تكمن الملاحظة النقدية
الأولى، المُساقة ضمن القراءة العامّة
لأفلام مُشاركة في الدورة الثالثة (25 ـ 29
تشرين الأول 2011) لـ"مهرجان الدوحة ترايبكا السينمائي"، في استحالة
المُقارنة
النقدية بين النتاج العربي والإنجازات الأجنبية. الاستحالة حاضرةٌ في
الهوّة
الحاصلة بين الطرفين. ليست الهوّة سحيقة، لكنها واضحة المعالم. ليست شاملة
الأفلام
كلّها، لأن أفلاماً عربية متمكّنة من أدواتها التعبيرية، في مقابل أفلام
أجنبية
عادية، أو أقلّ من عاديّة. وعلى الرغم من وجود أفلام عربية عدّة أثارت
قضايا
إنسانية وأخلاقية مهمّة، واجتهدت في تنفيذ متقن للإخراج وتفاصيله التقنية
والفنية،
إلاّ أن المقارنة بينها وبين أفلام غربية مُشاركة في الدورة الثالثة هذه
كفيلةٌ
بكشف معالم الهوّة تلك. هذه ملاحظة أوردها الزميل بشّار إيراهيم في مقالته
الخاصّة
بالدورة الخامسة (13 ـ 22 تشرين الأول 2011) لـ"مهرجان أبو ظبي السينمائي"،
المنشورة في "نوافذ" ("المستقبل"، 30 تشرين الأول 2011). ملاحظة مثيرة
لنقاش،
يُفترض به ألاّ يتجاوز الحالة الراهنة للفيلم العربي. يُفترض
به ألاّ يتجاوز
المقارنة المرتبطة بمُشاهدة الأفلام كلّها
هذه في إطار واحد: المهرجان
السينمائي.
معادلات
بعيداً عن المقارنة النقدية، المسيئة للطرفين أصلاً (بصرف
النظر عن القيم الدرامية والجمالية والفنية والتقنية الخاصّة بالأفلام
العربية
والأجنبية معاً)، بدا مهرجان الدوحة الثالث هذا امتداداً سينمائياً لمهرجان
أبو ظبي
الخامس: إتاحة فرصة جدّية للاطّلاع على آخر ابتكارات العقل والمخيّلة
العربيين،
سواء تأثّرت الابتكارات (والعقل والمخيّلة أيضاً) بالحراك الشعبي العربي
وإفرازاته
المختلفة، أم حاولت إيجاد معادلات إبداعية بين مواضيع إنسانية وأخلاقية
واجتماعية،
وأشكال سينمائية ما. إتاحة الفرصة أيضاً لمُشاهدة أفلام أجنبية، قيل نقدٌ
سجالي
مهمّ حولها، فإذا بالدورتين الثالثة والخامسة هاتين تتيحان مجالاً لمتعة
العين،
ولحماسة النقاش، ولفرح الفرجة الفنية. في الدوحة، كانت المُشاهدة الفعل
الوحيد،
تقريباً، القادر على تحويل الوقت إلى فائدة ممتعة. إلى اطّلاع ذاهب بصاحبه
إلى
اكتشافات مرتبطة بآليات الاشتغال، أو بمفاهيم الكتابة السينمائية البحتة.
هذا
منسحبٌ، إلى حدّ ما، على أفلام عربية روائية طويلة وقصيرة، بالإضافة إلى
بعض النتاج
الوثائقي طبعاً. ذلك أن أفلاماً عربية صاغت حكاياتها، المستلّة من وقائع
العيش
اليومي على الحدّ الفاصل بين القهر والوجع والخيبات والعزلات والاجتهادات،
في أطر
بصرية فنية لم تبلغ مرتبة إبداعية راقية، لكنها لم تسقط كلّها في البهتان
والملل. "الربيع العربي" حاضرٌ بخجل كبير في الدوحة، لكنه مفتوح على مزيد من
أسئلة الواقع
والحراك والآفاق أيضاً. القضايا الفردية
طاغية، وإن صيغت في أشكال سينمائية بسيطة.
القضايا والحساسيات الفردية الغربية مُصاغة بأساليب سينمائية مرتكزة على
براعة
استخدام التقنيات، من دون الإساءة إلى المضامين الدرامية تلك.
