«رسمياً،
بدأ المهرجان» قال مايكل دوغلاس المُحتفى به في هذه الدورة بعد أن ألقى
كلمة تحدّث فيها عمن أثر في شخصيّته من الممثلين (كارل مالدن ووالده كيرك
دوغلاس) وعن تاريخه ممثلاً ومنتجاً. وتابع أن الإعلان عن بداية المهرجان لم
يكن مخططاً له في تلك اللحظة، إذ كانت لا تزال هناك بعض الفقرات التي لم
تُقدّم. كذلك لم يكن مخوّلاً، حسب مصادر، إطلاق هذا الإعلان لكنه تبرّع به
ناشداً تعزيز حضوره.
شاركته الوقوف على المنصّة الكبيرة الممثلة كاترين دينوف
حاملة 80 سنة من العمر، وباذلة الجهد لكي تجسّد نحو 60 سنة من التمثيل.
دوغلاس (79 سنة) ودينوف ظهرا كما لو كانا في زيارة من التاريخ لمهرجان يجمع
دوماً بين الماضي والحاضر، كل بتجلياته.
في كل الأحوال، كان الافتتاح السابق لعرض فيلم الافتتاح
جيداً ومنضبطاً ومليئاً بالمشاهدين في الصالتين الكبيرتين. تضم الأولى
المدعوّين من أبناء صناعة السينما حول العالم، وتشمل الثانية النقاد
والصحافيين ومن عرف للدخول سبيلاً.
نجاح مشهود
تبع ذلك فيلم الافتتاح «جان دو باري»
(Jeanne Du Barry)
إخراج مايوَن وبطولتها بالاشتراك مع جوني دَيب في دور الملك هنري الخامس
عشر.
مباشرة بعد اسم شركة الإنتاج الفرنسية
(Why Not)
يظهر اسم «مهرجان البحر الأحمر» كأول المساهمين في إنتاج هذا الفيلم
التاريخي. هذا الظهور هو، في واقعه، إعلان حضور مهم لمؤسسة سعودية جادة في
مجال احتلال موقعها المُستحق بين المؤسسات الكبرى كحدث وكمهرجان وكجهة
تتطلّع للتعاون على تمويل أفلام ذات قيمة.
يسرد «جان دو باري» مرحلتين من مراحل حياة آخر عشيقات الملك
هنري الخامس عشر. الأولى يمر عليها سريعاً وتمثّل نشأتها صغيرة وفي مطلع
شبابها. والثانية تبدأ بتسلّل جان إلى حياة النافذين من أعيان فرنسا
وتلقيها دعوة من الملك هنري لزيارته. ومن هنا كيف اتخذها الملك هنري الخامس
عشر عشيقة له، وهي التي تنتمي إلى بيئة اجتماعية فقيرة وغير مثقّفة. ربما
كونها آتية من خارج الحلقة الملكية والمجتمع المخملي كان، يوحي الفيلم،
عنصراً لوله الملك بها. شاهدها وأعجبته. لم تتعلم قوانين وإرشادات القصر
المعتادة في حضرة الملك، لكنه لم يأبه بذلك.
يواصل الفيلم سرد ما حدث في البلاط الفرنسي في قصر فرساي
الشهير عندما رفضت بنات الملك (من زوجات سابقات جئن من خلفية اجتماعية أعلى
شأناً) وجود جان دو باري واستحواذها على اهتمام وحب الملك.
الفيلم مشغول إنتاجياً على نحو جاذب يحتوي على استعراض شامل
لكل تفاصيل الفترة وتصاميم المكان والملابس وكل ما ينتمي إلى الصورة
زمنياً. يسجّل له كذلك حقيقة أن تصويره تم في أماكن الأحداث نفسها بنسبة
كبيرة. هذا يعني استخدام قصر فرساي من الخارج بمساحاته الشاسعة والداخل
بقاعاته الكبيرة وغرفه الوثيرة. تعرف المخرجة مايوَن شغلها حين يأتي الأمر
لإخراج المشاهد كل على حدة، وتدرك كيف تحقق فيلماً جاذباً للانتباه يلعب
على الشاشة بوصفه عملاً تاريخياً وكسيرة حياة على نحو متوازن.
