مُخرج «ماما».. يُفجر قانون الوصاية على البنات
د. أمل الجمل
أتذكر أنني التقيت فتاة تركية في سويسرا قبل
عدة سنوات عندما استضافتني في بيتها ضمن برنامج الضيافة
Airbnb،
وحكت لي قصتها، أو بالأحرى قصة هروبها من والدها وأخوتها الذين كانوا
يخططون لتزويجها رغماً عنها. ساعدها في ذلك بعض المدرسين المتعاطفين مع
قضيتها، خططوا معها حجة الخروج من المنزل للهروب ليلاً، الطريق الذي
ستسلكه، مَنْ سينتظرها وأين، المكان الذي تستقر به، نجحوا في توفير دعم بعض
المؤسسات لها، وعمل لتوفير دخل لها عقب الهروب، وذلك علي أن تبدأ الرحلة في
الليلة التي ستُكمل فيها سن الثامنة عشر. فتم إنقاذها وتبديل مستقبلها
بزاوية ١٨٠ درجة. أصبحت الفتاة مستقلة، واصلت تعليمها الجامعي، صار لديها
شقة، وعمل، وحياة.
في مصر، وفق القانون، تظل الفتاة تحت الوصاية حتى تبلغ سن
الحادية والعشرين. قبل ذلك يُمكن لوالدها أو عمها - أو أي وصي بعد وفاة
والديها - أن يفرض سيطرته عليها، فيتحكم في أموالها وميراثها ويٌحدد لها
مصيرها.
تناقض غير مفهوم!
هذا القانون هو ذاته الذي يمنح الفتاة حق استخراج بطاقة
الرقم القومي في عمر السادسة عشرة، ويمنحها حق استخراج رخصة القيادة عندما
تبلغ الثامنة عشر، فلماذا يمنحها القانون حق القيادة الذي لا تكون فيه
مسؤولة عن حياتها فقط ولكن عن حياة آخرين أيضاً؟؟ بينما يحرمها من حق أن
تتولى قيادة مسؤولية نفسها وتحديد مصيرها والتصرف في ميراثها ورعاية أخيها
عندما تبلغ الثامنة عشرة؟ لماذا تسبقنا الدول
الأوربية وأمريكا
في ذلك؟ ولماذا يُصر القانون المصري على أن تظل الفتاة فاقدة أهليتها
محرومة من حريتها حتى تبلغ سن الحادية والعشرين؟ لماذا لا يتم تعديل مثل
هذا القانون؟
الفيلم القصير البديع «ماما» للمخرج الموهوب ناجي إسماعيل
يُفجر برقة هامسة قضية الوصاية على الفتيات في مصر. الفيلم مقتبس عن قصة
حقيقية مُوجعة، لكن ناجي أعاد كتابة سيناريو روائي قصير مؤلم، بناؤه منسوج
بحكمة وبصيرة الفنان الصادق المهموم برؤية مُشْرَعة على المستقبل.
من تلك اللحظة التي أعقبت الوفاة غير المعلنة يبدأ. هكذا
نشعر مع اللقطة الأولى حيث الفتاة التي تُعطينا ظهرنا وتمد بصرها باتجاه
الضوء القوي القادم من الشباك. لحظة تأمل كأنها السكينة أو الاستسلام
للقدر، قبل أن تهم وتغلق النافذة كأنها تغلق القبر من الداخل، مع استمرار
صوتها الذي يصاحب الصورة عن قصة الأمير الصغير الذي كان بحاجة وضرورة
لمواساته.
اشتغالات بصرية شديدة السينمائية
الوفاة السرية تؤكدها تلاوة الشيخ محمد رفعت لآية «مثل نوره
كمشكاة…» من سورة النور على لقطات بصرية خالية من البشر تشي بحزن البيت.
يعقبها على شريط الصوت دق شديد على شراعة الباب بكف غليظ. «الشراعة» ذاتها
لوحة فنية تحمل دلالتها ضمن محتوى الفيلم، ففي منتصف زجاجها رُسم وجه طفل
يبتسم ورأسه يتطلع لشيء مبهج لا نراه. الدق المتواصل العنيف يعقبه خروج
الكاميرا إلى مشهد العمارات الشاهقة المتراصة وفي مقدمتها شاطئ البحر
المتوسط قبالة الإسكندرية.
كأنها رحلة من الداخل إلى الخارج، عبر تفاصيلها البصرية
المعدودة نُدرك الحالة الاجتماعية الاقتصادية لبطلي الفيلم؛ من الأحذية
الرثة الراقدة على الأرض متجاورة، وبعض مفردات الأثاث القديم، التلفاز
والكنب، الجدران والسقف الذي تتدلى منه قطع من الطلاء المتهالك.
نرى الفتاة التي تكاد تقترب من سن الواحد والعشرين بصحبة
طفل ربما في السابعة أو الثامنة. يسيران في الشوارع، يجلسان على السور
الممتد على شاطئ البحر، يمران بلسانهما على السائل المتجمد للآيس كريم
بينما عيونهما شاردة باتجاه عمارة أمامها.
لاحقاً عبر ثلاث لقطات سريعة ومكالمة هاتفية مُوجزة - لكنها
كاشفة - سنُدرك أن الدق على شُراعة الباب كان مصدره العم الذي يُلاحق
البطلة مي، مٌدعياً حرصه عليها وعلى أمها وأخيها، مُصراً على أن تذهب لتعيش
معه هى وأخيها الصغير بالقاهرة وبيع شقتهما، خصوصا أن لديه شكوكاً بأن أمها
قد أصابها مكروه. إذن جوهر الموضوع هو وضع يده على الشقة.
