مهرجان برلين السينمائي على خطّ النار بين فلسطين وإسرائيل
هوفيك حبشيان
نحو 60 ساعة، أي ما يعادل يومين ونصف اليوم، الوقت الذي
يمضيه الصحافي أو الناقد الذي يطمح إلى متابعة نحو 30 فيلماً من الأفلام
التي اختارتها إدارة #مهرجان
برلين السينمائي الذي
يعقد دورته الرابعة والسبعين هذا العام من 15 إلى 25 شباط. أما ما يتبقّى
من وقت خلال الأيام الأحد عشر التي يستغرقها الـ"برليناله"، فحافل
بالمقابلات واللقاءات والتنقّل المستمر من مكان إلى آخر داخل مدينة ضخمة،
فقط حيز بسيط منها يعيش على إيقاع تظاهرتها الثقافية الكبيرة التي ساهمت
تاريخياً في توحيد البرلينَين. هناك أيضاً الكتابة، الهم الأعظم، وهذا يحتل
القسط الأكبر من وقتنا. عمّا نكتب، وكيف نكتب، وحتى أين نكتب (في المقهى أو
في الفندق أو في أماكن يخصصها المهرجان لهذا الغرض)، هذه بعض الهواجس التي
ليس لها حلول سحرية، خصوصاً في زمن تحولات الإعلام المستمرة وخضوعه
للابتكارات التكنولوجية.
******
هذا العام يُعقد الـ"برليناله" في جو يسوده التوتر على كلّ
الجبهات، سياسياً وإدارياً وفنياً. هناك تخبّط منذ فترة وقد ازداد في السنة
الأخيرة. ثمة احساس بأن هذا المهرجان تراجع كثيراً، لا سيما تحت إدارة
الثنائي مارييته ريسنبيك وكارلو شاتريان، اللذين اضطرا الى مواجهة وحش
الجائحة في بداية استلامهما، وما ترتّب على المهرجان من أضرار لسنتين
متتاليتين، علماً ان المهرجان، خلافاً لكانّ، فضّل ان يقيم دورة 2021
أونلاين على ان يلغيها، في حين كانت الدورة التي جاءت بعدها حضورية ولكن
ضعيفة، أما دورة العام الماضي، فشكّلت العودة الحقيقية إلى الوضع الطبيعي،
لكنها كانت واحدة من أكثر الدورات ركاكة.
فور صدور البرنامج الكامل في مؤتمر صحافي، ساد بعض التململ
بين الزملاء مصدره غياب الأسماء الكبيرة التي من المعروف انها أنهت أو على
وشك ان تنهي أعمالها الجديدة المرتقبة. فكثر من هؤلاء ما عاد "برلين" في
حساباتهم، طالما ان "كانّ" يفرش لهم السجّادة الحمراء، و"البندقية" يحملهم
على الراحات. أما مقولة ان "برلين" للأفلام و"كانّ" للنجوم والسجّادة
الحمراء، فهذه أصبحت مثيرة للسخرية، اذ ما عاد هناك في "برلين" لا أفلام
ولا نجوم. هذا كله في ظلّ غلاء غير مسبوق يضرب المدينة، مقارنةً بالسنوات
الماضية، نتيجة عوامل كثيرة منها التضخّم بسبب الحرب على أوكرانيا.
المهرجان ومن خلفه يدركون هذه الوقائع، لذلك كان قرار يقضي
بإعادة الهيكلة وتقليص عدد الأفلام التي كانت تُعرض سابقاً، ووصل في العام
2023 إلى 287، وتقرر خفضه هذا العام إلى نحو 200. التقليص شمل كلّ الأقسام
ما عدا المسابقة التي تنطوي في الدورة الحالية على 20 فيلماً، في حين تم
إلغاء فقرة خاصة بالفيلم الألماني، على ان تذوب هذه الأفلام الألمانية في
أقسام أخرى، وهذا ما فعله أيضاً مهرجان كانّ قبل سنوات يوم أطاح قسماً
مخصصاً للسينما الفرنسية، فواحدة من ميزات العالم الجديد، هي اطاحة كلّ نوع
من الاصطفافات الفنية التي تنشأ على أساس هوياتي، ولو ان المشوار لا يزال
طويلاً للقضاء على هذه الآفة كلياً. ضم الأفلام الألمانية إلى مختلف
الأقسام الأخرى يأتي أيضاً لأسباب عملية، ذلك ان كثراً لا يعذّبون أنفسهم
بمشاهدتها، ومن المرجح ان يفتح الحل الجديد مجالاً أوسع أمامها. وهذا ينسحب
أيضاً على قسم "برليناله مسلسلات".
