|
"بينا"
(السينما العالمية)، نصّ نورانيّ للألماني فيم فيندرز، مخرج "حالة الأشياء"
(1982) و"باريس تكساس" (1984) و"أجنحة الرغبة" (1986) و"بوينا فيستا سوشل
كلوب" (1998). خلاصة بصرية لا مثيل في ابتكارها وتلوّنها التشكيلي
والأدائي. قمة فنية قلبت مفهوم المُشاهدة السينمائية بنظام الأبعاد
الثلاثة. فقد تمثّل رهان فيندرز في خوض تجربة التقنية هذه، وجعلها بديلاً
عن الحكايات التجارية البحتة، ناقلاً إياها إلى قلب الفنون المبجّلة
بنخبويتها. النتيجة كامنةٌ في أن الموهبة السينمائية تقاطعت بحصافة مع أم
الفنون الاستعراضية: الرقص التعبيري.
عمل فيندرز هذا خلاصة تعاونه ومصمِّمة الرقص الطليعية بينا بوَش.
تعاون قائم على أفلمة أدائها ومسارات حياتها، باعتبارها أحد أعلام الهبّة
الثقافية في ألمانيا ما بعد الحقبة النازية. لكنها رحلت فجأة، فإذا بفيم
فيندرز أكثر الناس حرجاً إزاء الرحيل هذا. قرّر سريعاً تغيير كل شيء في
برنامج فيلمه، الذي قطع أشواطاً كبيرة من التصوير، وتنحيته جانباً، لتحلّ
محله بصيرة جديدة، لامعة وأخّاذة في نتيجتها. ببساطة، تمّ إعادة تصوير
رقصاتها الشهيرة وسط مشهديات بالغة الفخامة، مع شهادات راقصيها فيها، ونظام
عملها، وصيغ تدريباتها، وفلسفتها للحياة والعمل الإبداعي. أطلق فيندرز في
عمله نوراً بهياً من "رقص السينما"، إن صحّ التعبير. بمعنى أن الهدف لم يكن
وضع كاميرا وتصوير راقصين. هذا لا يحترم مُنجزاً غنياً ببصرياته، كما تركته
بوَش بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاماً من الاشتغال العنيد، بل عليه تكريس
الإقناع بأن الجالسين في ظلمة القاعة تهتزّ أعماقهم برقص داخلي خفي رغماً
عنهم.
السؤال المطروح هنا، هو التالي: كيف يُمكن فهم مقطوعة "كافيه مولّر"
من دون الوقوع بالتسطيح الصُوَري؟ هذه الرقصة التي تتم بين (ومع) كراس
وطاولات، تُغري الهواة بمسرحتها سينمائياً (كاميرا ثابتة). لكن فيندرز ذهب
نحو التحدّي المطلق ليضمن حركة كاميرا راقصة، تجول بين الكراسي، وتظلّ في
مستوى النظر لها وللحبيبين، الذي يخونهما الوقت والموعد المتعجّل على
نهايته. هذا كلّه لا يقف وحده، بل يُغزَل عبر وشيجة بصرية متفجّرة
بفجاءاتها مع الرقصات الأخرى. إنها تستكمل بعضها البعض بما يشبه سمفونية
بارعة الدقة. في البدء، هناك مجموعة من نسوة عملها الباذخ "شعيرة الربيع"،
مُصوّرة كما صمّمتها بوَش. بيد أن كاميرا هيلين لوفارت وتوليف توني
فورشهامر جعلا الاقتراب منهنّ ومن أرديتهنّ الحمراء بهذه المسافة كسراً
حاداً لبُعد مقحم. إن مشاهد هذا المقطع العنيف يثير شعوراً بانجذاب قسري
للدخول في لعبة تغريب درامي مع حركاتهنّ، وخيط التدمير الذي ينسحب إلى وسط
تراب المسرح مع قدوم مجموعة الرجال، وهو تشكيل يستعيد حركات الجوقات في
مسرح الإغريق الكبار، أمثال أسخيلوس ويوريبيديس. هذا التغريب السحري يُطلِق
فوراناً من اللذّة، عندما نشاهد الراقصة الآسيوية وهي تستعرض عضلاتها تحت
جسر قطار معلّق، قبل أن نسحر عند الكشف عن كذبتها مع زميلها الراقص المختبئ
بملاحة خلفها. عمل فيندرز هذا ليس سيرة ذاتية للرقص، بل تركيزٌ سينمائيٌّ
على الرقص نفسه. أما رقصة "فولموند"، التي تجري وسط بحيرة من الماء وصخرة
عظيمة، فتهزّ النفس، وتزيد موسيقى سترافنسكي من غرائبيتها وتطرّفها.
هناك امرأة تحمل زهرة عملاقة، ومثلها رجل يحمل امرأة في انصهار جسدي
رمزي. هناك رجل آخر يركض في برّية كحيوان جريح، ومجموعة راقصين يتبادلون
الأماكن في عجز واضح عن حلّ معضلة. هناك مخطوفون بمشاهدة ثنائي راقص وسط
قفص زجاجي هائل الحجم. هناك راقصة تُقلِب كراس وسط خضرة خاطفة، وشابة تتّكل
على رجل في هيام جبّار المعاني، وحبيبان يرقصان وسط سيارات مارّة وسط
برلين، وفي الخلفية شعار مطاعم "ماكدونالد" الشهيرة. هذا كَمّ مشهدي يستمر
على مدى 103 دقائق، برسم مُشاهد نخبوي، عالي الثقافة والحسّ. مع ذلك، يمكن
اعتبار الفيلم وسيطاً غنياً موجّهاً إلى قطاع عام من المُشاهدين، ممن يسعون
لمغامرة غير معهودة، تقودهم نحو تخوم معرفية ثقافية لجهود واحدة من خُلاصات
إبداع أوروبا المعاصرة.
من داخل المهرجان في
19/10/2011 |