عدم الغرق في المأساة
نعيش تفاصيل رعاية الفتاة لأخيها، وحمايتها له نفسياً
مُدعية أن الأم مريضة ولايجب أن يراها لتحميه من نقل العدوى، فيكتب الصبي
خطابات لأمه، يحكي عن حبه لأخته وعدم إغضابها لأنها مرهقة، وأنه ادخر
مبلغاً من المال ليشتري لها هدية في عيد ميلادها، وفي لقطات آخرى نرى
الشابة بين الممرضات زميلات أمها في المستشفى وهن يقدمن لها المساعدة
المادية، بينما تتقبلها وهى تفر فراراً.
أحداث الفيلم القصير مؤلمة، كئيبة، مُقبضة، لكن ناجي
إسماعيل بموهبته وإحساسه السينمائى والوجداني حاول التخفيف من هذه وطأة هذه
الكآبة ومنحها لمحات من الآمل والإرادة، وعدم الاستسلام، وحب الحياة. حقق
ذلك ببراعته في الاشتغالات البصرية المعبرة، الموجزة، الموحية، والتي تخلق
تياراً شعورياً خطيراً يجعلنا نندمج مع مأساة الفتاة وشجاعتها، حتى إنه
عندما بلغت المأساة بلغت ذروتها لم يتركنا نغرق فيها طويلاً، لكن عبر
الانتقال السلس من صدمة الفتاة وذعرها - المصحوب بشريط صوت مخصص لأغنية
«جارة الوادي» لفيروز بصوتها الشجي - ثم ينتقل ناجي إلي تفاصيل آخرى للصبي
المتحمس عقب خروجه من المدرسة مفكراً في الهدية التي أعدها لأخته، متحمساً
لأنه سيُسعدها، ولأنه سيُشاركها، بنظرة عيونه، بحركة يديه تؤرجح الحقيبة
على ظهره، بملامح وجهه وحركة لسانه على شفتيه التي تكشف بوضوح شوقه للهدية.
براح وسحر الإسكندرية
ميزة آخرى تُحسب لناجي إسماعيل أنه - رغم تبديله لتفاصيل
القصة الحقيقية - أصر على أن تدور أحداث فيلمه في الأسكندرية، حيث كان يخرج
بنا من بين حصار الموت والجدران وكآبة الليل إلي البحر الواسع الرحب الذي
تستعين به مي جلوسا ورقوداً، لأطول فترة ممكنة، قبل أن تعود بأخيها ليقضيا
الليل في المكان الذي ترقد فيه جثة والدتها على مدار عدة شهور قد تبلغ
التسع، تنفيذا لوصية أمها ألا تُعلن وفاتها أو تدفنها إلا عندما تُكمل
الفتاة سن الحادية والعشرين.
رغم أننا لم نر الأم، ولم نر هذا المشهد بينهما، واكتفى
المخرج بذكره عقب تحقيق البوليس، لكنه يرسم في مخيلتنا صورة لهواجس الأم
التي أدركت أنها تحتضر، وتفكر في مصير ابنها وابنتها، وتُدرك جشع العم،
ورغبته في الاستحواذ على الشقة، هذه الأم التي أدركت أن القانون سيكون ضد
فلذات أكبادها فقررت أن تلتف عليه، وتراوغه، بأن تطلب من ابنتها عدم إعلام
أحد بوفاتها، وتأخير دفنها لحين بلوغها السن القانوني لتفلت من الوصاية.
هذه تصرف له دلاله صارخة ويجب أن يتقف أمامه القانون.
هذا الفيلم المهم، سينمائياً وفكرياً، شارك في مسابقة
الأفلام القصيرة بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الرابع والأربعين. خرج
من دون أن يحصد جائزة، نال الجائزة فيلم مصري آخر، من توقيع منتجة فيلم
«ماما»، كوثر يونس بعنوان «صاحبتي».
صرخة تضامن مع البنات
وفي رأيي الشخصي أن فيلم «ماما» أهم سينمائياً - وكموضوع -
من فيلم «صاحبتي»، صحيح أن الأخير جريء لكنه ليس بكر، فقد سبقه لنفس التيمة
فيلم آخر دار حول نفس المضمون - تخفي الشباب في زي البنات ليلتقوا حبيباتهم
- بعنوان «ستاشر» للمخرج سامح علاء، لكن الأخير كان أعمق وأقوى دلالة لأنه
كان إدانة لمجتمع يقتل الحب، لذلك استحق «ستاشر» أن يكون أول فيلم مصري
قصير يحصد السعفة الذهبية بمهرجان كان ٢٠٢١، وقبلها حصد جائزة أفضل فيلم
قصير من مهرجان موسكو السينمائي الدولي٢٠٢٠.
كان يُمكن لفيلم «ماما» فكان يمكن له أن يُستقبل بترحاب في
المهرجانات الدولية، لكن صانعه فضل أن يكون عرضه العالمي الأول في بلده
مصر، لأنه صنعه من أجل قضية تخص نساء في وطنه الذي يُؤمن بأنهن نصف
المجتمع، وليقدم صرخة احتجاج متضامنة مع ملايين البنات في أرض الكنانة،
فتحية تقدير لناجي إسماعيل. |