الغلبة للقضايا
الفردية أو العامة: سؤال السينما العربية.
لكنها غلبة معقودة على مزايا الفن في
مواجهة السياسة مثلاً. مزايا الفن في قدرته
على مقارعة الظلم، واستنباط المعاني
النبيلة من مرارة العيش في بؤس المؤسّسات الحاكمة باسم ديمقراطية (غربية)
تُريد قهر
الآخر أحياناً، لأن الآخر "غريبٌ" عنها. السينما ليست فاعلة بقوّة هنا.
لكنها مفتاح
إلى التأثير في المُشاهِد. إلى إعادة طرح سؤال العلاقة بين
السينما والواقع
والمجتمع. إلى جعل الصورة مدخلاً إلى خفايا
بيئة وناس. إلى فضح المبطّن في البيئة
والناس أيضاً. إلى إثارة نقاش حول القضية المطروحة، ولا بأس إذا انسحب
النقاش على
الشكل البصري المعتمد في إثارة الموضوع نفسه.
مثلٌ أول: "عمر قتلني" للفرنسي
المغربي الأصل رشدي زيم. القصّة معروفة جداً، خصوصاً في فرنسا والمغرب:
البُستانيّ
المغربي الأمّي عمر الرداد (سامي بوعجيلة) مُتّهم بقتل السيّدة غيزلن
مارشال، التي
عمل في منزلها القائم في مرتفعات "موجان"، التابعة للمقاطعة الفرنسية
الجنوبية
"بروفانس آلب كوت دازور". حدث هذا في الرابع
والعشرين من حزيران 1991. اعتُقل
كمشتبه به أولاً. تحوّل سريعاً إلى متّهم.
بل إلى المتّهم الوحيد. حُكم عليه بالسجن
ثمانية عشر عاماً، بعد ثلاثة أعوام من التحقيقات السطحية و"الاتّهامات"
الجاهزة. لم
يتوقّف عمر الرداد عن القول إنه بريء. عن الصراخ ببراءته. أمّيته لم
تُسعفه. إدمانه
على لعب القمار في أحد كازينوهات "كانّ" أساء إليه. الكتابة بدم الضحيّة
على الحائط
أن "عمر قتلني" أدانته. لكن الدلائل هذه لا تؤكّد ارتكابه
الجريمة هذه. محامون
وقضاة ومدّعون عامون رفضوا الإنصات إلى
حقائق الأمور. محقّقون "لطّخوا" مكان
الجريمة، فأزالوا معطيات. الجملة المذكورة على الحائط، التي قيل إن السيّدة
مارشال
خطّتها بيدها، خاطئة لغوياً (بالفرنسية). لم يشأ أحدٌ الانتباه إلى
التفاصيل. جان
ماري رووار، أكاديمي وكاتب مقالة في "باري ماتش"، سعى لكشف الحقائق. أصدر
كتاباً
بعنوان "عمر، أو صناعة مذنب". الكتاب، المرتكز على تحقيق
ميدانيّ، كشف ما لم يرد
أحدٌ الإنصات إليه. ما لم يرد أحدٌ إظهاره.
الفيلم توثيقيّ، منشغلٌ بالهمّ
السينمائيّ إلى حدّ كبير. إعادة تشكيل
المعطيات كلّها نواة النصّ السينمائي. لا
إدانة. لا أحكام مسبقة. بدا الفيلم كأنه منطلقٌ من قول المحامي الشهير جاك
فيرجيس (تولّى
مهمّة الدفاع عن عمر الرداد في المراحل الأولى تحديداً): "قبل مئة عام،
حُكم
على ضابط، لأن ذنبه (الوحيد) أنه يهوديّ. الآن، يُحكم على بُستانيّ، لأن
ذنبه (الوحيد)
أنه مغربيّ". فقط، هناك رغبة في قول الأشياء. عشرون عاماً مضت. أُطلق
سراحه بعفو خاص برئيس الجمهورية آنذاك جاك شيراك، في الرابع من أيلول 1998،
نزولاً
عند إلحاح الملك المغربيّ الحسن الثاني. لكن عمر الرداد مستمرّ في العمل
على تبرئة
اسمه، لأنه مُصرّ على كونه بريئاً. الفيلم لا يُناقش البراءة، بل مسار
التحقيق.