على ذلك، هذا النجاح مشهود على صعيد الصنعة الفنية
والإنتاجية تثير الإعجاب لدقتها وثراء بصرياتها أكثر مما هو ناضج على صعيد
الدراما، التي تعرضها تبدو كما لو أنها فقدت هدفها متأرجحة بين سرد قصة
حياة وسرد قصّة عامّة.
هناك، على سبيل المثال، مشاهد طويلة تدور حول مسألة رفض
بنات الملك هيامه بامرأة من العموم، ومن دون مستوى ثقافي أو اجتماعي وما آل
إليه هذا الرفض من ألم في صدر جان دو باري إلى أن (وبعد مشاهد عدّة تكرر
صور هذا الرفض) يقبلن بها فجأة. وتحيد الحكاية عن الدرب قليلاً عندما
يُقدّم صبي أفريقي صغير تهتم به دو باري على الرغم من سخرية وعنصرية بنات
الملك حياله. هذا أيضاً يبدو نتوءاً في جسد الحكاية ولو إلى حين. يمر
عارضاً ليترك تعليقاً ثم يمضي.
مسائل محورية
تخصيص مشاهد مطوّلة لبنات الملك وموقفهن من دو باري أساساً،
يكشف عن سيناريو يبحث لنفسه عن نقطة ارتكاز درامية. الفيلم مشغول فنياً
بقوانين الفيلم التاريخي، ومصنوع مع دراية كاملة بالتفاصيل الفنية
والديكوراتية والتصاميم الدقيقة كافة. تلمع موهبة المخرجة مايوَن في العديد
من المشاهد التي تتطلّب حنكة ومهارة في استخدام المشاهد للتعبير عن الفترات
الزمنية المختلفة. البداية وحدها واعدة قبل أن ينفض العمل عن الرغبة في سرد
حكاية لا تخلو من نزاع على هويّتها بين أن تكون قصّة حياة وقصّة تاريخ.
رغبة مايوَن أن يسود حضورها الفيلم ترك القليل مما يستطيع
جوني دَيب فعله، على الرغم من أهمية دوره ووجود لحظات عاطفية تعزز حضوره.
لكن ما لا وجود له هو تمكين الممثل من بلورة، ولو محدودة، لشخصيته ودوره
يرتفع لمستوى ذاك الذي لدى مايوَن. حضوره بدني أكثر مما هو درامي. هناك
انعكاس لدواخل شخصية مساندة هي شخصية مدير شؤون الملك لا بورد (بنجامين
لافيرني) أكثر مما منحته المخرجة لشخصية الملك، التي كان عليها أن تؤدي
دوراً موازياً لكي تتعمّق الحكاية عوض أن تبقى سرداً قصصياً.
بالنسبة لمايوَن ممثلة، تشير المصادر التاريخية إلى أن جمال
جان دو باري كان باهراً، مما منحها القدرة على جذب الرجال إليها والانتقال
من الدعة والفقر إلى مخالطة النبلاء وصولاً إلى هنري الخامس عشر نفسه. إذا
كان هذا صحيحاً، ولا مانع أن يكون كذلك، فإن جمال الممثلة مايوَن ليس من
النوع نفسه. المشكلة هي أن مايوَن ممثلة موهوبة وقادرة على حمل فيلم كبير
كهذا من دون عناء كتشخيص وحضور، لكن يبقى هناك ذلك الشك حين المقارنة بين
جمالها وجمال الشخصية التي تؤديها في الأصل، مما يترك فاصلاً غير محبب.
ثلاثة ممثلات لعبن هذا الدور نفسه في السابق، وكل منهن كانت
أجمل كملامح من مايوَن: بولا نغري في «عاطفة» للألماني إرنست لوبيتش
(1919)، ودولوريس دل ريو في «مدام دو باري» لويليام ديتيرل (1934)، وآسيا
أرجنتو في فيلم صوفيا كوبولا «ماري أنطوانيت» (2006). هذا الأخير صوّر
الصراع بين الملكة ماري أنطوانيت (لعبت دورها كيرستن دنست) وبين دو باري.
