حكاية عمرها 26 عاما بالتمام والكمال حدثت فى مهرجان (كان)،
غالبا لا يتذكرها أحد، كانت مصر بدون أن تطلب أو حتى تدرى طرفا فيها، وكنت
شاهدا على كواليسها.
لو عدت إلى كتالوج مهرجان (كان) 1997 وهو بمثابة وثيقة
التعاقد المعتمدة من إدارة المهرجان، مع الجمهور والنقاد وصُناع الأفلام،
ستجد أن فيلم (المصير) ليوسف شاهين ليس من بين أفلام المسابقة الرسمية،
وتمت برمجته للعرض الرسمى، لكن بعيدا عن التسابق، ويومها كان تفسير الصحافة
المصرية وجزء من العربية أن مستوى الفيلم أكبر من التسابق.
وتاريخ يوسف شاهين أهم من أن يضعه فى التنافس مع أحد، وتكرر
هذا التفسير على مدى ثلاثة أسابيع متتالية، ثم انقلب الموقف 180 درجة قبل
أيام من انطلاق المهرجان، اعتذر مخرج الفيلم الصينى الذى كان مشاركا فى
التسابق على السعفة وسحب النسخة، وأيضا منع هو شخصيا من السفر إلى (كان).
كانت الحجة أنه ينتقد الوضع فى الصين، وبالتالى ألقوا فى
وجهه تلك القنبلة التى يتم تداولها بكل لغات العالم فى دول العالم الثالث
نشر (الغسيل القذر) للوطن حتى تقبله المهرجات الغربية، التى تعادى النظام
الوطنى (الشيوعى)، وعلى الفور بحثت إدارة المهرجان عن فيلم آخر بديل ووجدوا
(المصير) الذى انتقل من خارج التسابق إلى المسابقة الرسمية، بسعادة غامرة
لكل صُناع الفيلم، وأولهم يوسف شاهين.
وفى ذلك العام حصل عباس كيروستامى المخرج الإيرانى على
(سعفة) المهرجان الذهبية عن فيلمه (طعم الكرز)، وفى نفس الوقت حصد قبلة من
النجمة الفرنسية إيزابيل أدجانى، رئيسة لجنة التحكيم، تسببت فى هجوم ضارٍ
ناله فى ايران، بسبب القبلة التى لم يسع إليها بل هى التى سعت إليه، بينما
يوسف شاهين رحبت الصحافة بتواجده فى المسابقة، معتبرة أن هذا يعد نصرا،
وتجاهلوا التعبير المتداول (فوق مستوى التسابق).
ونال يوسف شاهين السعفة التذكارية فى دورة المهرجان الذهبية
رقم 50، عن مجمل أعماله، ونال أيضا فوق كل ذلك قبلة من إيزابيل ادجانى
ووقتها رحب بها- أقصد القبلة- الرأى العام. مثلما رحب بالجائزة التذكارية،
وظلت تلك المشاركة هى الأخيرة والأهم داخل المسابقة الرسمية لمهرجان (كان)،
بعدها شارك يوسف شاهين، بفيلمى (الآخر) و(القاهرة نيويورك) فى قسم (نظرة
ما)، الأول افتتح به القسم والثانى عرض فى الختام، كنوع من التكريم ليوسف
شاهين.
الحكاية السابقة ليست عشوائية، لكنها مرتبطة بهامش الحرية
فى دولة الصين الذى صادر عملا فنيا قبل نحو ربع قرن بحجة أنه يسىء إلى
الوطن، بينما وافق على عرض فيلم شباب (ربيع)، بعد اتساع الهامش، المقصود
بهذا التعبير هو أن أعمارهم فى الربيع، بينما أحزانهم سنكتشف طوال أحداث
الفيلم أن لها مذاقا ورائحة ووقع الخريف، الفيلم يتناول بالنقد ظروف العمل
القاسية فى الصين.
يتناول الشريط النظام الاقتصادى بقدر لا ينكر من الذكاء
الفنى للمخرج وانج بينج، الفيلم إطاره العام وثائقى تسجيلى، فهو يحقق فى
جريمة، يتخلل الفيلم مقاطع من الحياة داخل المصنع الذى أنشئ بالقرب من
شنغهاى واحدة من أكثر المدن الصناعية فى الصين، نحن نتناول دولة هى القوة
الاقتصادية التى يعترف بها العالم كأحد القطبين موازية مع أمريكا.