يُناقش الواقع الإنساني لعمر الرداد، في ظلّ "مأساته" تلك.
أحلام وثأر
قصّة
مشوّقة. سينمائية بامتياز. الفيلم لعبة
بصرية لإعادة فتح الجرح العميق في الوجدان
الفرنسي. لفهم المسار الحياتي لرجل، ولعائلته أيضاً. لكشف عنصرية فرنسية
مبطّنة
وحادّة. عنصرية قاتلة وبشعة. التلاعب واضحٌ. الرغبة في الحصول على "كبش
فداء" ظاهرة
للعيان. الرغبة في الفتك به أيضاً واضحة جداً. على الأقلّ، هذا
ما أظهره الفيلم.
قراءة وقائع القصّة الحقيقية مُذهلة. دخول جاك فيرجيس، بتاريخه
وصفاته المعروفة،
أضاف تشويقاً وحماسة على المسألة: أراد
إدانة الجسم القضائي الفرنسي، كعادته. هوامش
عدّة أظهرها الفيلم، للقول إن التلاعب القضائي حاصلٌ. القصّة الحقيقية
سينمائية
بامتياز. لكن السينما حاضرة بشكل عاديّ. المنحى التوثيقيّ أقوى. إعادة رسم
القصّة
كلّها بشكل "روائيّ متخيّل" أدّى إلى توثيق سينمائي مهمّ.
مثلٌ ثان: "نورمال"
للجزائري الفرنسي مرزاق علواش. الحراك الشعبيّ
العربي في تونس أثّر على واقع الحال
الشبابي في الجزائر. اللعبة الملتقطة من
قبل علواش متينة الحبكة الدرامية. التباس
الحدّ الفاصل بين السينما والواقع جميلٌ. التداخل عميق بين الفيلم الذي
صنعه علواش،
والفيلم المصنوع داخل "نورمال". غير أن الخط بينهما واحد: مأزق الشباب
الجزائريين،
في ظلّ الانهيار الحاصل، سياسياً واقتصادياً ومعيشياً. الخطوط
واهية بين الراهن
والماضي. أحد هؤلاء الشباب صَوّر مشاهد
كثيرة لصناعة فيلم عن واقع الشباب الجزائري،
قبل نحو عامين على اندلاع "ثورة الياسمين" في تونس. أراد الآن لقاء هؤلاء
العاملين
معه. أراد أن يُشاهدوا ما صَوّره، لمناقشته على ضوء ما جرى
لاحقاً من تطوّرات. على
ضوء ما صَوَّره أيضاً. الراهن عابقٌ
بالتظاهرات والصدامات داخل الجزائر. عابقٌ بما
حدث في المحيط العربي. فيلم داخل فيلم. قصّة منسوجة من ركائز قصّة،
وامتدادٌ لها في
الوقت نفسه. مآزق الشباب وأحلامهم المجهضة. نزاعاتهم الذاتية ارتداد
لنزاعاتهم
الخارجية مع بعضهم البعض. أو استكمال لها. المادة الدرامية في "نورمال"
مهمّة جداً:
الأسئلة المطروحة متعلّقة بمسائل الحياة اليومية للشباب.
الاشتغال السينمائي وازن
بين الفيلمين بلغة مبسّطة. لغة جعلت
التفاصيل المعقّدة أوضح وأجمل في لعبتها
السينمائية.
مثلٌ ثالث: "إنسان شريف" للّبناني جان كلود قدسي. ابتعادٌ مطلق عن
الحراك العربي الراهن، من دون أدنى ابتعاد عن واقع عربي مزمن.
