سجّلت السعودية هذا العام حضوراً بارزاً، فنياً وإعلامياً،
في مهرجان
"كان" السينمائي
(16 - 27 مايو/ أيار). جناحها الضخم الكائن خلف القصر في البقعة التي تُعرف
بالقرية الدولية، أضحى مقصداً للعاملين والعاملات في السينما طوال الفترة
التي افتتح فيها أبوابه، ولم يزره فقط الجمهورالعربي،
بل جهات من مختلف البلدان، فثمة كثر يقودهم الفضول ويريدون أن يطلعوا على
تفاصيل هذا الاهتمام بالسينما الذي بدأ منذ فترة في المملكة، بقرار سياسي
ودعم من الأوساط الفنية، وباتت نتائجه ملموسة في فترة قياسية، علماً أن
الصالات السعودية تشهد إقبالاً متزايداً ونمواً قياسياً. تمثّلت المشاركة
السعودية في "كان"، بوفد كبير، ضمّ كل المهن السينمائية والاستثمارية.
الخيمة السعودية التي يرفرف عليها العلم السعودي، باتت
ملتقى للسينمائيين، وشهدت نقاشات وندوات، في ظل تشجيع وإشادة من ادارة
"كان" التي ألقت تحية على الدعم السعودي للسينما.
فيلم الافتتاح، "جانّ دو باري" للمخرجة الفرنسية مايوان،
تلّقت دعماً من مهرجان
البحر الأحمر السينمائي.
هذا وحده إنجاز يُحسب للقائمين على المشروع السينمائي السعودي. الفيلم من
بطولة جوني ديب، وقد بلغت تكلفته 20 مليون دولار. في مؤتمرها الصحافي،
سُئلت مايوان عمّا إذا اشترط السعوديون مسائل معينة لدعم الفيلم، فكان
ردها: "لا، لم يضع السعوديون عليّ أي شرط. إني فخورة جداً أن أتلقى دعماً
سعودياً. العقليات تتطور، وسأكون مسرورة جداً أن أذهب إلى السعودية لتقديم
الفيلم. الأشياء تتحرك عندهم، وهذا ليس أول فيلم فرنسي يدعمه السعوديون.
أنظروا إلى مهرجان البحر الأحمر، هناك الكثير من الأفلام التي باتت معروفة
في جميع أنحاء العالم".
محمد التركي، الرئيس التنفيذي لمؤسسة مهرجان البحر الأحمر
السينمائي، كشف في الحديث عن دعم فيلم مايوان، عن نيته مستقبلاَ دعم
الأفلام التي تُروى من منظور المرأة، "اعترافاً منّا بمكانتهن وموهبتهن".
وبهذا تحاول السعودية مجاراة التيار الحالي الذي يحاول إعطاء المرأة الحضور
الذي افتقدت له طويلاً في مجال الفنون.
دعم 170 فيلماً
منذ عام 2019، دأبت مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي
على دعم أكثر من 170 فيلماً سينمائياً، في كل المراحل التي يحتاج فيها
الفيلم إلى دعم: التصوير والإنتاج وما بعد الإنتاج (مونتاج وميكساج).
الأفلام المدعومة مصدرها العالم العربي وأفريقيا في خطة للنهوض بسينما
البلدان التي تفتقر إلى بنى تحتية محلية وصندوق دعم محلي يساعدان
السينمائيين الشباب. ولكن، لم يسبق لهذه المؤسسة ان دعمت فيلماً يأتي من
بلد مثل فرنسا، يُعتبر "قوة" سينمائية كبيرة. فرنسا التي تنتج معظم أفلام
ما يُعرف بالعالم الثالث. لذلك، يُعد تمويل "جانّ دو باري"، سابقة، بيد
انها لن تكون المبادرة اليتيمة، فهناك نية لـ"دعم صناعة السينما المبتكرة
والمواهب النسائية المميزة، أمام الكاميرا وخلفها، في جميع أنحاء العالم"،
كما جاء في بيان صحافي.
