«الشرق
الأوسط» في مهرجان فينيسيا: بولانسكي الجديد صانع كوميديا بلا ضحكات
3
أعمال تختلف في المضمون وتتفاوت في القيمة
فينيسيا: محمد
رُضا
أتاحت جائحة «كورونا» في عام 2020، إمكان القدوم إلى
الصالات في مهرجانات العالم من دون تذكرة. تكفي بطاقتك الصحافية التي منحها
المهرجان، فتدخل الصالة وتجلس حيث تشاء. إذا وجدت أنّ أحداً سبقك إلى مقعدك
المفضّل، تختار سواه. صورة جميلة وبسيطة وسهلة.
بعد «كورونا»، أراد البعض الاستفادة من الحاجة للتفرقة بين
مقاعد المشاهدين بتخصيص مقعد خالٍ بين كل اثنين، كما لو أنّ هذا كافٍ. لكن
عملية الدخول والجلوس باتت اليوم معقّدة: عليك أولاً زيارة «السيستم» الذي
يُعْلِمك بالمقاعد المُتاحة. تختار مقعداً لا ترغب فيه عادة، فالرسم
البياني للصالة يشير إلى أنّ غالبية المقاعد محجوزة. كيف، وأنت من أوائل
الداخلين؟ لا تعرف، ولا فائدة من السعي إلى المعرفة. تختار المُتاح فقط.
عليك فعل ذلك كل يوم أو يومين، وفي الصباح الباكر إذا
أصررتَ على اختيار مقعد مناسب، وليس في آخر الصالة أو في مقدّمتها أو على
الجانب البعيد يميناً أو يساراً.
هذه هي الشكوى الوحيدة التي سمعتها حتى الآن، إذ ما تبقّى
من عروض أفلام وحفلات ونظام عام في حالة جيدة.
الأفلام مثيرة للاهتمام، متنوّعة ونسبة منها جيدة، لكن
معظمها فوق خط الوسط. لا يخلو الأمر من مفاجآت.
بينوشيه مصاص دماء
بعد فيلم الافتتاح، «قائد»، الذي لم ينل إعجاباً
استثنائياً، دخل المهرجان في أجوائه الفعلية عبر الفيلم التالي، وهو «إل
كوندي» للمخرج التشيلي بابلو لاران الذي حامت أفلام عدّة له فوق شخصيات
سياسية كما في «بوست مورتم» (2010) و«نيرودا» (2016)؛ أو اجتماعية مثل
«جاكي» حول زوجة جون ف. كندي (2016)، و«سبنسر» عن الأميرة ديانا
(2021).
من خلال فيلمه الجديد بالأبيض والأسود؛ يعود أدراجه للتطرّق
إلى الفترة السياسية التي عصفت ببلاده ما بين 1973 و1990، وهي التي حكم
فيها أوغستو بينوشيه تشيلي بيد من حديد. الفترة المذكورة وردت على أكثر من
نحو في أفلام سابقة للاران مثل «توني مانيرو» و«نو». في تلك السِيَر، لم
يحاول المخرج نقل وقائع الحياة، بل بنى عليها. لم يهتم لسرد «بيوغرافي»، بل
تناول الشخصية من وجهة نظر تاريخية عامة، لتصبح محوراً لما حدث من خارجها،
إنما بسببها.
هذا ما يحدث، إذ لا نشاهد قصة بينوشيه، ولا عرضاً لمراحل
مختارة من حياته، بل نتعرّف إليه وهو يعيش في مزرعة نائية مع زوجته (غلوريا
منشماير) ومساعده فيودور (ألفريدو كاسترو) وأولاده الخمسة. هو الآن مصاص
دماء، يفكر في فعل ما يتيح موته، مقرراً عدم شرب الدم في البداية، ما يلقى
تجاوباً من أولاده كونهم يتوقون إلى وراثته. لكن بينوشيه يعدُل عن قراره
ويبدأ باصطياد ضحاياه. طريقته ليست العضّ كما «دراكولا»، بل اقتلاع القلب
من مكانه بعد حزّ الرقبة. يُعْلِمنا الفيلم بأنّ بينوشيه يضع القلوب في
الثلاجة ليعصرها مع مُساعده ويشربا الدماء.
الرمز مفهوم وواضح. بينوشيه هدر دماء شعبه وتحكم في حياته.
استخدمت أفلام رعب سابقة هذا الرمز اجتماعياً، لكن الفيلم يتجاوزها لجهة
وضوح القصد، والوجهة المرعبة المختلفة عن الرعب الذي نراه عادة في أفلام
مصاصي الدماء. قَدْر من العنف والفجاجة يؤرجح الفيلم على الحافة بين قبوله
كإدانة ورفضه كأسلوب إدانه.
حياة على عجلات
فيلم آخر عن حياة أخرى، هو «فيراري»، عن مصمم سيارات السباق
إنزو فيراري في حقبة محدّدة من حياته، تلك التي راهن فيها على تحقيق النجاح
في ميادين السباق بسيارة تحمل اسمه ومن صنعه. هذه الحبكة تُدمَج بالوضع
العائلي للشخصية، مع تأجيج مشاعر تكمن في صدر فيراري وتحول بينه وبين شعوره
بالسعادة، إلى أن يتحقق الفوز المُشتهى.
