الحجاب والنقاب وعذاب القبر فى شريط سينمائى يخاطب العالم
طارق الشناوي
أمس الأول كان يوما عربيا بامتياز؛ سيطرت فيه على المشهد
لغة (الضاد)، كما تعودنا أن نطلق عليها، أو لغة (العين) كما يطلق عليها عمر
الشريف، لأنه كما قال لى لا يستمع إلى اسمه (عمر) بعرف العين إلا في العالم
العربى، وفى كل الدنيا ينطقون اسمه (أومر) ولهذا يراها لغة العين.
استمعنا إلى حوار باللهجتين التونسية (بنات ألفة) لكوثر بن
هنية (المسابقة الرسمية)، والسودانية (وداعا جوليا) لمحمد كردفانى (نظرة
ما)، ولم يخل الأمر من اللهجة المصرية قبل نهاية اليوم حيث أقام رجل
الأعمال سميح ساويرس حفل استقبال، أعلن فيه عودة مهرجان (الجونة) مجددا في
دورته السادسة من 13 إلى 20 أكتوبر، بعد غياب عام، وصارت العودة لا تحتمل
الشك، وهى من الحالات النادرة، عندما تؤجل دورة في العادة يصبح الأمر أقرب
إلى التمهيد للتوقف النهائى، (الجونة) كذّب كل التوقعات التي تبادلناها،
اعتبرها مجرد استراحة محارب وسيعود مجددا معتمدا على جناحيه رجل الأعمال
عمرو منسى المدير التنفيذى وانتشال التميمى المدير الفنى، لتكتمل الرؤية
المادية مع الفنية.
قطعا مهرجان القاهرة يواصل النضال، ولا أقول فقط البقاء،
ويظل الفيصل أن مهرجان القاهرة تاريخ حافل، 44 دورة والقادمة 45، مهرجان
عريق، بحكم التاريخ، حتى لو خذلته الجغرافيا في بعض الدورات، وكان رأيى ولا
يزال أن مهرجان (الجونة) يلعب دورا إيجابيا في تنشيط إدارة مهرجان القاهرة
للبحث عن الأفضل، ولهذا حرص حسين فهمى على حضور حفل الاستقبال، فهو يعلم
جيدا أهمية التنافس للأفضل، والمهرجانان تحت مظلة العلم المصرى، وعلينا أن
ننتظر القادم، ومؤكد أن الأفلام العربية المشاركة في (كان) وبينهما قطعا
(بنات ألفة) و(وداعا جوليا) ستصبح هدفا للمهرجانين، ولكل المهرجانات
العربية الأخرى وبينها (البحر الأحمر) الذي ساهم في إنتاجهما وأيضا مراكش
الذي يعود بقوة، وكل المهرجانات تفضل أن تنفرد هي بالفيلم العربى الذي
يشارك في أي مهرجان عالمى ويقف (كان) في المقدمة.
قبل بداية مهرجان (كان) وبالتالى قبل أيضا مشاهدة أي عمل
فنى، قلت إننى أتمنى أن أستمع مجددا إلى زغرودة تونسية مشتركة بين المخرجة
كوثر بن هنية وهند صبرى بطلة فيلمها (بنات ألفة) تذكرنى بتلك التي أطلقتها
قبل نحو أربع سنوات اللبنانية المخرجة والممثلة نادين لبكى بعد فور فيلمها
(كفر ناحوم) بجائزة لجنة التحكيم في (كان).
وبعد أن شاهدت الفيلم التونسى أستطيع أن أجد من الأسباب
الكثير الذي يجعل تلك الزغرودة قريبة جدا، من التحقق، مساء يوم 27 مايو،
عند إعلان جوائز المهرجان، لنعيش جميعا حالة نادرا ما عرفناها، جاءت الذروة
مع المخرج الجزائرى محمد الأخضر حامينا عندما نال السعفة الذهبية مناصفة
عام 1975 عن فيلمه (وقائع سنوات الجمر)، كما أننا عشنا فرحة أخرى تونسية
تلك المرة عام 1995 مع فيلم (صمت القصور) للراحلة مفيدة النلاتلى عندما
حصدت (الكاميرا الذهبية) لأفضل (عمل أول)، والمشترك بين الفيلمين هو هند
صبرى التي كانت وقتها مراهقة أسندت لها مفيدة بطولة الفيلم، الغريب أيضا أن
المنتج التونسى الراحل أحمد عطية ساهم في إنتاج (صمت القصور) وابنه حبيب
عطية يساهم أيضا في إنتاج (بنات ألفة)، لا ننسى فرحة تتويج يوسف شاهين عام
1997 بجائزة السعفة الذهبية التذكارية عن مجمل أعماله بمناسبة اليوبيل
الذهبى للمهرجان.
