هناك أمر يستدعي الاحترام المطلق بالنسبة لمهرجان القاهرة
السينمائي، وهو الإصرار على المثابرة لتنظيم دوراته في أوقاتها ومع مجموع
أفلامها وبحضور ضيوفها.
هذا ليس أمراً سهلاً على مهرجان ربما يملك ما يصل بالكاد
إلى نصف ميزانية مهرجان مراكش مثلاً، أو ثلث مهرجان من تلك الثلاثة التي
تقود هذه المحافل، وهي بحسب تواريخ إقامتها، برلين وكان وڤنيسيا.
وليس أمراً سهلاً حين تتغير الإدارات على نحو متوالٍ
فتنتقل، في غضون عشرين سنة، من رئيس إلى آخر من دون أن يستمر بعضهم لأكثر
من عام واحد. ومع كل تغيير في القمّة تتحدر مجموعة تغييرات إدارية بعضها
غير ملحوظ، وتبقى أخرى لا بد من بقائها لسبب أو لآخر.
عبر تاريخه الذي يمتد من منتصف السبعينات وإلى اليوم، صاحب
الإصرار على أن يكون للعاصمة المصرية مهرجانها السينمائي الكبير والدولي.
كلتا الصفتين (كبير ودولي) تحتويان على مصاعب عديدة مرّ بها المهرجان
العريق في العديد من الدورات السابقة، ويأمل هذا العام في تحقيق انطلاقة
جديدة تنتمي إلى أيام المهرجان في أفضل سنواته.
-
فيلم مصري وحيد
الدورة الرابعة والأربعون التي تنطلق اليوم، في الثاني عشر
من الشهر الحالي، وتستمر حتى الثالث والعشرين منه، زاخرة بالأفلام المنتقاة
بعناية. هذا ليس غريباً لكون المدير الفني للمهرجان، المخرج أمير رمسيس،
يمتلك عيناً لاقطة وتجربة لافتة من خلال عمله لسنوات في مهرجان الجونة
بالقرب من مديره الفني انتشال التميمي.
ليس غريباً كذلك حقيقة أن رئيس المهرجان بدءاً من هذه
الدورة هو حسين فهمي، أحد كلاسيكيي السينما العربية بخبرات مختلفة تمتد
لخمسة عقود. كأي مدير في أي مهرجان تُسند إليه مهمّة إدارته، سعى حسين فهمي
منذ توليه الثاني (الأول كان في أواخر القرن الماضي) لإنجاز دورة جديدة تلد
جديداً ونتائج فنية وإدارية أفضل من السنوات السابقة.
نتائج هذا المسعى لا يمكن الحكم عليها لا اليوم ولا في
الغد، بل مع اقتراب نهاية الدورة وما بعدها، لكن بالحكم على الأفلام
المشتركة فإن الجهد المبذول في هذا الشأن ملحوظ، باستثناء أن مصر غائبة عن
المسابقة الرئيسية، إلا من خلال فيلم واحد.
الفيلم هو «19 ب»، فيلم جديد للمخرج أحمد عبد الله الذي سبق
أن خص دورات سابقة من مهرجان القاهرة ببعض أفلامه، ومنها «ديكور» (2014)
و«خارجي/ ليلي» (2018). فيلمه الجديد يدور حول حارس فيلا تحمل رقم «19 ب»،
يواجه عداوة أحد أبناء الحي. من المتوقع أن يعلّق المخرج على التباين في
الأزمنة، وبين الأجيال والبيئة الحاضنة لحياة معاصرة لرجل من خارج هذا
العصر.
وكان المهرجان ردّ، خلال المؤتمر الصحافي الذي انعقد في
أواسط الشهر الماضي، على السؤال حول السبب الذي تغيب فيه السينما المصرية
عن الحضور.
هذا الأمر ليس لغزاً، ورئيس المهرجان أجاب عن هذا السؤال
بالقول إنه كان يأمل أن يجد بين ما هو جديد أعمالاً أخرى تليق بمهرجان
القاهرة، لكنه لم يرَ ما يستحق ضمّه إلى المسابقة من بين ما شاهده. هذا
الوضع في الواقع هو نتيجة استمرار السينما المصرية (ممثلة في منتجيها)
بتمويل أفلام تحمل الهوية المصرية، وليس النبوغ المصري.
هناك مخرجون ممتازون لا يعملون، والعاملون هم مستنسخون
لأعمال هوليوودية في مجالي الكوميديا والأكشن غالباً. كيف يمكن أن تحقق
فيلم أكشن ذا قدرة على طرح ما يُثير اهتماماً اجتماعياً وبأسلوب فني
متميّز؟
الجواب كان دائما حاضراً في سينما جيل الثمانينات، والمخرج
الراحل محمد خان نجح في هذا المزج الثلاثي أكثر من مرّة. بؤرة اهتمامه كانت
أرض الواقع الاجتماعي وسماء الشخصيات الحالمة بالخروج من أزماتها الشخصية.
