مستقلة ومختلفة.. ثلاثة أفلام مصرية من "القاهرة السينمائي"
عصام زكريا
لم تزل السينما المستقلة في مصر تثبت أنها تغرد خارج سياق
التيار التجاري السائد، وأنها صاحبة الوجه المشرف في المهرجانات الدولية،
وقبل ذلك وبعده مفرخة السينمائيين الشباب جيلًا بعد جيل.
في الدورة المنقضية من مهرجان القاهرة السينمائي شاركت
ثلاثة أفلام مصرية تنتمي لثلاثة أجيال مختلفة من صناع السينما المستقلة،
وهي "19 ب" (الفائز بجائزة أفضل فيلم عربي، وأفضل تصوير) لأحمد عبد الله،
و"ماما" لناجي إسماعيل، و"صاحبتي" لكوثر يونس (الفائز بجائزة لجنة التحكيم
في مسابقة الأفلام القصيرة)، أعمال لم تتباين فقط في نوعها؛ فالأول درامي
والأخيران قصيران، بل في مستوى الجودة الفنية وإحكام كل مخرج لأدواته.
صراع عبثي
19
ب، فيلم أحمد السيد عبد الله الخامس كمخرج، بعد هليوبوليس (2010)،
وميكروفون (2011)، وفرش وغطا (2013)، وديكور (2014)، وليل خارجي (2018)،
إلى جانب مشاركته بنص قصير بعنوان شباك ضمن فيلم 18 يوم (2011) مع مخرجين
آخرين.
عبد الله واحد من رواد ما يعرف بـ"السينما المستقلة في مصر"
التي انطلقت مع نهاية القرن الماضي، بدأ كمونتير مع الرجل الأبيض المتوسط،
إخراج شريف مندور وبطولة أحمد آدم في 2001، وفي عدد من أفلام التيار السائد
وأخرى مستقلة، منها فيلم عين شمس، إخراج إبراهيم البطوط
(2009).
كان ليل خارجي خطوة مختلفة في مسيرة عبد الله، فالسيناريو
"المغاير" الذي تميزت به أعماله السابقة، بدا تقليديًا ومألوفًا فيه، كذلك
لم يتبلور الخط الدرامي داخل الفيلم (الوثائقي في الروائي، من حيث حكايته
التي تدور عن مخرج يصنع فيلمًا داخل الفيلم الأصلي)، أو ربما لم تكتمل
لأسباب رقابية. مع ذلك حقق نجاحات كبيرة في المهرجانات العربية، بجانب
جائزة لشريف الدسوقي كأفضل ممثل في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
19
ب، تجربة مختلفة بالمرة عن أعمال أحمد عبد الله السابقة، فالشارع الذي كان
محورًا لكل أفلامه (باستثناء "ديكور" الذي يشكل فيه ديكور موقع التصوير
حائطًا سحريًا تتحرك خلاله البطلة عبر حيوات مختلفة)، يكاد يقتصر هنا على
أن يكون خلفية مسرح مرسومة، حيث تدور كل الأحداث داخل فيلا مهدمة ومهجورة
في حي أرستقراطي، يرفض حارسها أن يغادرها، ويقاوم محاولات سايس وسجين سابق
لاقتحام خلوته الغريبة.
العالم في 19 ب ضيق، مغلق، ومختنق، والشخصيات محدودة
للغاية؛ الحارس، ويؤديه سيد رجب، السايس، ويؤديه أحمد خالد صالح، وبعض
الشخصيات الثانوية التي تشاهد أو تحاول المشاركة، لكنها لا تلعب دورًا في
الصراع الدائر بين الحارس وغريمه.
والدراما في الفيلم فقيرة، شحيحة، تكاد تنحصر في حدث واحد
هو إصرار السايس على دخول الفيلا واستخدامها كمخزن لبضاعته المشبوهة،
والنهاية التي يؤدي إليها الصراع فقيرة بالرغم من دمويتها، فرغم كونها
متوقعة ومنطقية، لكنها،عندما تحدث أخيرًا، لا تثير حس المأساة الذي يفترض
أن تثيره، إذ تعود الحياة ببساطة مخلة إلى ما كانت عليه قبل بدءه.