في فيلم (بنات ألفة) سنجد الشريط السينمائى العابر للحدود،
فلا يمكن تصنيفه مباشرة في نوع، حتى لو غلبت عليه روح الوثيقة، فهو يمزج
بين الدراما والتوثيق، الوثيقة هي البطل ولكن التحدى أنك عندما تشاهد
الفيلم لا تستطيع أن تضع حدا فاصلا بين الحقيقة التي يدعمها الواقع المسجل
بالصوت والصورة، وبين الدراما التي لها مذاق الحقيقة، هند صبرى لعبت دور
ألفة التي احتلت مساحة كبيرة على الشاشة، المخرجة منذ اللقطة الأولى عقدت
معاهدة بينها وبين الجمهور، ليصبح قادرا على قراءة أبجدية الفيلم القائمة
على هذا المزج، المحسوب بدقة بين تسجيل ما حدث بالضبط وبين الخيال الذي
يُكمل الصورة.
النجمة المحترفة هند صبرى يجب أن تعود أمام الكاميرا إلى
مرحلة ما قبل الاحتراف، والشخصية الواقعية التي تؤديها (ألفة) الحقيقية يجب
أن تدرك أن هناك قواعد في الحركة أمام الكاميرا، تحسب بدقة ومن خلال عقل
واع في موقع التصوير، وعليها في خضم كل ذلك ألا تفقد فطرتها وتلقائيتها.
هما الأصل والصورة، وأنت كمتلق عليك ألا تفرق بينهما، ولهذا
شاهدناهما معا في اللقطة الأولى، بين الحين والآخر يختلط عليك الأمر، وهذا
هو بالضبط المطلوب، السيناريو به روح الارتجال حتى تضمن التلقائية، ومن
البديهى أن هناك إعادة للقطات تسمح للمخرجة في نهاية الأمر باختيار الأفضل
في المونتاج النهائى، المشهد الأول يفيض بخفة الظل في ليلة الدخلة، والناس
تنتظر أن ترى وثيقة براءة ألفة كفتاة بكر، وأن الزوج الذي أدى دوره مجد
مستورة الحاصل قبل سنوات على جائزة الدب الفضى لأفضل ممثل في مهرجان برلين،
دور صغير هذه المرة في المساحة، ولكن مجد أداه باقتدار، تنهال عليه الزوجة
هند صبرى في ليلة الدخلة ضربا حتى تدمى وجهه وتضع الملاءة على الجراح
ويراها الجيران باعتبارها دماء غشاء البكارة، وهى عادة عربية قح، ورغم ذلك
استوعبها المتفرج الأجنبى ووصل المغزى وضجت الصالة بالضحك.
القضية لا تزال حاضرة، في العالم والابنتان رحمة وغفران
حاليا، في سجون داعش بليبيا حيث تمكنت العناصر الإرهابية التي تغلغلت إلى
تونس، وهى تتدثر عنوة بالإسلام من تجنيد الفتاتين عن طرق خطوات تبدأ
بالحجاب ثم النقاب مع أحاديث عن عذاب القبر لبث الهلع في النفوس، مع ذكر
تلك الأناشيد الإيقاعية التي يؤدونها بدون آلات وترية، لأنهم يعتبرون الوتر
حراما شرعا، تم تهريب الابنتين إلى ليبيا، وتتزوج كل منهما من أحد القيادات
الداعشية، ولم يتم حتى الآن الإفراج عنهما من السجن.
الشريط السينمائى يرسل من (كان) وثيقة لكل العالم بالإفراج
عنهما وإعادتهما للوطن. كثيرة هي الأسباب التي تجعلنى أنتظر حصول الفيلم
على جائزة بالمهرجان رغم ضراوة المنافسة، أولها قطعا المستوى الفنى الذي
قدمته كوثر باقتدار، دخولها في تحدٍّ للنوع السينمائى، قيادتها لأكثر من
ممثلة غير محترفة، سخونة القضية التي يعيشها العالم ولا يزال، والمهرجان
يعنيه أن تصل رسالته لكل العالم ويحرك الضمائر الصامتة.
قلت وكتبت أكثر من مرة، ويبدو أننى سأكتب أكثر من مرة، أن
سقف الحرية كلما ارتفع مع مبدع يقدر المسؤولية الاجتماعية ورقيب يقدر
الإبداع، نستطيع أن نقدم في مصر الكثير والكثير، ونعود للتواجد على خريطة
المهرجانات الكبرى، وأجزم أن لدينا الفنان الملتزم بوعى بقضايا بلاده،
ولكننا بحاجة إلى رقيب أكثر جرأة في الدفاع عن الإبداع!!. |