فضلاً عن "جانّ دو باري"، أربعة أفلام عربية وواحد من
السنغال، تلقّت دعماً من البحر الأحمر عُرضت في كان: الاول هو "وداعاً
جوليا" للسوداني محمد كردفاني المشارك في قسم "نظرة ما"، وهو أول فيلم
سوداني يشارك في المهرجان. يحكي الفيلم عن سيدة يقتل زوجها رجلاً من جنوب
السودان دفاعاً عنها، قبل أن تشعر الزوجة بالذنب، فتقرر توظيف زوجة المغدور
خادمة عندها. الفيلم يناقش موضوع التعايش بين السودانيين بعد الانفصال،
وفاز بآراء إيجابية خلال عرضه في "كان".
الفيلم الثاني "بنات ألفة" للتونسية كوثر بن هنية، المعروض
في المسابقة، فيلم عن التطرف الإسلامي، يمزج بين الروائي والوثائقي، ليسرد
قصة سيدة تونسية اختفت اثنتان من بناتها قبل ان يتبين أنهما انضمتا إلى
داعش. الفيلم الثالث هو "العصابات" للمغربي كمال لزرق، المشارك في "نظرة
ما"، فيلم يحملنا إلى الأحياء الصعبة في الدار البيضاء، برفقة حسن وعصام
اللذين يحاولان مقاومة ظروف الحياة الصعبة، إلى أن يموت رجل، كانا يحاولان
خطفه، فتبدأ رحلة إخفاء الجثة.
أما الفيلم الرابع فهو "كذب أبيض" للمغربية أسماء المدير،
المعروض في "نظرة ما"، ويطرح السؤال الآتي: كيف يمكن أن نعرف الماضي أو
نحاول إعادة تشكيله واستعادته مع غياب الصور؟ على غرا "بنات ألفة"، ليس من
الممكن تصنيف الفيلم في خانة النوع الروائي الوثائق.
ولعل أفضل تصنيف له هو أنه فيلم "تشكيلي"، إذ يستخدم
اللوحات والصور والنماذج الخشبية والحجرية الصغيرة والدمى والعرائس في بناء
جدلي. الفيلم الخامس "بانيل وأداما" للسنغالية راماتا تولاي الذي يحكي عن
قصة حب بين شاب وفتاة تجري فصولها في شمال السنغال، لكنّ الحب غير المشروط
الذي يجمعهما يصطدم بالأعراف الاجتماعية، فلا مكان للشغف والحب في البيئة
التي يعيشان فيها.
لا يخفي الرئيس التنفيذي لهيئة الأفلام، عبد الله آل عياف،
طموحات السعودية في مجال السينما، فهو يعترف أن هناك سعياً جدياً إلى أن
تصبح المملكة مركزاً عالمياً لإنتاج الأفلام والمواهب. ولا يساهم نمو
إيرادات المملكة من شباك التذاكر (الأسرع نمواً في الشرق الأوسط حالياً)،
الا بتعزيز قناعاته بصوابية هذا الخيار. يعتبر آل عياف أن ثمة اهتماماً
متزايداً بالحكايات المحلية التي تُروى من خلال عيون مجموعة جديدة من صانعي
الأفلام المتحمسين، وهذا ما يجعله يسعى للتعاون مع شركاء دوليين لإقامة
شراكات عالمية، وتقديم العروض للتصوير داخل المملكة.
نشاطات كثيرة مرتبطة بالنهضة السينمائية السعودية، شهدتها
الدورة الحالية من مهرجان "كان" التي تنتهي غداً، منها إعلان صندوق التنمية
الثقافية السعودية عن إنشاء صندوقين منفصلين لقطاع الأفلام تبلغ قيمتهما
الإجمالية 180 مليون دولار، بهدف تعزيز صناعة السينما المحلية وجذب نجوم
السينما العالمية إلى المملكة.
هل يمكن الحديث عن إضافة ونقلة نوعية هذا العام بالنسبة إلى
المشروع السينمائي السعودي من خلال الحضور في "كان"؟ وهل انتقلت الأشياء من
كونها مشاريع إلى كونها أعمالاً ملموسة تصل إلى الجمهور وتحقق ما يجب أن
يحققه أي منتوج ثقافي وفني؟
الوقت لا يزال مبكراً للحسم ووحده المستقبل القريب هو الذي
يوفر الجواب. لكن النية موجودة والمسؤولون على الطريق الصح للإنتقال إلى
واقع جديد يشكّل قطيعة مع الماضي، حين كان الفن السابع ضمن أحلام محصورة
في بعض الشغوفين بالسينما. |