الفيلمان يتعادلان في بعض الجوانب، لكن إذا ما أخذنا
العملين على نحو كامل، فإن «جان دو باري» أفضل عملاً، خصوصاً لناحية الفترة
التاريخية وشخصيات الفيلم المتعددة كما الفيلم نفسه الإخلاص والنوعية
الجمالية للعمل ككل.
استقبال جوني دَيب
ما تستعيض به الممثلة مايوَن إخلاصها لمشروع سعت إليه بكل
جوارحها ومن ثَمّ مثّلته بتواضع يُلائم مصادر الشخصية. ربما هدفت للاستثئار
بالبطولة وربما ليست بجمال دو باري ذاتها، لكن الفيلم، في نهاية مطافه عن
امرأة أحبّت «ملكها» (كما نعته) وأخلصت له، وفي سبيل ذلك لم تحاول أن تبدو
أي شيء آخر سوى ما تطرحه. ليس هناك من مشاهد مفعمة بالرغبة في احتلال
الأهمية ولا تلك اللقطات التي تخصّها وحدها، إلا في تلك المواضع الضرورية.
إلى ذلك، اختصار مراحل حياة دو باري إلى مرحلتين، قصيرة وسريعة، وأخرى تحتل
معظم الفيلم، هو فعل جيد من مخرجة تدرك أن أفضل سبيل هو التركيز على الفترة
الأهم وهي تلك التي أمضتها مع الملك لست سنوات حتى وفاته.
إلى ذلك، أحسنت مايوَن الابتعاد عن الفانتازيا في معالجتها
للحكاية. كان بإمكانها تحقيق فيلم يتلاعب بالمشاهد بصرياً ويخرج عن الواقع
درامياً، لكنها أبت أن تفعل ذلك وانحازت لفعل جاد رغم ما سبق ذكره من
عثرات. إلى ذلك، فإن المشاهد العاطفية تأتي صادقة ومحافظة. فيلم آخر، بين
يدي مخرج آخر، كان سيستغل ما يمكن استغلاله لمشاهد جنسية لتأجيج تأثير سهل.
وأحسنت مايوَن، مخرجة، الابتعاد عن الفانتازيا في معالجتها
للحكاية. كان بإمكانها تحقيق فيلم يتلاعب بالمَشاهد بصرياً ويخرج عن الواقع
درامياً لكنها أبت أن تفعل ذلك وانحازت لفعل جاد رغم ما سبق ذكره من عثرات.
في حين لم يتسنَ لجوني دَيب لعب الدور المطلوب في الحكاية،
إلا أن استقباله من قِبل الجمهور قبل دخوله صالة العرض كان حافلاً. صاحبته
الكاميرا وهو يوقع صفحات ويمنح الجميع فرصة التقاط «سيلفي» معهم مبتسماً
وهادئاً.
قبل وصوله بأيام قليلة جرت محاولة لانتزاع ذلك الجمهور منه
وانتقاد حضوره واستقباله بسبب المحكمة التي شغلت الرأي العام والإعلام قبل
أشهر تبعاً لقضية رفعتها زوجته السابقة الممثلة أمبر هيرد ضدّه.
التقط الإعلام الفرنسي الراية ووسع دائرة الانتقاد ضد دَيب.
زكّى كل ذلك رسائل احتجاج تنتقد استقبال إدارة المهرجان للممثل.
في طبيعة الحال لم يكن جوني دَيب على دراية بأي من الطرفين
سيؤثر أكثر على حضوره. المنتقدون والمحتجون أو الجمهور الذي احتشد للترحيب
به. لكنه وظّف المناسبة جيداً لصالحه قبل دخول قاعة العرض الكبرى وجلس في
مقعده المخصص مع فريق الفيلم متابعاً باهتمام.
حين انتهى الفيلم هب الحاضرون في القاعة الكبرى مصفّقين له.
وقفوا للتحية ووقف بدوره متوجهاً إليهم بابتسامة وعينين مغرورقتين بالدموع.
فبعد تلك المحنة التي كادت أن تعصف به يشهد تجدد الثقة به وهو موقف لا يمكن
أن يُمحى من ذاكرته. |