لا يُمكن للسينما أن تواكب الراهن لحظة حدوثه. فالراهن أسرع منها،
خصوصاً إذا ارتبط بحراك شعبي ساع للتغيير، في المجتمع والسياسة والاقتصاد
والعلاقات الإنسانية. لهذا، وجد كثيرون أن إنتاج أفلام سينمائية متعلّقة
بالحراك الشعبي السلمي والعفوي في تونس ومصر لا يزال بطيئاً وعادياً، أو
متسرّعاً في رسمه ملامح الآنيّ. ذهب هؤلاء إلى المقارنة بينها وبين ضعف
غالبية المعالجات الدرامية في أفلام أميركية مُنتجة مؤخّراً، تناولت الحرب
الأميركية على العراق وفيه، لأنها (أي الأفلام) لم تستطع اللحاق بالحجم
الكبير للمآسي الإنسانية والمآزق الأخلاقية التي عانى تداعياتها المختلفة
الجنودُ وأهاليهم والسلطة وقياديوها. لعبة المقارنة جميلة، لأنها تُقدّم
اختزالاً لواقع الحال: فكثرة الأفلام الأميركية الخاصّة بالحرب العراقية
وسرعة إنجازها، دفعتا نقّاداً ومحلّلين إلى استعادة ما حصل في سبعينيات
القرن الفائت، عندما انتظر سينمائيون عديدون وقتاً طويلاً قبل مقاربتهم
الحرب الأميركية في فيتنام، خصوصاً أن بعض السينمائيين هؤلاء خاض الحرب
بنفسه، وعاش أهوالها ومتاهاتها القاسية.
ما حصل في تونس ومصر، وما يحصل لغاية الآن في ليبيا وسوريا واليمن، لا
يزال ساخناً. ومع هذا، بدت الصورة البصرية ضرورة فنية وثقافية، وحاجة
أخلاقية أيضاً، لأرشفة اللحظة وتوثيق مصداقيتها، ولجعل الصُوَر هذه ركيزة
ما لانبثاق فجر جديد من صناعة السينما لاحقاً. فعلى الرغم من عجز الإنتاج
الآنيّ عن تقديم الأفضل والأجمل والأهدأ سينمائياً، بدت الصُوَر هذه أداة
إضافية لدعم الحراك الشعبي السلمي، ولحماية إنجازاته من الاندثار أو
التزوير. أي أن الحراك الشعبي محتاجٌ إلى مواكبة يومية تنقل، بالصوت
والصورة، المسار العفوي الذي أفضى إلى إسقاط الرئيسين التونسي زين العابدين
بن علي والمصري حسني مبارك. فيوميات الحراك مُطالبة بحماية إنجازاتها، في
ظلّ التطوّر الهائل في صناعة التقنيات البصرية الحديثة.
لا يُمكن اعتبار هذا كلّه تناقضاً: فالصورة العفوية تلازم الحراك
العفوي، وتلتقط نبضه، وتؤرشف غليانه وانفعاله ومآلاته. لكن الصورة
الإبداعية تأتي لاحقاً، لأنها محتاجة إلى مسافة للهدوء والمواكبة والاشتغال
الجدّي على العمق الإبداعي في قراءة، أو إعادة قراءة الحدث وما نتج عنه من
آثار. في الشقّ الأول، قدّم تونسيون ومصريون وسوريون صُوَراً مختلفة
الأشكال والهواجس والأساليب عمّا يعتمل داخل مجتمعاتهم من حراك ميدانيّ. في
الشقّ الثاني، لا يزال الوقت باكراً. فالشقّ الأول مقدّمة ضرورية للشقّ
الثاني. أو ربما تقديم بصري، حقّقه شبابٌ متحمّسون وبارعون في استخدام
التقنيات. هذا أفضى، مصرياً، إلى مشروعين اثنين مُشاركين في الدورة الخامسة
لـ"مهرجان أبو ظبي السينمائي": "تحرير
2011: الطيّب والشرس والسياسيّ" لتامر عزّت وآيتن أمين وعمرو
سلامة (مسابقة الأفلام الوثائقية)، و"18
يوم" (السينما العالمية) لعشرة مخرجين مصريين منتمين إلى جيل
الثمانينيات والتسعينيات، كما إلى الجيل الشبابي الراهن، الذي أعلن عن نفسه
سينمائياً مختلفاً في الأعوام القليلة الفائتة. الفيلم الوثائقي الأول
عبارة عن ثلاثة أقسام متتالية، شكّلت فصولاً بصرية توثيقية لواقع الحال
المصري أثناء الحراك في ميدان التحرير في قلب القاهرة ومحيطه، وما سبق
الحراك أيضاً، بحثاً في المسار الذي جعل رئيساً لمصر ديكتاتوراً ضد شعبها.