في بيان صادر عن المهرجان، في تموز الماضي، نقرأ: "مثل
العديد من المجالات الأخرى، تتأثّر المؤسسات الثقافية والمهرجانات بزيادة
كبيرة في التكاليف، ولكن من دون ان تتغير الموازنات. أخذاً في الاعتبار،
علينا إدخال تعديلات هيكلية لإنشاء أساس مالي مستقر لتنظيم المهرجان
مستقبلاً. هذه المباردة تجلب معها الفرص لتحسين العرض والتصوّر للأفلام
المشاركة باستخدام برنامج أكثر تكثيفاً".
******
2024 تشهد أيضاً آخر دورة بإدارة الثنائي مارييته روسنبيك
وكارلو شاتريان، وتنظيمهما، منذ 2020 (العام الذي تفشّى فيه الكورونا)
اللذين قررا التنحي بعدما تعرضا لضعوط. وزيرة الثقافة أعربت عن أسفها على
خيار روسنبيك، لكنها حيّت مبادرتها في افساح المجال للأجيال الجديدة. وكانت
مساهمة روسنبيك بحسب "فرايتي" هي الاتيان برعاة كبار إلى المهرجان، من مثل
"أرماني" و"أوبر"، والأخير هو الراعي الرسمي للـ"برليناله" هذا العام. أما
مساهمة شاتريان، فيتردد في الكواليس أنه حوّل المهرجان إلى "لوكارنو ثانٍ".
وكان شاتريان أعلن في أيلول الماضي عدم رغبته في الاستمرار
في إدارة المهرجان بعد الدورة الحالية، نتيجة قرار وزارة الثقافة دمج
وظيفتي المدير الإداري والمدير الفني، والعودة إلى النموذج الذي كان
معمولاً به سابقاً. كتب شاتريان يقول: "اعتقدتُ أنه يمكن تسهيل الاستمرارية
إذا بقيتُ جزءاً من المهرجان، ولكن ضمن الهيكلية الجديدة من الواضح تماماً
ان الظروف التي تسمح لي بالاستمرار كمدير فني لم تعد قائمة. بالتالي فإن
الدورة المقبلة ستكون نهاية هذه الرحلة المجزية".
بعد هذا القرار الذي قال كثرٌ بأنه جاء نتيجة ضغوط، وقّعت
نحو 300 شخصية سينمائية، من بينها مارتن سكورسيزي وبول شرايدر، بيانا جاء
فيه: "نحن، مجموعة متنوعة من السينمائيين من جميع أنحاء العالم (…) نحتج
على السلوك الضار وغير المهني وغير الأخلاقي لوزيرة الثقافة كلوديا روث في
إجبار المدير الفنّي الموقّر كارلو شاتريان على التنحي رغم الوعود بتمديد
عقده. قد لا يكون شاتريان رجل استعراض، لكن بأسلوبه الهادئ، اختار هو
وفريقه مساراً تنظيمياً مفتوحاً ومجزياً على المستوى الفنّي، كاشفاً عن
اتجاهات جديدة في السينما العالمية، وتحدي الأفكار النمطية، وربط مختلف
فروع صناعة الأفلام. على الرغم من الظروف الصعبة الخارجة عن ارادة شاتريان
- الوباء والقيود المالية وتدهور مركز المهرجانات ساحة بوتسدامر – كانت
الدورات الماضية تحت توجيهاته حية، حافلة بالإيجابيات”.
هذا كله أصبح من الماضي القريب اليوم، ومجرد تسجيل موقف
يحفظ ماء وجه المدير الخارج، ذلك ان الأميركية تريسيا توتل، التي أدارت
سابقاً مهرجان لندن السينمائي، عُيِّنت خلفاً لشاتريان وستكون مديرة
المهرجان بدءاً من العام المقبل.
******
هذه المشاكل الإدارية ليست الوحيدة تضرب المهرجان الذي يجد
نفسه بين نيران الصراع العربي ال#إسرائيلي،
وكأن ما عاد هناك مكان آخر في العالم لحلّ قضية الشرق الأوسط إلا في ساحة
بوتسدامر حيث تجمّع عدد من الأشخاص خلال الافتتاح مساء الخميس الماضي، لدعم
الديموقراطية الألمانية المهددة والمطالبة بحقوق سائقي التاكسي العاملين في
السينما، والتنديد بالفاشية،
هذه المشاكل الإدارية ليست الوحيدة تضرب المهرجان الذي يجد
نفسه بين نيران الصراع العربي الإسرائيلي، وكأن ما عاد هناك مكان آخر في
العالم لحلّ قضية الشرق الأوسط إلا في ساحة بوتسدامر حيث تجمّع عدد من
الأشخاص خلال الافتتاح مساء الخميس الماضي، لدعم الديموقراطية الألمانية
المهددة والمطالبة بحقوق سائقي التاكسي العاملين في السينما، والتنديد
بالفاشية، وذلك في اشارة إلى الدعوة التي كانت وجهتها الإدارة إلى أعضاء
حزب "البديل من أجل ألمانيا" (يمين متطرف)، قبل ان تسحبها بعد احداث بلبلة.