يصلح "جرائم الشرف"
عنواناً للقصّة. هذا جزء من النسيج الاجتماعي
العربي، خصوصاً في بلد مثل الأردن. لا
علاقة للفيلم بالسياسة أو الاقتصاد. إنها
مسألة اجتماعية بحتة، مرتكزة على الحبّ
والثأر والعقل القبائلي. مرتكزة على واقع
معروف ومُكرّر، في الأردن كما في مدن وقرى
عربية مختلفة. حِرَفية قدسي في المعالجة واضحة. السياق الدرامي متناسق
والمناخات
الإنسانية المشحونة بكَمّ من الانفعالات المبطّنة، المحتاجة إلى براعة
تمثيلية أكبر
للتعبير عنها من دون افتعال. هذا تعميم. الأداء التمثيلي انعكاس لحالات
وأفكار
وأحاسيس. لكن الحالات والأفكار والأحاسيس هذه محتاجة إلى تفعيل أقوى
للأداء. ليس
انتقاصاً من قدرات الممثلين. لكن، هناك من بدا عائقاً أمام تفاعل حيوي
مطلوب بين
الشخصية والمُشاهد. "إنسان شريف" (العنوان، بحدّ ذاته، ثقيلٌ بالمعنى
السينمائي، إذ
بدا عنواناً لدرس أخلاقي عن النُبل والشهامة في مواجهة الدم
والعنف) منتم إلى
مجموعة من الأفلام اللبنانية قليلة العدد،
الباحثة في شؤون الصورة والفن، من خلال
قصّة أفراد يواجهون مصائرهم وماضيهم.
هذه نماذج. المآزق الفردية أداة فاعلة
لابتكار صُوَر سينمائية بديعة في الغرب. في برنامج "أفلام عالمية معاصرة"،
عُرضت
أفلام عدّة تناولت المسألة هذه: بعضها الأول ساحرٌ. بعضها الثاني مُثير
للمُشاهدة.
بعضها الثالث دعوة مفتوحة إلى مقاربة الأشياء بلغة سينمائية جميلة.
التفضيل، هنا،
مُضرّ. لكنه ضرورة. إنه تفضيل شخصيّ. اختيار بعض العناوين لا يُلغي أهمية
البعض
الآخر. هناك أفلام وثائقية وقصيرة مهمّة. محتاجة هي إلى قراءة خاصّة بها.
الهموم
الفردية المستلّة من صدام الفرد مع الجماعة حاضرةٌ. السلاسة البصرية جميلة.
الحساسية أيضاً. الأمثلة قليلة. أبرزها ما يلي:
صراعات
"الفنان" للفرنسي
ميشال هازانافيسيوس مثلٌ أول. سحره متنوّع: مُصَوّر بتقنية الأسود والأبيض.
صامت.
استعادة بديعة لعصر سينمائي منته. لحياة مخضّبة بالإبداع والمرح والجمال.
جورج
فالنتان (جان دوجاردان) ممثل لامع في هوليوود عشرينيات القرن المنصرم.
تحديداً: في
العام 1927. أي قبل عامين اثنين فقط على وقوع الأزمة الاقتصادية الأميركية
العالمية
الخانقة. شهرته لا مثيل لها. تفاؤله وحُسن تصرّفه مع معجبيه رائعان. علاقته
بامرأته
مضطربة قليلاً. صدفة عابرة جمعته بشابّة يافعة وطموحة تُدعى بيبي ميلر (بيرينيس
بيجو). تدرّبت على يديه. باتت الأشهر. إنها مرحلة الانتقال من الصامت إلى
المحكي.
رفض فالنتان الانتقال هذا. رفضه صارم. انهيار وعزلة وتمزّق وقلق وأزمة
وجود. في
مقابل اندماج سريع لبيبي ميلر في الجديد. صراع خفي بينهما. لكنها تُحبّه.
لم تنسَ
فضله عليها. الأسود والأبيض الممزوجان بالصمت استعادة رائعة لصورة سينمائية
لا
تُنسى. لحكاية الفن وصراع الأصيل والجديد. لا مفرّ من الجديد. لكن، لا مفرّ
من
تذكّر الأصيل أو القديم أيضاً.
الصراع حاضرٌ في أفلام أخرى. إنه صراع وجود
أيضاً: الكاتب الأميركي في باريس، في "المرأة في المنطقة الخامسة" للفرنسي
البولندي
الأصل بافل بافليكوفسكي، يُعاني أزمتين: انفصاله الحادّ عن
ابنته، وعجزه عن
الكتابة. أي عجزه عن الخروج من شهرة
الرواية الأولى. صراع متدرّج نحو الأقوى، جعله
ضحية التباسات وألغاز انتقلت، سريعاً، إلى خارج الشاشة. أناس عديدون
التقاهم، لكنهم
غير موجودين. أوهام أم تخيّلات مرضية؟ لا إجابة. لكن النسق الدرامي متين
البنية،
والأسئلة معلّقة على جدران الخيبة والقهر. الصراع، ولا شيء غير الصراع.
