في رابع تعاون سينمائي بين السويديين المخرج بيتر شويلت والروائية
كريستينا هيرستروم، يأتي فيلم "أقوى
بألف مرّة" ("عروض السينما العالمية") مُحَمّلاً برسالة إيجابية
حول الاعتداد بالنفس، وقوّة الشخصية، والإيجابية الإجتماعية، واكتساب
الشجاعة، وتكريس روح المبادرة. يُخاطب الفيلم هذا جيلاً فتيّاً، ويرمي شرره
ضد الفردانية والانتكاس الشخصي. إنه دعوة ذكية للجماعية، وإعلاء شأنها في
مواجهة المغالاة والكذب. وجد الثنائي شويلت ـ هيرستروم في المدرسة مكاناً
مثالياً لحرب ضروس تجري بين فتياتها الطالبات والفتية، تُستخدم فيها
الكلمات والمنابزات اللفظية، التي تعكس روحاً متمرِّدة ومتفجِّرة، تتسابق
على تأكيد ذاتها بالوسائل كلّها، بدءاً بالطلّة الغريبة، وانتهاءً بالإشارة
الجنسية.
جمع الثنائي شويلت ـ هيرستروم أبطالهما في جنّة تعليمية، فيها
مستلزمات التلقين والخبرة كلّها. فهُم عماد أمّتهم، والجيل القيادي
للمستقبل. تبدو الأوصاف هذه، للوهلة الأولى، خارج سياقها الدرامي. لكن
الحكاية المتباسطة، التي تسردها الشخصية الرئيسية سينيه (جوديت ويغير)،
تكشف عن عزوم تسعى للإمساك بشخصياتها المتشظّية ضمن مراهقة متبطّرة
ومتكلّفة، تبدو بلا أمل حقيقي، أو دوافع كافية. يفتح شويلت ستارة سوداء على
المشهد الأول، ليقود مُشاهده في لعبة ممسرحة، بدءاً من ساحة المدرسة حيث
نتعرّف على الأبطال المراهقين، ومن بينهم تطلّ سينيه، التي تُبهرنا بلمحة
متفلسفة عن "الطرق التي تقود إلى أخرى، وتلتقي كلّها في النهاية". إنها
العصب اللازم الذي يمدّ حكاية المدرسة بحيوية أخّاذة، ومثلها الوعي المدروس
الذي يحتفي بقِيَم كبيرة المعاني، كالتربية والمعرفة والقناعة والفضول
وغيرها. الطلبة في فيلم شويلت (مواليد العام 1951. عمل مُساعداً لإنغمار
برغمان في "فاني وألكساندر"، 1982)، أرواح حداثية، تتحدّث عن الـ"آي.
بود."، وتتشاتم باللمحات الجنسية. تتماحك بالحقّ، وتتشاكس بشأن الأولويات.
إنها حرب جنسية بين طرفين، نكتشف أنها في بلد كالسويد لا تزال ضمن عقدة
أزلية. مَنْ له ريادة القيادة: الذكر أم الأنثى؟ السؤال ـ المعضلة لا ينفجر
على الشاشة الكبيرة، إلاّ بعد مرور نصف ساعة على بداية الفيلم، وتحديداً مع
قدوم الطالبة الجديدة سوكا (جوليا سبور)، ذات الشخصية الكاسحة بقوّتها
وحضورها الطاغي.
يختلّ التطامن المدرسيّ على يد الوافدة، لأنها تمتلك خبرة خاصة،
تراكمت بسبب سفرها مع والدها إلى أصقاع، غالبيتها حارّة وإستوائية، ككوبا
وتونس وكينيا، في مقابل الطقس الجليدي الطويل الأمد، الذي يُحيط بكل شيء،
ويُحيله إلى كَمّ من الكآبة. سوكا المرحة نقيض كُلّي للبطلة سينيه. بل هي
المعادل الصعب للفتاة المستسأدة، المسماة ميمي (أداء لامع لهابي جانكل).
تشرع الأولى بتدمير مُقنَّن لحلقة الفتيات المنشغلات بالأمور التافهة. يبدو
الأمر كأنه تخطيط شخصي لها. لكن الاهتمام الذي يُبديه مُدرِّس القسم أُولّي
(جاكوب آركسون) يُضفي شكوكاً وغموضاً، لن تتكشّف مؤامرته إلاّ في لحظة
الصدام بينهما داخل القسم الدراسي، عندما كلّفها باختراق عناد زميلاتها
وتطويعهنّ.
تتحرّك كاميرا رولف ليندستورم بخفّة مع الفتية. تجول في كل مكان داخل
البناء ولا تغادره. كأنه رحم حاضن لإرادات تنمو بمخطَّط مسبق، يكون على
سوكا أن تُشتِّت انسابيته، وتشبك خيوطه. هكذا، نتابع الإنتفاضة الكبيرة
للفتيات في مواجهة الأسياد المسيطيرين على القسم، بتواطؤ من المُدَرِّس
الوسيم. التهكم في فيلم الثنائي شويلت ـ هيرستروم يُعزِّز إشاراته السياسية
والاجتماعية بشأن المساواة والتعاضد. يستلهم، إلى حدّ ما، ثورة الطلبة، في
الفيلم الأثير للبريطاني ليندسي أندرسن "إذا" (1968)، لكن من دون أسلحة
نارية يتزنَّر بها بطله مايك تريفس (مالكوم ماك دويل). وبدلاً من ذلك، نرى
تنافساً رياضياً وشجارات حول الأماكن، وحقّ الكلام، وحفظ المراتب، وانتزاع
الاهتمام، ومنع الإهانة. نسمع شتائم ضد الـ"نسوية"، وأخرى ضد "البطركية
الذكورية"، ودعوات لأجل الدمقرطة، وتعادل الالتزام بالآداب العامة بين
الذكور والإناث. تنتهي الفوضى المتأنّقة هذه، بمشاهد يرقص فيها الجميع في
وئام خالص، قبل أن تنكشف حقيقة سوكا، التي تُقرِّر ترك المدرسة، بسبب فضيحة
ورّطتها مع المُدرِّس، الأمر الذي دفع سينيه إلى الإنتفاض، وشتم الجميع
بتهمة المراءات والتدليس، التي دنّست كياناتهم. تُعلن المراهقة نهاية الحرب
المفتعلة، وتُطلق الحِكمة الختامية: "لم أتمكّن من رؤية ما يجري حولي. كنتُ
مُتنمِّرة من نفسي، لأني جبانة. لكني كنت أكثرهم شجاعة. ظننتُ أني هشّة.
قطّة خائفة. لكني لم أكن كذلك. تيقّنت الآن أني أقوى بألف مرّة".
من داخل المهرجان في
13/10/2011 |