ليصنع منه قوالب
الطوب، ثم يرصه حتى يجف ولكن تهب عاصفة وتسقط الأمطار الغزيرة، فتسرع تشاو
لتغطية الطوب بأكياس بلاستيكية، في صراع مع غضب لطبيعة.
بعد أن يكتمل بناء البيت، تريد السلطات هدم البيوت القديمة
وتعويض السكان بملغ مالي، على أساس انها تريد انشاء بيوت جديدة حديثة
للفلاحين. يتم إزالة المنزل وينتقل مايوتي وتشاو إلى منزل مؤقت، ويمتلكان
قطعة الأرض التي يزرعانها ويحصدان القمح، ويحملان القش فوق العربة الخشبية
التي يجرها الحمار المسكين الذي يقوم في صمت بكل الأشغال الشاقة عبر الفيلم
كله، في صمت بليغ حقا. يربيان الدجاج، والخنازير، ويعيشان حياة أفضل عن ذي
قبل، وهكذا تستمر عجلة الحياة، ويزداد الشعور بالود ويتحول إلى حب شديد،
وتمسك وقبول وتحمل لكل طرف من جانب الطرف الآخر.. وعندما يقبض مايوتي
المبلغ الذي تمنحه له الحكومة تعويضا على بيته الذي هدمته، يذهب لرد المال
مو العلاقة وعندما يبيع حصاد القمح الى ابن الرجل الثري (شبيه الاقطاعي في
القرية) يطلب منه خصم ثمن المعطف الذي أعطاه له، ويقبل الرجل بكل برود رغم
دهشته. فهو وغيره أيضا، يعتبران مايوتي شخصا أحمق.
خلال مسار الفيلم، لا يتجاهل مخرجه قط، الاهتمام الشديد
بالجماليات. إنه يستخلص أقصى ما يمكن أن يمنحه المكان، من حيث الضوء
والصمت، الظلام والمطر والعواصف والرمال. إنه يصل إلى درجة الشعر في السرد
وفي خلق العلاقة البصرية بين الرموز والإنسان، بين الحياة والموت، وبين
الحب والصمت والتعبير البليغ من خلال نمو العلاقة في هدوء ورصانة وتحمل.
يجعل المخرج بطله الممثل العملاق “رنلين وو” في دور
“مايوتي”، يهبط التلال ويحمل المشاق فوق كتفه، يخوض في الطين والوحل والبرك
المائية، ويأكل من التراب فعندما تسقط قطعة من الطعام على الأرض تنهره
زوجته عن تناولها لكنه يلتقطها ويقول لها إن التربة هي أصل كل شيء، ولا يجب
أن ننفر منها بل يتعين أن نعاملها بحب لكي تحبنا وتغدق علينا. إنها الحكمة
الصينية القديمة.
كذلك تتحمل الممثلة البديعة “هايك وينغ” عبئا ثقيلا تحمله
على كتفيها طوال الفيلم في ظروف شاقة، وهي التي قامت بدور “تشاو غوينغ”
المتلعثمة المضطربة التي بدت في البداية صامتة، عاجزة عن التعبير، ثم
تدريجيا اكتسبت ثقة في نفسها بعد أن شعرت بحب مايوتي لها وعطفه الكبير
عليها وتعاطفه الإنساني الودود معها. إن الحب الحقيقي الذي يترجم في مواقف
إنسانية نبيلة.
السلطات تعرض شقة حديثة على مايوتي لكنه يتساءل: وأين سيذهب
الحمار والخنازير والدجاج والأرض؟ وكيف سيمكن لفلاح مثله أن يعيش في شقة من
الأسمنت المسلح في عمارة سكنية حديثة بعيدة تماما عن الطبيعة وعن المجال
الذي يوفر له العيش. و”كيف يمكن أن يعيش الفلاح من دون الأرض؟”. ولكن
الحياة مقابلها الموت. وموت تشاو في الفيلم يأتي موتا عبثيا عرضيا لا معنى
له شأن معظم النهايات. وبعد موتها لا يعود لحياة مايوتي معنى. فهو ينزل
الصورة الرمزية الذي علقها على الجدار تكريما لها ويضع بدلا منها صورتها
مجللة بالسواد، يطلق سراح الحمار، ثم يرقد دون أن ينهض. وسيأتي قريبه
الوحيد صاحب التطلعات الطبقية لكي يتخلى عن البيت للسلطات تهدمه مقابل
حصوله على الثمن.
يستخدم المصور اللقطات البعيدة للإحاطة بجمال المناظر
الطبيعية وتبدلها عبر الفصول، فالفيلم يعبر عن تواتر فصول السنة من خلال
التغير في مزاجية الصورة ألوانها وتكويناتها.. وتعتبر الطبيعة جانبا رئيسيا
في قلب الفيلم نفسه، وكما أنه ليس من الممكن تجريد الطبيعة من الانسان،
كذلك لا يمكن تجريد الفالح من الطبيعة.
ربما تكون الملاحظة السلبية الوحيدة من جانبي تتعلق
باستخدام الموسيقى وهي هنا موسيقى غربية كلاسيكية، وكان الأفضل دون أدنى
شلك، استخدام الموسيقى الشعبية القروية بالآلات التقليدية، فهي الأكثر
انسجاما مع طبيعة الفيلم. وليس معنى هذا أن الموسيقى المستخدمة لم تنجح في
خلق الإحساس بالمشاعر في مواجهة النفس ومواجهة الطبيعة.
إننا أمام تحفة بصرية وتمثيلية جديرة بالجائزة الكبرى في
مهرجان برلين. ولكن الأفلام العظيم ليست هي التي تقتنص-عادة- الجوائز في
مهرجان برلين بكل أسف. |