خصوصاً داخل
الذات الفردية: في الفيلم البلجيكي "رأس ثور" لميكائيل روسكان، كما في
الفيلم
التركي "كشك تحصيل الضرائب" لتولغا كاراشيليك. جاكي فانمارسنيل (ماتياس
شونايريتس)
في الأول لا يختلف عن كينان (سركان إركان) في الثاني: الإخصاء
قدرهما. الإخصاء
دافعٌ لهما لاختراق الممنوع، إثر انفجار
الداخل. الأول مخصيّ منذ طفولته، لأن صبياً
مجنوناً ضربه بوحشية على عضوه التناسليّ. الثاني مخصيّ معنوياً وانفعالياً،
بسبب
سلطة الأب واضطهاده له. جاكي غرق في عالم سفليّ، متمثّل بعصابات مُتاجِرة
بالهيرمونات، وبإدمان على مخدّرات متنوّعة. كينان غرق في ذاته وعزلته. في
كشك تحصيل
الضرائب على الطرقات العامّة. في أحلام ملتبسة دفعته إلى محو الحدّ الفاصل
بين
الواقع والوهم. متشابهان هما. وإن افترقا في نهاية المطاف عن بعضهما البعض:
الموت
قتلاً على أيدي رجال الشرطة قدر جاكي، بعد أن فضح بنفسه تاريخه وانكساراته
وعجزه.
الانفصال عن الواقع (كي لا أستخدم تعبير "جنون") قدر كينان، بعد أن تمرّد
على والده
المريض، فأدخله إلى الموت بعدم مساعدته على تناول الدواء. الانفصال عن
الواقع مصير
جاكي أيضاً، وإن بمنحه شكلاً آخر. الماضي طاغ على الراهن اليومي الخاصّ
بهما.
الخلاص منه دونه صعوبات شتّى. طريق الخلاص من الماضي وآثامه مليء بألغام
وتوتر.
الخلاص محتاج إلى تطهّر. التطهّر بالنار أو الخيبة أو الموت.
هذا كلّه مشغول
بلغة سينمائية جعلت الإضاءة الخافتة غالباً
مصدراً أساسياً لخراب جاكي وتمزّقاته
الروحية والانفعالية والجسدية. جعلت الإضاءة المتفتّحة والمنيرة للطبيعة
تحديداً
نقيض السوداوية القاتلة في ذات كينان. للمرأة حضور في الراهن اليوميّ لهما.
للمرأة
دور في انقلابهما المدوّي على الذات والآخر معاً. لكن الجسد لعين، والروح
تائهة.
الأداء التمثيلي جزءٌ أساسي من اللعبة: ماتياس شونايريتس لامعٌ في تقديم
شخصية جاكي
فانمارسنيل الضخم الجثّة، والوديع في عزلته المنزوية في الأدوية الممنوعة
التي
يتناولها. سركان إركان مؤثّر في تقديم شخصية كينان المقهور والعاجز
و"الآليّ" في
علاقته بالآخرين.
السفير اللبنانية في
04/11/2011
مهرجان الدوحة-تريبكا 3: دورة الفرص
الضائعة
الدوحة - فيكي حبيب
فيـلم أميركي طويل عاشه ضيوف «مهرجان الدوحة - تريبكا» في دورته
الثالثة (من 25
الى 29 تشرين الأول (أكتوبر))، يُضاهي بنجومه الكبار والـ «أكشن» التي تخطف
الأنفاس، كل أفلام المهرجان جاذبية... فيلم كاد أن ينسف جهوداً كبيرة
لإنجاح مهرجان
طموح، وُضعت له إمكانات كبيرة كفيلة بتحويله الى محطّ جذبٍ للسينمائيين
العرب
والأجانب، من دون ان ينسى المعنيون القاعدة التي ينطلقون منها،
وبالتالي أهمية
إدخال الثقافة السينمائية في مجتمع يُعتبر فيه الفن السابع طارئاً، من خلال
اعطاء
مساحة واسعة للتعليم السينمائي والنشاطات على مدار العام.