هذا الفيلم الأول للمخرج مايكل مان منذ «بلاكهات» قبل 8
سنوات. كان أكثر نشاطاً في التسعينات، من ثَم في العشرين سنة الأولى من هذا
القرن، وبنجاح مبهر، قدّم أفلاماً من بينها «حرارة» (1995) و«ذا إنسايدر»
(1999) و«علي» (2001) و«ميامي فايس»
(2006)...
عودته إلى العمل ليست ضرباً في المجهول، فهو صرف على الفيلم
نحو 3 سنوات، يدرس ويكتب ويعيد الكتابة، قبل أن ينطلق لتصويره في العام
الماضي. النتيجة فيلم جيد عن كفاح صانع سيارات فيراري، الذي انتهى بنجاح،
رغم عقبات بعضها يكمن في الحياة الزوجية (بينيلوبي كروز) التي تعلم خيانته
لها مع امرأة (شايلين وودلي) كانت أنجبت منه ولداً قبل 10 سنوات.
يؤدّي أدام ساندلر دور فيراري ويصمد حيال شخصية ليس لديها
كثير من التموّجات. بعض مَشاهد الفيلم لا تصل ناصعة وجيدة التنفيذ أسوة
بأخرى. تلك التي تدور في ميدان السباق ناجحة، لاعتمادها على توليف وقنوات
تقنية وتصوير، استُخدمت فيه كاميرات مختلفة الأحجام والأنواع والبؤر.
أشواك بولانسكي
خارج المسابقة، ثمة أفلام أنجزها مخرجون تجاوزوا الثمانين:
ليليانا كافاني، أغنيشكا هولاند، ودي ألن ورومان بولانسكي... هل هي الوقفة
الأخيرة لهؤلاء؟ لجيل؟ لسينما؟
قد يكون فيلم رومان بولانسكي الجديد «القصر»، المعروض هنا،
الوقفة الأخيرة أو لا يكون (صرّح أنه سيتقاعد وقد بلغ التسعين). إنه سبب
وجيه لتقديم فيلم رائع وقيِّم... لكن «القصر» لا يحمل أياً من هذه الأوصاف.
القصر الموصوف هو فندق سويسري كبير في منطقة جبلية بعيدة،
يستقبل منذ الصباح الزبائن الآتين لتوديع عام 1999 واستقبال عام جديد. ربما
يتذكر البعض كثرة الحديث عن نهاية العالم مع اقتراب عام 2000. «إنها ليست
نهاية العالم»، العبارة الأولى في الفيلم، يقولها مدير الفندق هانسولي
(أوليفر ماسوتشي) لموظفيه قبيل بدء وصول النزلاء. إنه الشخصية الوحيدة من
بين كل مَن سنراهم، الذي لن ينتقده المخرج. النزلاء جميعاً شخصيات غبية،
وإن لم تبدُ كذلك. وآثمة ومنفعلة أيضاً. تستخدم ثراءها ببلاهة وتشرب حتى
الثمالة، مما يدفع المُشاهد للتساؤل حول جدوى الجمع الحاشد الذي ليس من
بينهم مَن يصلح ليكون سوياً.
الجواب هو أنّ المخرج أراد ذلك لوصم هذا المجتمع. رغب في
صنع كوميديا ساخرة تتناول تصرّفات هؤلاء، وإن بدت مفتَعلة وأدّى ذلك إلى
فيلم منتفخ بما يحويه.
الكوميديا في البداية، تتحوّل تدريجياً إلى سوداء. والنوعان
يفتقران إلى ما يمكن مدحه. ليس لكون الضحكات قليلة فقط، بل لأنّ كل ما يدور
يمرّ تحت ثقل من التكلّف والرغبة في تكثيف أخطاء هؤلاء لصنع ما يمكن عدُّه
ترفيهاً. بولانسكي المهمّ، أولى مهمّة هذا الفيلم لبولانسكي الذي يريد أن
يكون خفيفاً، لكنه لا يزال ثقيلاً. رغم أعماله المهمّة السابقة، مثل
«ماكبث» و«عازف البيانو» و«الكاتب الشبح»، يُبعثر موهبته في فيلم لا يشكل
نقطة بلوغ ولا نقطة انعطاف. النقطة الأولى تنحسر والثانية تأتي في غير
مكانها وزمانها لكونه بلغ التسعين من العمر.
هذه الشخصيات المجتمعة من غير موعد تريد الاحتفاء بالعام
الجديد، لتحدث قبل ساعات من منتصف الليل مفارقات، مثل وفاة زوج بالغ الثراء
ومحاولة زوجته إخفاء ذلك، ومثل إفراغ كلب ما في معدته فوق الأسرّة بعدما
أطعمته امرأة متصابية (فاني أردان) الكافيار. هناك رجل يشتم كثيراً ويُحقّر
الآخرين طوال الوقت، وآخر يلجأ إلى أحواض الزارعة ليلبّي حاجته... هل هذا
فعلاً ما يودّ مُشاهد ينتظر عملاً لبولانسكي مشاهدته؟
هناك فيلم بعنوان «فندق» للمجهول ريتشارد كواين أنجزه عام
1967، عادي الصفات، لكنه أكثر ترفيهاً إذا ما كان الترفيه هو بيت القصيد. |