شكلٌ من أشكال المتعة والبهجة مُشاهدة "دجاج
بالبرقوق" (مسابقة الأفلام الروائية الطويلة). هناك شيء طفولي
فيه، من دون أن يكون طفولياً. أسلوب مارجان ساترابي وفنسان بارونو، المنطوي
على صورة منقّحة، ألوانها مائلة إلى البنّي والزيتي والأحمر والأخضر، وعلى
تعليق صوتي مرافق نبرته ساخرة، لا بدّ من أن يُذكّر بـ"أميلي بولان" لجان
بيار جونيه. لكن، إذا كان للفيلمين طموحات متقاربة، فالقاسم المشترك بينهما
يقف عند هذا الحدّ.
تجري الحكاية في العام 1958: ناصر علي خان (ماتيو أمالريك في أداء
ممتاز)، رجل على عتبة الحياة، بعد فقدانه كل رغبة في العيش. سبب ذلك: آلة
الكمان العزيزة على قلبه تحطّمت. تقترن هذه المصيبة بذكرى الحبيبة التي
أُغرم بها ذات يوم، وها هو يلتقيها مُجدّداً، لكنها تفشل في التعرّف إليه.
في ظلّ هذا الوضع الميؤوس منه، الذي يمنعه من استعادة مشاعر وحواس فَقَدها
نهائياً، لا يفعل ناصر شيئاً، باستثناء انتظاره الموت، وحيداً في فراشه،
مُستعداً لزيارة ملاك الموت عزرائيل له. ذكريات الماضي تطفو على سطح
يومياته المتكرّرة. العزلة. الأولاد. المستقبل. الحبّ. هذا كله يشكل
مقوّمات الفيلم الذي لا يبحث عن السهولة، على الرغم من كل ما يُمكن أن
يُحمَّل من نقد. ما يمرّ أمام عيون المشاهدين، عبارة عن شريط ذكريات حياة
مُهداة إلى الموسيقى، يستغرق نحو ساعة ونصف الساعة من الزمن.
بعد "برسيبوليس" (2007)، هذا ثاني فيلم تقتبسه ساترابي من أصل أدبي
خاص بها. الأصل الأدبي هنا من نوع الـ"كوميكس" (حكاية منقولة بالرسوم
والحوارات). لكن، خلافاً للفيلم الذي أطلقها، لا يعتمد فيلمها الجديد هذا
على التحريك والرسوم، بل على ممثلين من لحم ودم. ولعل أغرب ما في الأمر، أن
"بيرسيبوليس" فيلم تحريك مصنوع بروحية فيلم تقليدي مع أشخاص حقيقيين، في
حين أن العمل الجديد هذا فيلم تقليدي بروحية التحريك. أمرٌ آخر: هذه المرة،
العنصر الإيراني شأنٌ ثانوي، لا تستطيع ساترابي الرهان عليه لحصد التعاطف.
كل شيء مرتبط بتحطّم آلة الكمان، الذي ترك ناصر يتيماً، غير قادر على
متابعة حياة طبيعية من دون حبيبته. "دجاج بالبرقوق" أنشودة للحياة والجمال.
فيها مزيجٌ من الـ"جانرات" السينمائية: الكوميديا الخفيفة الظلّ تتعايش
ولحظات على قدر معيّن من الحدّية. أما الميلودراما، كمثل لحظة اللقاء بين
ناصر وحبيبته وخلفهما الغروب، فتُضاعف قيمتها في لحظة اللقاء وفانتازيا
تطلّ برأسها لدى وصول ملاك الموت.
إذا لم يحكِ الفيلم مباشرة عن إيران، ففي المقابل تنبعث منه روح
"إيرانية" في بعض أطرافه. منذ عُرض "بيرسيبوليس" في مهرجان "كانّ"، مورست
ضغوط كثيرة على ساترابي، وصولاً إلى اعتبارها شخصية "غير مرغوبة فيها" في
إيران، حيث عُرض فيلمها مبتوراً ممزّقاً. جهات إيرانية عدّة لا تزال تحاول
التشهير بها، مُعتبرة إياها مناهضة للقِيَم التي قامت عليها الدولة
الإيرانية. لم تكن ساترابي مرتاحة إلى هذه الانتقادات اللاذعة، لا سيما
أنها حاربت الكليشيهات المفروضة على الإيرانيين في الغرب.
خلال الثورة الاسلامية، كانت ساترابي في الثامنة من عمرها. صغر سنّها
لم يمنعها يوماً من التفكير في المستقبل. كانت تحلم دائماً بأنها ستنقذ
العالم من آلامه وأوجاعه وخطاياه. أسرف والداها المنفتحان والمثقفان في
دلالها. كانت على علاقة وثيقة بجدّتها. في تلك الأعوام، حرصت على تتبّع
التفاصيل كلّها التي ساهمت في اندلاع الثورة. انقلابٌ أسقط بدوره نظام
الشاه. وعندما تأسذست الجمهورية الإسلامية، أصبح مفوّضو الثورة يتحكّمون
بنمط حياة الإيرانيين، وبأزيائهم. فتعيّن على مارجان وضع الحجاب. قُدِّر
لها لاحقاً ألاّ تلقى المصير الذي لاقته الفتيات أترابها، لأنها "أميرة"
بكلّ ما للكلمة من معنى. هذا نبل له عليها فضل كبير. ترعرعت في كنف عائلة
تؤمن بالأفكار التقدمية. أمضى أصدقاء عديدون لها وأفراد من عائلتها أعواماً
عدّة في السجن، لأنهم ناضلوا من أجل الإيديولوجيا الشيوعية. عوضاً عن أن
يُقدِّم لها والدها الأساطير كي تقرأها، كان يهديها القصص المصوَّرة التي
تتمحور مواضيعها حول الشيوعية. أما قرار إبعادها عن إيران، فناتجٌ من خوف
والديها من أن تخضع ابنتهما للظلم الذي يمارسه النظام الإسلامي على الشعب
الإيراني، والذي كان شديداً وقاسياً وغير رحوم في تلك الحقبة الزمنية.
من داخل المهرجان في
13/10/2011 |