هناك ما يوحي أننا أمام بعض الرموز، لكنها رموز غامضة
ومشوشة، إذ يتصارع الاثنان على مكان لا يملكه أي منهما، وحتى الأسرة
المالكة للعقار الذي يفترض أن الحارس يكرس حياته لخدمتهم، يتبين أن كبيرهم
مات، والصغار رحلوا عن البلاد، والعقار أصبح من دون صاحب تقريبًا، وهو ما
يشكك المرء في سبب تمسك الحارس بالبقاء في الفيلا بتلك الاستماتة التي تكاد
تودي بحياته، وتخربها معنويًا بالفعل.
هل الفيلا رمز لمصر؟ لكنها "خرابة" أكثر منها عقارًا صالحًا
للسكنى، وهدمها أمر قادم لا محالة، وكل من الحارس والسايس لا يملكان منها
شيئًا، ومن ثم فالصراع يبدو عبثيًا على شيء غير موجود.
الرمز هنا، إذا كان هناك رمز، باهت وغير متسق، والأحداث
محدودة وذات بعد واحد، وكما علق البعض، ربما تكون مناسبة فقط لفيلم قصير.
قد يكون التعبير عن الاحساس بالحصار والعبث هو ما يشغل بال أحمد عبد الله،
ولكن غلبة الطابع الحواري واستخدام الأغاني التي يبثها الراديو على نحو
مفرط، والشخصيات الثانوية مثل الابنة والجارة محبة الحيوانات الأليفة
ومحامي ملاك العقار، تؤدي إلى ترهل الإيقاع، وتشوش على الجو العام بالترقب
والخوف، الذي يبثه التصوير وأداء أحمد خالد صالح (وهما أفضل عناصر الفيلم).
واقع لا يصدق
ناجي إسماعيل مخرج ومؤلف فيلم ماما، ينتمي إلى جيل أصغر
قليلًا، فقد تخرج في معهد السينما قبل ثورة يناير وبدأ صنع الأفلام بعدها،
وعادة ما تميل أعماله إلى الجانب الواقعي، تجمع بين الوثائقي والروائي كما
في فيلميه "أم أميرة" و"البنانوة"، الأول وثائقي يحمل بعض المعالم الروائية
حول بائعة جوالة بوسط البلد، والثاني روائي يحمل بعض المعالم الوثائقية حول
عمال البناء.
يؤكد ناجي إسماعيل في بداية ونهاية فيلمه أنه مستقى من
أحداث حقيقية، بل يذكر في ختامه مصير الشخصيات الواقعية. ولعل ذلك التأكيد
يراد به نفي تشابه الفكرة مع قصة بعنوان "الوصية" للأديب شريف عبد المجيد
من مجموعته "صولو الخليفة"، التي حولّها لاحقًا إلى مسرحية من فصل واحد.
وبغض النظر عن التشابه، يطرح "ماما"، الذي شارك في مسابقة
الفيلم القصير بالمهرجان، مسألة قوانين الميراث، خاصة ما يخص المرأة، من
وجهة نظر مختلفة، إذ يروي كل من الفيلم والقصة المشار إليها والواقعة
الحقيقية أن فتاة قاصر أخفت موت أمها عن العالم، بما في ذلك شقيقها الأصغر
الذي ترعاه وتربيه، لمدة ثلاث سنوات إلى أن تصل إلى سنّ الحادي والعشرين،
وذلك حتى ترث الشقة وتمنع عمها الطامع من الوصاية عليها والتحكم في حياتها،
والمدهش أنها عاشت مع أخيها في الشقة بصحبة جثة أمهما طوال تلك المدة، وهي
واقعة لا يكاد يصدقها عقل، رغم أنها حدثت في مصر، ومنذ ما يقرب من مئة عام.
الفيلم مصاغ فنيًا بشكل جيد، اختار صانعه الأبيض والأسود،
وأكد نوع الحياة التي اختارتها الفتاة، أو اضطرت إلى اختيارها، عن طريق
التباين الشديد بين اللقطات الضيقة داخل الشقة، واللقطات الواسعة لبحر
وشاطئ وشوارع الأسكندرية، وإن كان يعيب الفيلم مباشرة الحوار وسطحيته، خاصة
ما ينطق على لسان الصبي الذي لعب دور الأخ الأصغر، إضافة إلى عدم توجيهه
بشكل كاف من قبل المخرج ومساعديه.