ولئن كانت الفضائح تجذب القارئ أكثر من أي شيء آخر، تصدّرت الصفحات
الالكترونية
أخبار عمر الشريف والصفعة التي وجهها الى الزميلة عائشة الدوري على كل ما
عداها من
أخبار حول المهرجان. وسرعان ما أضحت هذه النوعية من الأخبار الأساس في
اروقة الحي
الثقافي «كتارا» الذي احتضن غالبية العروض، الى درجة يكاد
المرء معها ان ينسى
الأفلام والنقاشات من حولها.
وعلى هذا المنوال، أحدثت المحاولة غير الناجحة للمهرجان لأخذ توقيع
المذيعة
عائشة الدوري على ورقة رسمية تنفي فيها تعرض عمر الشريف لها بالشتم والضرب،
بلبلة
في صفوف المدعوين. ثم كان انسحاب فيلم المخرج المصري خالد الحجر من
المسابقة عبر
بيان، اتهم فيه الممثلة اللبنانية كارمن لبس (إحدى أعضاء لجنة
تحكيم الفيلم
الروائي) بتسريب نتائج لجنة التحكيم قبل صدورها رسمياً. كما سار خبر انسحاب
مجموعة
من النجوم الخليجيين من الحفلة الختامية (الممثل الكويتي سعد الفرج، النجم
السعودي
عبدالمحسن النمر، المخرج البحريني بسام الزوادي، والمخرج
الكويتي عبدالله بوشهري)
نتيجة سوء في التنظيم... ليتوّج هذا كله بمسرحية هزلية سيطرت على حفلة
توزيع
الجوائز.
والغريب في الأمر، كان القرار الذي حُكي انه صدر عن المديرة التنفيذية
لمؤسسة
الدوحة للأفلام أماندا بالمر، التي هي في الأساس صحافية، بمنع أهل الصحافة
من حضور
حفلة إعلان توزيع الجوائز. ومع هذا حضرت «الحياة» بين وسائل إعلام معدودة،
هذا
الاحتفال، ولو من طريق الصدفة، لتشهد على جملة إخفاقات، ربما
كانت سبباً في قرار
أماندا بالمر، هذا.
هرج ومرج
ولا مبالغة في القول ان هرجاً ومرجاً صاحبا حفلة توزيع الجوائز منذ
صعود أنطونيو
بانديراس وعمر الشريف الى المسرح حتى النهاية. وعلى رغم الانسجام الذي بدا
على
النجمين ومحاولتهما تقديم عرض ممتع، اختلط الحابل بالنابل، وتاه أصحاب
الجوائز.
البداية كانت مع إعلان عمر الشريف عن فوز فيلم اللبناني أحمد غصين «أبي ما
زال
شيوعياً – أسرار حميمة للجميع» بجائزة أفضل فيلم عربي قصير، ولكن ما ان صعد
هذا
الأخير الى المسرح وطلب منه عمر الشريف ان يفتح المغلف الذي
يحمل الإعلان عن
جائزته، حتى اكتشف ان الجائزة ليست له، وإنما للفيلم السعودي «وينك؟»
للمخرج
عبدالله النجيم (10 آلاف دولار). ومع هذا لم يخرج غصين من المولد بلا حمص،
إنما كان
من نصيبه شهادة تقدير من لجنة التحكيم (10 آلاف دولار).
ولم يقف الإرباك عند هذا الحدّ، إنما انسحب الى بقية الجوائز. اهمها
مع رئيس
لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية الطويلة المخرج السوري محمد ملص الذي
بعدما
تكلم طويلاً عن صفات الفيلم الفائز («نورمال» – طبيعي - للمخرج الجزائري
مرزاق
علواش الذي نال مئة ألف دولار)، نبّهه أعضاء لجنته الى ان عليه
ان يبدأ باسم الفائز
بأفضل أداء تمثيلي (سامي بوعجيلا الذي نال 15 ألف دولار عن فيلم «عمر
قتلني» للمخرج
رشدي زم الذي نال بدوره جائزة أفضل مخرج عربي و50 ألف دولار)، فاعتذر
تاركاً
اسم
الفيلم الفائز جانباً من دون إعلان، وإن لم يعد سراً، ليعود في النهاية
ويقرأ
مجدداً ما استهل به كلامه، من دون ان ننسى لحظات الصمت الكبيرة التي رافقت
الإعلان
عن الجوائز واختلاط المغلفات التي تحمل النتائج بعضها ببعض.