اليوم، هناك مخرجون مصريون مُغيّبون؛ لأنه لا أحد يريد
الاستثمار في السينما الفنية، ولو أنها هي من ترفع اسم البلد عالياً في
المحافل الفنية. من بين هؤلاء تامر السعيد («آخر أيام المدينة»)، ومحمد
حمّاد («أخضر يابس»)، وهالة القوصي («زهرة الصبّار»)، وكريم حنفي («باب
الوداع»)... ألم يؤدِ ذلك إلى قرار داود عبد السيد الاعتزال عن العمل
السينمائي؟
-
مقارنات
بمثل هذا الوضع كيف يمكن للسينما المصرية أن تشارك فعلياً
في مهرجان القاهرة أو في أي مهرجان آخر؟ صحيح أن هناك أفلاماً منفردة تُعرض
هنا وهناك، ولو على نحو ما يتيسّر من أعمال متباعدة، لكن هذا، بطبيعة
الواقع، لا يكفي.
الحال ذاتها لأكثر من سينما عربية، ويتجلى ذلك باختيارات
محدودة في شتّى أقسام مهرجان القاهرة، كما كان الحال بالنسبة لمهرجان أيام
قرطاج السينمائية الذي بدأ وانتهى في مطلع هذا الشهر من دون كثير ضجة.
في المقابل، يحتوي مهرجان «البحر الأحمر الدولي» الذي
سينطلق مع أول يوم من الشهر المقبل، على سبعة أفلام سعودية روائية طويلة تم
إنجازها في غضون الأشهر الاثني عشر الماضية. هذا تم بسبب الرعاية الرسمية
والتوجه الجديد على الأصعدة كافة، بما في ذلك صعيدا الفن والثقافة للمملكة،
وبسبب نظرة شاملة لكيف يمكن لصناعة الفيلم السعودي أن تتقدّم في المجالات
كافة (عروض، وتصوير أفلام أجنبية، ومهرجانات، وتحقيق أفلام سعودية) في وقت
واحد.
طبعاً، المقارنة بين مهرجاني القاهرة والبحر الأحمر ليست
نموذجية لأسباب مختلفة. الوضع الاقتصادي المصري يختلف، والميزانية التي
يعمل مهرجان القاهرة بمقتضاها تنجز - في حدودها - أقصى ما تستطيعه، لكن
المقارنة تصح أكثر عندما ننظر إلى ما يستطيع كل مهرجان توفيره من أفلام
محلية، فنجد أن السينما المصرية، بتاريخها العريق، واقعة تحت براثن منتجين
يعاملونها كبضاعة استهلاكية فقط، مع غياب نظام شامل لتقدّم هذه السينما
لتواكب العصر الذي نحن فيه.
الأفلام العربية المعروضة في المسابقة الرسمية أربعة، وهي
المصري «19 ب»، والسوداني/ اللبناني «السد» لعلي الشري (ويبدو أن التمويل
الرئيسي لهذا الفيلم أتى من فرنسا)، والفيلم التونسي «جزيرة الغفران»
للمخرج رضا الباهي، يجاوره فيلم آخر من تونس (تحت أعلام السعودية وفلسطين
وفرنسا أيضاً) هو «علَم» لفراس خوري.
لا توجد أفلام عربية مطلقاً في برنامج «عروض رسمية خارج
المسابقة»، ولا في برنامج «العروض الخاصة»، وهناك فيلم واحد من مصر في
تظاهرة «أسبوع النقاد» (إلى جانب ستة أفلام أخرى).
ما يتوفر من أفلام عربية تحتشد في التظاهرة المهمّة، عاماً
بعد عام، «آفاق السينما العربية» التي تعرض هذه السنة ثمانية أفلام تتنافس
لنيل جائزة هذه التظاهرة الخاصّة؛ هذه الأفلام هي «بعيداً عن النيل» لشريف
القطشة (مصر، والولايات المتحدة)، و«رحلة يوسف» لجود سعيد (سوريا)، و«جلال
الدين» لحسن بنجلون (المغرب)، و«العايلة» لمرزاق علواش (الجزائر)، و«أرض
الوهم» لكارلوس شاهين (لبنان، وفرنسا)، و«حورية» لمنيا ميدور (إنتاج فرنسي/
بلجيكي)، و«بِركة العروس» لباسم بريش (لبنان، وقطر)، و«نرجعلك» لياسين
الرديسي (تونس).
-
اختيارات كلاسيكية
إلى كم تعكس هذه الاشتراكات وضع السينما العربية؟ أمر متروك
لما بعد المشاهدة، لكن المرء لا يستطيع أن يغفل أن هذه التظاهرة، إلى جانب
برنامج المسابقة الرئيسي، هما ما يستحوذان على الاهتمام الأكبر من قِبل
الجمهور والنقاد على حد سواء.
كل هذه العروض تمضي في دار الأوبرا المصرية كما هي العادة،
كذلك المحاضرة التي سيلقيها المخرج المجري بيلا تار حول الإخراج السينمائي،
مع عرض فيلميه «ألحان مركمايستير» و«حصان تورينو» المشتركين في تظاهرة
«كلاسيكيات القاهرة».
هذه التظاهرة هي ثروة للمعرفة يتم فيها عرض اثني عشر
فيلماً، من بينها أربعة أفلام مصرية من سنوات خلت، وهي «أغنية على الممر»
لعلي عبد الخالق، و«الاختيار» ليوسف شاهين، و«يوميات نائب في الأرياف»
لتوفيق صالح، و«جنة الشياطين» لأسامة فوزي. |