أما قرار المفوض الثقافي لمدينة برلين، جو شيالو، فرض بند
عدم معاداة السامية على المؤسسات الثقافية التي تتلقى دعماً من المال
العام، فصبّ النار على الزيت. ومعاداة السامية وفق مفهوم شيالو هي "شيطنة
دولة إسرائيل والمقارنة بين النازيين والسياسة الإسرائيلية"، وذلك محل خلاف
كبير.
ما حدث ويحدث، دفع العديد من الفنّانين والفنّانات إلى
القلق على مصير حرية التعبير في ألمانيا، خصوصاً انه تم الغاء نشاطات
العديد من المناصرين للقضية ال#فلسطينية
منذ السابع من تشرين الأول الماضي. وجاء هذا أيضاً في ضوء اقفال مركز ثقافي
برليني لاستضافته يهوداً ضد الصهيونية. وأنا أنتظر دوري لاستلام البادج،
روى لي أحدهم ان ثمة يهوداً في ألمانيا مستائين من مزايدة الدولة. هل
يُعقَل ان تعلّمنا ما هي معاداة السامية، يتساءل هؤلاء؟
وعليه، أصدرت حركة “سترايك جيرماني” بياناً أدانت فيه كلّ
ما يحدث في ألمانيا من كم أفواه، لا سيما أفواه مناصري فلسطين، وجمعت أكثر
من ألف فنّان وفنّانة، من بينهم آني إيرنو وجوديث باتلر. انتشرت أيضاً دعوة
إلى مقاطعة المؤسسات الثقافية الألمانية، علماً ان البند لم يتم العمل به،
لكن المقاطعة لا تزال مستمرة، والمهرجان شهد انسحاب مخرجين من قسم "فوروم
ممتد”.
******
تعليقاً على هذه الأحداث، قال شاتريان لمجلّة "ليه
أنروكوبتيبل": "لا أريد لعب دور رجل الإطفاء، لكن يجب علينا أولاً التوضيح
أن مهرجان برلين غير معني بهذا البند، لأننا لا نتلقّى الدعم من المدينة بل
من الحكومة الفيديرالية الألمانية. وتم تعليقه لأنه سيكون مخالفاً للدستور،
ولكن من الممكن ان يتم تطبيقه مرة أخرى بمجرد تجاوز هذا العائق القانوني.
ويأتي هذا الشرط في سياق استقطاب قوي للغاية في ألمانيا، لا سيما مع إلغاء
الجائزة التي كانت من نصيب الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي في معرض
فرانكفورت للكتاب في تشرين الأول الماضي. المهرجان يبقى مكاناً للنقاش
والانفتاح. يمكننا التحاور من خلال الأفلام. لدينا عدد غير قليل من الأفلام
من العالم العربي. وأنا على تواصل مباشر مع السينمائيين في شأن هذه القضية.
في الوقت الحالي، لا يبدو لي ان هناك حركة لمقاطعة المهرجان. نحن مؤسسة
مستقلّة، ولا يتأثّر أي من قراراتي بتوجيهات الحكومة، وسيكون كلام
الفنّانين حراً. لم أتعرّض قط لضغوط حكومية، سواء في ما يتعلّق بعدد
الأفلام أو باختيارها. على سبيل المثال، فيلم أموس غيتاي إسرائيلي، ولكن
يضم ممثّلين إسرائيليين وفلسطينيين. أفكّر أيضاً في "لا أرض أخرى"، الذي
يُعرض في قسم "بانوراما"، وهو فيلم وثائقي من إنتاج مجموعة من المخرجين
الفلسطينيين والإسرائيليين".
******
المهرجان الذي لطالما تباهى بكونه سياسياً، أصبح حلبة صراع
بين مؤيدي إسرائيل ومناصري فلسطين، ولهم وجود حتى داخل المهرجان نفسه.
"ماذا عن الأفلام، فهذا مهرجان سينما في الأخير؟”، يسأل أحدهم، فيجيب آخر:
"هناك على الأقل ما يكفي من "أكشن" لمواد صحافية، في حال كان البرنامج
بالبهتان نفسه الذي عليه"أشياء صغيرة كهذه”، الفيلم الذي افتتح الدورة
الحالية مساء الخميس. |