موهبة من نوع خاص
الفيلم المصري الثاني في مسابقة الفيلم القصير هو صاحبتي،
الذي حاز لجنة التحكيم، للمخرجة الشابة كوثر يونس، التي بدأت مسيرتها
الفنية بفيلم وثائقي ذاتي بعنوان "هدية من السماء" ترصد فيه قصة حب والدها
(الدكتور مختار يونس، الأستاذ بأكاديمية الفنون) لفتاة إيطالية عندما كان
شابًا، وعودتهما بعد أربعة قرون إلى إيطاليا للبحث عنها، ورغم بساطة الفيلم
والأسلوب "المنزلي" الذي صنع به، فإنه لمس المشاهدين، وحقق نجاحًا
جماهيريًا ملحوظًا بالنسبة لفيلم وثائقي عندما عرض في سينما زاوية.
في العام الماضي صنعت كوثر فيلمًا روائيًا قصيرًا بعنوان
"يوكو وياسمينا" كمشروع تخرجها في معهد السينما، أبرز ما فيه أسلوب السرد
والتمثيل الطبيعي، وإزاحة الثقل الدرامي والمشاعر من واجهة المشهد إلى
الخلفية تاركًا للمشاهد استقراء ما يدور.
"صاحبتي"
خطوة أكثر نضجًا على هذا الطريق، من خلال قصة سبق أن تناولتها السينما
وصفحات الحوادث مرات عدّة، ولها سوابق في التراث العربي والعالمي، لشاب
يتنكر في هيئة فتاة حتى يستطيع أن يزور حبيبته في بيت أسرتها ليقضي الليل
معها، وما يبدو للوهلة الأولى أنه عمل كوميدي، يناقش هموم الشباب المحاصرين
بتقاليد وتقييد المجتمع والعائلة، يتحول ببطء، وهدوء، وسلاسة مرعبة إلى عمل
يتساءل بجرأة عن ماهية الجندر، والفروق بين النوعين الجنسيين، وهشاشة
الحدود القائمة بينهما، كما لو أن تجاوز الشاب حدود البيت، نقله إلى عالم
تتلاشى فيه الحدود بين الجنسين.
في الوقت الذي تبدو فيه الفتاة قوية، مطمئنة، ومرحة، إذ
تستضيف حبيبها داخل غرفة نومها على بعد خطوات من أمها وأبيها، وتبدأ في
اللهو بالفتى المتنكر في هيئة فتاة، بينما الشاب الذي جاء غازيًا، واعدًا
نفسه بلية انتصار مظفرة، يسجلها في لوحة انتصاراته الذكورية، يبدأ في
التوتر من مداعبات الفتاة، ويضيق ذرعًا بهيئة المرأة التي أصبح عليها، بل
الأسوأ، بالنسبة له، أن سلوك حبيبته، ثم والد حبيبته (الذي يبدأ في مغازلته
والتحرش به باعتباره فتاة)، يبدو وكأنهما يثيران داخله منطقة غائمة، مكبوتة
ومنكرة، منطقة ينهار فيها بنيان الرجولة الذي تصنعه العضلات والشارب
والأعضاء الجنسية، فبمجرد أن يتغير مظهر تلك المعالم، تبدأ مشاعر الشاب في
الاختلاف.
يبدأ الفيلم بالشاب في المصعد قبل أن يغادره ليتجه إلى شقة
الفتاة، وينتهي به في المصعد هابطًا، محاصرًا، إذا يعلق فجأة بين "الأدوار"
غير قادر على الخروج.
هذا فيلم ذكي، لكن الأهم أنه يعبر عن مضمونه بلغة سينمائية
خالصة، ويؤكد موهبة صاحبته الخاصة جدًا. واقعية الحدث الدرامي والسلوك
والحوار يعادلها حركة ولغة الكاميرا وتعبيرات الممثلين غير المنطوق بها، إذ
يترك لعين المشاهد أن تقرأ ما يدور خلف الصورة وما بين السطور. |