من المرجح ألا ينسى المخرج الفنلندي
آكي كوريسماكي الحفاوة التي استُقبل بها أمس في مهرجان
"كان" السينمائي
(16 - 27 مايو / أيار) فيلمه الأحدث، "أوراق ميتة"، الذي أعاده إلى مسابقة
المهرجان بعد 12 سنة من آخر مشاركة له فيه. هذا الرجل الذي تبدو عليه
القسوة واللامبالاة من الخارج، هو في الواقع كتلة مشاعر، وقد بدا جد متأثر
وهو يقف أمام أكثر من 2000 شخص يصفقون له بلا توقف، بعدما أضحكهم ولمس
قلوبهم في الحين نفسه، طوال 81 دقيقة. الحب الذي قاله أمس جمهور "كان"
لكوريسماكي، بل الحب الذي يعبّر عنه رواد المهرجان للفنانين طوال الوقت، هو
الذي صنع عظمة "كان"، وهو الذي يجعلنا نعود اليه عاماً بعد عام.
كوريسماكي كان أمس على الشاشة والسجّادة الحمراء في آن
واحد، فهو أمضى لحظات طويلة قبل الدخول إلى صالة "لوميير" مقدّماً استعراضه
المعتاد من خفة الدم الكوريسماكية، حتى أنه أخذ الكاميرا من يد المصور وراح
يتظاهر بأنه يعمل نيابةً عنه. هذه طريقته لإدخالنا في مزاج الفيلم الذي
أبعدنا لبعض الوقت عن الجو الكئيب للعديد من أعمال المسابقة التي تعرض
المآسي. أما على الشاشة، فتجدد موعدنا مع عالمه المينيمالي، الذي كان دائم
الحضور في أفلامه السابقة، وظل وفياً لها، لوناً وأجواء وشخصيات وحركة.
سيدة تُدعى أنسا (ألما بويستي) موظفة رفوف في سوبرماركت
تُطرد من عملها فجأةً بعد "سرقتها" سندويش من القمامة. "هذا الغرض
للقمامة"، يحذّرها مديرها قبل أن يعلن لها استغناءه عن خدماتها. زميلة لها
تتضامن معها. هكذا، وبلحظة، تخسر وظيفتها وتصبح عاطلة من العمل. المشهد
يمهّد لدخولنا إلى عالم كوريسماكي الصارم ذي الخطوط الواضحة والتفاصيل
الحادة، حيث كل شي يتميز بصرامة بالغة، إلى درجة لا يمكن تصديقه أحياناً.
من السوبرماركت إلى البار
تجد السيدة عملاً آخر. هذه المرة نادلة في بار. ولكن، لا
شيء ينقذها من الملل الذي تسلل إلى كلّ زاوية من البلد. هذه فنلندا آكي
كوريسماكي، جمهورية الملل التي يُقال عنها أنها توفّر أقصى درجات السعادة
لشعبها والرفاهية لمواطنيها. ولكن لكوريسماكي رأي آخر، فهو يوجه كاميراه في
اتجاه مختلف، مصوّراً "نقيض الجمال"، كما يقول جيم جرموش، مموضعاً كاميراه
في المنطقة التي يتجاهلها آخرون. يُري عكس ما تُريه السينما السائدة.
وللمناسبة، كان جيم جارموش بين الحضور أمس. فثمة تحية من
كوريسماكي له في فيلمه، على شكل هزلي طبعاً. كل التحيات والإشارات إلى
عوالم تقفز بنا خارج عالم كوريسماكي تأتي هزلية ولا يمكن قبضها جدياً. ومع
ذلك، كان من الصعب أن يخطر في بال أحد أن يخرج مشاهدان من صالة السينما حيث
يُعرض آخر أفلام جارموش فيقول أحدهما للآخر: هذا يذكّرني بفيلم بريسون.
والآخر يرد عليه: بل يذكّرني بغودار. كان هذا أكثر مشهد أغرق الحضور في ضحك
هستيري.
في الجزء الأول من الفيلم، نتابع اليوميات المتكررة التي
تحاصر السيدة، يوميات لا يحدث فيها شيء لافت. في حين يبث الراديو على طاولة
المطبخ أخبار الغزو الروسي لأوكرانيا بصوت بليد. هذا الراديو جزء من
الديكور، لا يسترعي انتباه أحد، ولكن يستمر وجوده في عالم مواز، إلى أن
تقرر السيدة أن تقلب إلى قناة أخرى تبث الموسيقى. هذا يقول الكثير عن أسلوب
الفيلم المتردد دائماً، بين جعلنا نهرب من الواقع أو نجد أنفسنا في حضنه.
إنها معضلة المخرج ومعضلة شخصياته الأبدية.
في موازاة قصة أنسا، نتعرف إلى رجلين يعملان في ورشة،
أحدهما اسمه هولابا (جوسي فاتانين) سكير تائه وطائش، يُطرد باستمرار من
عمله بسبب إدمانه الكحول. في عتمة هلسينكي التي لا يصور منها كوريسماكي إلا
الشوارع المهجورة والبارات الحزينة والأحياء العابسة حيث تتكاثر مشاريع قيد
الإنشاء والتطوير، يلتقي الإثنان، أنسا وهولابا، بداية في حانة كريوكيه،
وتكون صالة السينما مدخلاً لعلاقة غريبة تنشأ بينهما. لا نعرف من أين
يأتيان، لا معلومات عنهما، كأنهما "بلا ماض"، كي نستعيد عنوان أحد أفلام
كوريسماكي السابقة. ومثلما لا نعرف من أين يأتيان، نجهل كذلك إلى أين قد
يذهبان معاً، فلا شيء متوقعاً عند كوريسماكي الذي يصوّر بدايات الحبّ برقة
لامتناهية، كجواب وحيد على العنف الذي تصل أصداؤه من بلدان الجوار.
الناس في فيلم كوريسماكي لا يستخدمون الهاتف المحمول،
يكتبون أرقامهم على ورقة قد تجرفها الرياح كأوراق الشجر الميتة. يسعون إلى
صناعة لحظات رومنطيقية، لكنّ الواقع يداهمهم ويعيدهم إلى حقيقتهم. هؤلاء
رؤوسهم بين الغيوم وأقدامهم على الأرض.
العاطفة التي يستخدمها كوريسماكي في تصوير أنسا وهولابا لا
مثيل لها. منذ زمن بعيد نعلم نزعته إلى الإهتمام بمصائر الفئات المهمشة
والضعيفة والهشة والخاسرين الذين يلوذون بالصمت لمداواة محنتهم وحماية
أنفسهم. ولكن هذه المرة يموضع الحكاية داخل عالم متأزم حيث الناس الذين
يعانون من وحدة قاتلة يحاولون التمسك بالحب، ليتمكنوا من مواصلة رحلة البحث
عن السعادة. علماً أن السعادة عند كوريسماكي مفهوم فضفاض، بلوغها مؤجل
دوماً. |