"18 يوم" مختلف قليلاً: اختيار النسق الروائي القصير لا يُلغي أهمية الجانب
الوثائقي في المضامين العامّة لها. أي أن الوثائقي هنا حاضرٌ على مستوى
الحكايات، المستلّة كلّها من وقائع العيش اليومي في المواجهة السلمية
للسلطة ورجالها. أي أن تناغماً خفياً بين الوثائقي والروائي جعل الأفلام
هذه، المجموعة كلّها في إطار فيلم واحد بعنوان "18 يوم" (لكل فيلم قصير
عنوان خاص به)، فصولاً متتالية تناولت أحداثاً وحالات وقصصاً، بدأت بالحبّ
بين شابين ولم تنته عند الانتصار الأول للمتظاهرين ضد الفساد والقمع
والشرّ.
مضى وقتٌ قصيرٌ جداً على تنحي الرئيس حسني مبارك في الثاني عشر من
شباط/فبراير 2011، فإذا بسينمائيين مصريين (شارك بعضهم شباب ميدان التحرير
ثورته أو تمرّده أو انتفاضته) يلتقون معاً على تحقيق مشروع بصري طموح،
تمثّل بإخراج عشرة أفلام قصيرة، تناولت أحوالاً عامّة من وجهات نظر خاصّة.
تماماً كما حصل قبل نحو عشرة أعوام: فبعد مرور عام واحد على جريمة الحادي
عشر من أيلول/سبتمبر 2001، المتمثّلة بالاعتداء الإجرامي على برجي "المركز
العالمي للتجارة" ومبنى "بنتاغون" في الولايات المتحدة الأميركية، أقدم
منتجون فرنسيون على تمويل مشروع سينمائي قضى بتكليف عشرة مخرجين من مختلف
أنحاء العالم (كالأميركي شون بن والياباني شوهي إيمامورا والإنكليزي كن
لوتش والبوسني دانيس تانوفيك والمصري يوسف شاهين وغيرهم) إخراج عشرة أفلام
قصيرة، مدّة كل واحد منها إحدى عشرة دقيقة وتسع ثوان ولقطة، نسبة إلى تاريخ
الاعتداء هذا. "18 يوم" عنوان لافت للانتباه: إنها الفترة الزمنية التي
تطلّبها تنحي حسني مبارك عن الحكم، منذ اللحظة الأولى لبداية الحراك الشعبي
السلمي العفوي في يوم الاحتفال بعيد الشرطة (25 كانون الثاني/يناير 2011).
لكن المشروع المصري تحرّر من أي قيد أو التزام، باستثناء إلزامية المضمون
العام، المتمثّل بتناول أحوال مصر في الفترة هذه. بمعنى آخر، فإن غياب
قواعد ثابتة لتحقيق المشروع سمح للمخرجين العشرة بالتحرّك السينمائي وفقاً
للمزاج الشخصيّ والرؤية الثقافية والحسّ الإنساني. هذا واضحٌ أيضاً في
الإنتاج الفرنسي لأفلام الحادي عشر من أيلول/سبتمبر أيضاً. لكن فرض مدّة
واحدة محدّدة بوقت معيّن على "أحد عشر" مخرجاً فقط، جعل التنافس أقوى،
والمقارنة أجمل، وتحدّي الذات مناسبة لابتكار الجديد. في مصر، لم يشأ
المخرجون العشرة تحديدات مسبقة، مكتفين بأولوية السينما في مقاربة الحدث
الاستثنائي بالنسبة إليهم.