أقل ارباكاً بدا نيك برومفيلد، رئيس لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية
العربية، عند
إعلانه منح جائزة أفضل فيلم وثائقي عربي لشريط «العذراء، الأقباط وأنا»
للمخرج
المصري نمير عبد المسيح (100 ألف دولار)، وجائزة أفضل مخرج وثائقي الى
اللبنانية
رانيا اسطفان عن فيلم «اختفاءات سعاد حسني الثلاثة» (50 ألف
دولار). ومع هذا، كانت
الفوضى سيدة الموقف، في حفلة خرج الجميع منها متسائلاً: من ربح ماذا؟
أما الجمهور فمنح جائزتين (100 ألف دولار لكل منهما)، لفيلمين، هما «وهلأ
لوين؟»
للمخرجة اللبنانية نادين لبكي عن فئة الأفلام الروائية، و «كوميك
كون، أي فانز هوب»
لمورغن سبورلك عن فئة الأفلام الوثائقية.
إخفاق وربح
ويقيناً ان المهرجان الذي أخفق في مكان، ربح في أماكن أخرى. ربح أولاً
في جذب
الجمهور الذي ملأ الصالات السينمائية في غالبية العروض، في شكل لافت مقارنة
مع
الدورتين الاوليين. كما ربح في انتقاله الى الحيّ الثقافي «كتارا» الذي
وفّر فرصة
مهمة للقاءات بين المخرجين والموزعين والصحافيين. وحضن عروض
أفلام في أكثر من منصة،
مثل مسرح عروض الهواء الطلق، ومسارح دار الأوبرا، والمسارح المتنقلة... كل
هذا من
دون ان ننسى النشاطات المختلفة التي أُقيمت في أرجائه مثل معرض «حرّر حرّر»
الذي
تضمن 48 عملاً حول التحرر في العالم العربي، قدمها صانعو أفلام
من عمّان وبيروت
والقاهرة وتونس ورام الله ويافا ومراكش والخرطوم والدوحة. فضلاً عن يوم
الأسرة الذي
تجاوز عدد الحضور فيه 16 ألف شخصاً - كما اعلن منظمو المهرجان - ووصل عدد
مشاهدي
العروض السينمائية الى أكثر من 5 آلاف شخص على مدار هذا اليوم
الذي شهد تقديم العرض
الأول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لفيلم الرسوم المتحركة الثلاثي
الأبعاد «القط أبو جزمة»، إضافة الى عرض خاص لفيلم
ستيفن سبيلبرغ وبيتر جاكسون «مغامرات تان
تان»، كما تتضمن احتفالاً لـ «مؤسسة الدوحة للأفلام» و «ميراماكس» بمرور عشر سنوات
على فيلم «سباي كيدز» بتقديم عرض سينمائي له.
وانسجاماً مع استراتيجية القيمين على المهرجان في فتح ابواب السينما
امام
الشباب، أعلنت شركة «ميراماكس» بالشراكة مع «مؤسسة الدوحة للأفلام» عن
إطلاق برنامج
تدريب إعلامي، يمثل فرصة لطلاب المرحلة الجامعية في قطر، للعمل مع
المسؤولين
التنفيذيين في شركة «ميراماكس» في لوس أنجليس ولندن، بهدف
إكساب الطلاب الخبرة
اللازمة للعمل في مجال الترفيه والإعلام.
وواضح من هذا كله، ان «مؤسسة الدوحة للأفلام»، تضع نصب عينيها خطة
تهدف لجعل
الفن السابع في نسيج المجتمع القطري من خلال تنشئة جيل الشباب على فن حديث
في
المنطقة وصولاً الى مرحلة تُصبح فيها أفلام صُنعت في قطر مئة في المئة.
وحتى ذاك
الوقت، لا شك في ان التحديات ستكون كبيرة، خصوصاً ان المنافسة
بين المهرجانات
الخليجية في أوجها. من هنا صار لزاماً على كل مهرجان من المهرجانات
الخليجية
الثلاثة ان يُحدد هوية تميزه عن المهرجانات الأخرى... والأكيد ان الدوحة
اختارت
الطريق الصحيح بدق باب التعليم.
الحياة اللندنية في
04/11/2011 |