وترنو حاليا للمركز الأول، وصارت هى أيضا أحد أهم المفاتيح
للبحث عن حل للقضايا التى تؤرق العالم، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، فهى
قوة مناوئة تقف على الجانب الآخر اقتصاديا وسياسيا، من أمريكا وأوروبا
يحكمها عقل هادئ يقنن كل شىء حتى التهديد بغزو (تايوان)، ليس أبدا عشوائيا،
الجرعة محسوبة بدقة.
غزو الصين بمنتجاتها للعالم هو أحد أهم مظاهر قوة هذا
البلد، فهى تقدم إلى أوروبا وأمريكا السعر الأرخص معتمدة، فى قسط وافر، على
رخص أجرة اليد العاملة، وعلى أن نظام العمل فى الصين يسمح بأكثر من 12 ساعة
فى اليوم، بينما القانون فى العالم كله يجعل 8 ساعات كحد أقصى هو المسموح
به.
من السهل جدا أن يخرج صوت من الصين معترضا على تصدير هذا
الفيلم للخارج، ويمنع الفيلم ومخرجه من السفر مثلما نرى مثلا فى إيران التى
تطارد إلى حد المنع من السفر والزج بالسجن من يقدم بين المخرجين ما تراه
يعرض سمعتها للخطر، وفى العادة يتم تلفيق تهمة أخرى ويمنع المخرج من السفر
مثلما حدث مثلا مع جعفر بناهى ومحمد رسولوف وغيرهما اللذين يشاركان فى
المهرجانات بعيدا عن رقابة الدولة، ولكن الصين لم تفعل ذلك.
الفيلم الذى يمتد زمنه أكثر من ثلاث ساعات يحرص على أن يبدو
طبيعيا إلى درجة العشوائية فى التعبير السينمائى، يتعمد المخرج بذكاء أن
يقدم الواقعية بطبيعية وفطرية، مبتعدا بقدر المستطاع عن فرض الحالة
السينمائية من إضاءة وزاوية كاميرا وأداء، على الكادر، فهو يقنن حالة من
العشوائية حتى لا تجرح بناء الفيلم كوثيقة.
وأيضا لكى يمر من قبضة الرقابة فهو يبدو لقطة من الحياة
تمردت على (الكادر) السينمائى، امتدت كل هذا الزمن، يطرح عن طريق المصنع
حالة الشباب العاطفية والاجتماعية، كما أنه لا يغفل أبدا التفاصيل
الموسيقية والغنائية، وعلاقات الحب العابرة وأيضا الصراع.
والأماكن الضيقة عادة تؤجج الصراعات، فهى تشكل المناخ
المطلوب لاشتعال تلك النيران، كما أن تلك الأماكن غير الآمنة صحيا، التى
يقيمون فيها، تلعب دورا حيويا، فى تعميق الإحساس بالظلم، الكاميرا ظاهريا
محايدة ولا تنتقى، إلا أن الواقع الذى نقلته لنا لا ينفى عنها أبدا تعمد
الانتقاء.
الفيلم تم بناؤه من عدة مقاطع متلاحقة، كأنها أشبه بقصيدة
ذات تفعيلة واحدة وقافية واحدة، الكاميرا تلتقط الشاب من أعلى ويكتب على
الشاشة اسمه ومكان عمله ومحل إقامته، منتقلا من شخصية إلى أخرى، كأنها
حكاية لا تنتهى من الشخصيات المتعددة، لا يهم هنا التعطف بل المقصود هو
الرؤية المحايدة للشخصيات، وان تحتفظ كمتلقٍ بتلك المسافة بينك وبين
الشاشة، ثم تضيف أنت من واقع خبرتك وما تعرفه الكثير لتقدم أنت الإجابة أو
بتعبير أكثر مباشرة الإدانة لنظام العمل، الذى لم يحترم آدمية هؤلاء.
هل ما رأيناه على الشاشة من جرأة يعود أولا إلى أن هامش
الحرية ارتفع، أم ثانيا لأن ذكاء المبدع فى قدرته على تمرير أفكاره ازداد
معدله؟، أعتقد أن ثانيا هى الإجابة الصحيحة، وأولا لا تخلو أيضا من وميض
الحقيقة!!. |