الأفلام العشرة هي، بحسب تسلسل عرضها: "احتباس" لشريف عرفة، "خلقة
ربّنا" لكاملة أبو ذكري، "1919" لمروان حامد، "إن جالك الطوفان" لمحمد علي،
"حظر تجوّل" لشريف البنداري، "كعك الثورة" لخالد مرعي، "تحرير 2 ـ 2" لمريم
أبو عوف، "شبّاك" لأحمد عبدالله، "داخلي/ خارجي" ليُسري نصرالله و"أشرف
سبيرتو" لأحمد علي. التنويع الحاصل في اختيار مخرجين ذوي هواجس وأساليب
مختلفة، انعكس على المضامين الدرامية للأفلام أيضاً: من داخل مشفى للأمراض
العقلية (احتباس) إلى داخل دكان حلاقة (أشرف سبيرتو)، تنوّعت المواضيع
الخاصّة والذاتية والفردية، المنفتحة على الحدث الواحد نفسه. الفتاة التي
صبغت شعرها بلون أشقر (خلقة ربّنا) تكاد لا تختلف عن الزوجة المقمية في
منزلها خوفاً، والساعية لفهم الحدث ميدانياً أيضاً (داخلي/ خارجي). في حين
أن الفرد المنعزل عن الحدث، أو الرافض تصديق إمكانية التحرّر من سطوة القمع
البوليسي، شكّل مادة درامية لمعالجة العجز الإنساني عن البقاء خارج الحدث،
أو لفهم التداخل المعقّد بين الداخل والخارج أيضاً: هناك الجدّ وحفيده في
"حظر تجوّل"، اللذين تاها وسط مدينة منغلقة على نفسها، في ليل مليء بجنود
وسدود وتوهان. هناك الخيّاط القابع في دكانه بعيداً عن العالم الخارجي (كعك
الثورة)، الذي وجد نفسه متورّطاً بالحدث، على الرغم من إغلاق باب الدكان
عليه، والبقاء فيه ثمانية عشر يوماً. هناك الحلاّق أشرف سبيرتو، العاجز عن
تأمين حدّ أدنى من حياة لائقة به وبامرأته، جرّاء الفقر والخوف، بات أحد
أبرز داعمي الثوّار، بتحوّله إلى "طبيب" يُداوي جراح المُصابين في دكّانه
الصغير.
لم يكن اختيار مروان حامد "1919" عنواناً لفيلمه ورقماً لمعتقل في
قبضة رجال أمن قساة، عبثاً أو صدفة. ذلك أنه يُحيل سريعاً إلى ثورة العام
1919 المصرية، التي شكّلت أحد أبرز المنعطفات التاريخية في السيرة الحديثة
لمصر. بينما اختيار أحمد عبدالله "شبّاك" عنواناً لعمله هذا، بدا احتيالاً
بصرياً موفّقاً: من جهة أولى، إنه النافذة العادية الموجودة في غرفة شاب
مقيم في ما يُشبه العزلة. من جهة ثانية، إنه الإطلالة الوحيدة له على
العالم الخارجي هذا، إما بمراقبة مجريات الأمور في الشارع، وإما بالتلصّص
الجميل على ابنة الجيران أثناء تحضيراتها اليومية للنزول إلى الشارع نفسه.
من جهة ثالثة، إنه انفتاح الأفق على الجديد والمختلف أيضاً. في حين أن "البلطجية"
الذين أساءوا إلى الناس ضرباً وإهانة واعتداءً، تحوّلوا إلى ركيزة لفيلم
مريم أبو عوف، في محاولة درامية لإخضاع البلطجيّ لاختبار إنسانيّ.
بين "تحرير 2011: الطيّب والشرس والسياسيّ" و"18 يوم"، أعلن سينمائيون
مصريون موقفاً إنسانياً وأخلاقياً إزاء الغليان الشعبي الحاصل على مدى
ثمانية عشر يوماً "هزّت العالم"، العربي على الأقلّ. فالصورة أداة تواصل،
والعلاقة القائمة بين السينمائيين والناس مترجمة إلى إنجاز فني قدّم لحظات
مفعمة بالقهر والأمل معاً. عملان بصريان فتحا الباب واسعاً أمام إنتاجات
بصرية وسينمائية مصرية مختلفة، يُفترض بها أن تُقارب الحدث بعين ثاقبة
وناقدة، أو بأسلوب هادئ يتيح فهم الحدث هذا بروية وعمق.
من داخل المهرجان في
17/10/2011 |