|
لا يستقيم الحديث عن "دموع
الرمال" (آفاق جديدة) للإسباني بيدرو بيريز روزادو من دون ربطه
بأجواء مُنجَز زميله الموريتاني المميّز عبد الرحمن سيساكو "بانتظار
السعادة" (2002)، من حيث جغرافيتهما الواحدة التضاريس، والخالية تقريباً من
المعالم. في الفيلم الأخير، حاول صاحب "الحياة على الأرض" (1998) و"باماكو"
(2006) عقلنة الحاجة إلى التغيير، عبر ثلّة من الشخصيات المنتظرة هجرتها
الأوروبية في ميناء نواذيبو الجنوبي، فتُفرض عليها تقاطعات جماعية كشفت
محناً شخصية منكسرة، وأسيرة مكان ضيق وساكن كانعكاس لبيئة جافة. بينما رسم
المخرج الإسباني روزادو حالة اجتماعية ذات ثبات مسيّس، مال فيه إلى
الانتصار لـ"قول رسمي"، يغمز من طرف أهمية العودة إلى الجذور والنضال
بالسبل المُثلى. بمعنى آخر، فإن عودة البطلة الشابة فاطمة (نظيرة محمد) إلى
مخيّم يُسمّى بـ"ولاية السمارة" التابعة لـ"ولاية تندوف" الجزائرية، حيث
يتمركز أكبر قطاع من الصحراويين الهاربين من الحرب مع المغرب، بعد أعوام من
هجرة خيارية رتّبتها لها والدتها قبل رحيلها، العودة هذه عنوانٌ مبطّن
لقانون سياسي يُحتّم على المهاجر العودة إلى صُلبه.
في المشاهد الأولى، تظهر فتاة خارجة عن السياق الاجتماعي لأهل صحراء
لهم تقاليد مُحكمة، وأعرافاً ضاربة القدم، تكون ضمنها مثل ابنة ضالة
بملابسها الأوروبية، ولوعتها على الحبيب الأسباني فنسنت، الذي لا يردّ على
رسائلها الهاتفية من دون تبرير. عودة نظيرة كانت حُكماً بغياب سبب غربتها:
والدتها. عند قبرها الرملي، تخاطبها على نحو اتهامي: "لقد نظّمتي حياتي.
اخترتي لي أسرة إسبانية. اليوم، أنا يتيمة". هناك أمر غير مفهوم في النص:
هل تورّطت الشابة بعودتها، أم أن قوّة عائلية خانتها كي تعود إلى أرض
الرمل؟ تصرخ فاطمة في وجه شقيقها خطري: "أنا هنا لأيام قليلة فقط". بيد أن
استمرارية بقائها لا يُفسَّر بأنه قائم على قناعة. سينتظر المُشاهدون حتى
اللقطة الأخيرة، عندما تسألها شقيقتها المعوّقة حياة، بعد أن رفضها الردّ
على المكالمة المفاجئة للحبيب الإسباني: "ماذا قرَّرت؟"، فتجيب من دون
تردّد: "لا أدري". ويُختم العمل بمشهد عام لصحراء فارغة إلاّ من الشخصيات
الشابة الثلاث وهي تلتقط صورة بهاتف جوّال. مردّ الالتباس هذا، أن معالجة
شخصية فاطمة قائم، في المقام الأول، كتورية لإنسان مُكافح اسمه الصحراوي،
لن يكتمل مصيره إلاّ برمل هذه البيداء.
إذاً، ما معنى عصرية ملابس فاطمة وسلوكياتها وثقافتها، في محيط قريب
من البداوة وأبعد من التحضّر؟ هل قبول الآخرين بها ناتج بسبب آصرة العائلة،
أم باعتبارها امتداداً لفكرة عدم موت الصحراوي، الذي يُناضل من أجل دولة
يبدو أن من المستحيل تحقّقها؟
صوَّر المخرج روزادو محيط المخيم بشكل مجتمع متكامل متجذّر، فيه زيجات
وطلاقات ونميمة وحسد وتعقيم أطفال ضد أمراض متوطّنة وعشق وهجران. أي أن لا
حاجة للذهاب إلى الخارج الأوروبي، كما يطمح الشاب سعيد، الذي يعرض على
فاطمة الزواج به مقابل ثلاجة، كي تُساعده على تحقيق حلمه بالهجرة إلى
إسبانيا، تماماً كما هو بطل سيساكو عبد الله الساعي للمغادرة من دون أمل.
بيئة الثنائي سيساكو - روزادو لا تتشابه في الطقس، بل في فقدان الإحساس
بالتثوير، أو على الأقلّ الحركية. وبينما نجحت رؤية سيساكو في إقناع
مشاهدها ان النيات السياسية الفاسدة لُبّ القضية، وتتمثّل في قسوة
الانتظار، فإن نظرة المخرج الإسباني شابها تسطيح إيديولوجي مريع، لأنها
تفترض أن الحياة القائمة هي الممكن المتاح. ثم يُكتشف أن لقب "المنسيون" هو
الحاسم في رسم صورة العذابات اليومية لهذه المجموعة البشرية، في مكان مؤقّت
هو مخيم لاجئين، تصرّ الإرادة السياسية في الطرفين الجزائري والصحراوي على
تسميته بـ"دموع الرمال"، كتزكية لوطن حُلمي مُغيّب.
يبدو أن حماسة هذا المخرج الشاب أوقعته في ورطة نقص البصيرة في معالجة
أحوال أبطاله. فكلّ شيء مُتعجّل: فاطمة تنسى عالمها الأوروبي، وحياة
المعوَّقة تقود سيارة الـ"نيسان"، وزوجة الشقيق الأكبر تلد. وبسبب هذا
الحدث، يحصل الأخير على ما يُنهي أزمته مع شقيقته: الثلاجة. ليس هذا فقط،
بل أن الفتى سعيد يقتحم غرفة العروسة الشابة قائلاً لها ببرود: "الذي
ستتزوجينه لا يليق بك"، لتهرب الفتاة مذعورة. يحوّل روزادو بطلته فاطمة إلى
تاجرة وامرأة أعمال ناجحة بإرادتها، وفي غياب العين الحاسدة.
احتاج "دموع الرمال" قبل صنعه إلى مشاورات أعمق لفهم الخطاب السياسي
لقضية الصحراويين. فهي ليست قضية نضال تحرّري، بل إرادة بشر عليهم النضال
من أجل كرامة مهدورة. هذه الفكرة منسية في حسابات هذا العمل الخالي من
المفاجأة.
من داخل المهرجان في
19/10/2011 |
