حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان كان السينمائي الدولي الخامس والستون

ويس أندرسن يفتتح مهرجان كانّ بالحبّ والطرافة!

كان - هوفيك حبشيان 

افتُتحت أمس في جنوب فرنسا دورة جديدة تحمل رقم 65 من مهرجان كانّ السينمائي. 22 فيلماً ضمن المسابقة الرسمية في انتظار رواد هذه التظاهرة السينمائية العريقة التي تحيي في ملصقها الإعلاني أيقونة التمثيل ماريلين مونرو. تتوزع القائمة على النحو الآتي: عشرة أفلام أوروبية، ثمانية من القارة الأميركية، واحد أفريقي عربي، وثلاثة من آسيا. هناك العديد من الإقتباسات الروائية وغياب تام للمخرجات في دورة أقل ما يمكن القول فيها انها غنية ومتنوعة. المهرجان بلغ السنّ الرسمي للتقاعد، لكن لم تكسُ وجهه التجاعيد، بل يعرف كيف يجدد جلده، من خلال مطاردة كل مستجد ومثير عبر القارات الخمس والتحول إلى لسان حال السينمائيين الطليعيين في كافة أصقاع الأرض. والأسماء التي تصنع "كانّ 2012" جميعها (باستثناء جون هيلكوت واندرو دومينيك) من أبناء هذا المهرجان، كلهم تسلقوا السلالم الحمراء، خارج المسابقة أو داخلها، ولقد سبق لأربعة منهم أن نالوا الـ"سعفة". كيف سيتعامل رئيس لجنة التحكيم ناني موريتي، الذي سبق أن قال في تصريح انه لا يريد "أفلاماً شاهد مثلها خمسة آلاف مرة" مع هذه التشكيلة المتنوعة؟ أمس في المؤتمر الصحافي الذي ضمّ أعضاء لجنة التحكيم كافة، قال موريتي أنه سيكتفي بلعب دور مدير الصفّ، وانه سيحرص على أن يجتمع بباقي الأعضاء مرة كل يومين لمناقشة أربعة افلام وسينظر إلى جميعها على قدم المساواة.

"مملكة صعود القمر" للمخرج ويس أندرسن هو الفيلم الذي افتتح الدورة. حضر إلى الإفتتاح المخرج طبعاً، ومعه ادوارد نورتن، بيل موراي، تيلدا سوينتون وبروس ويليس، بالإضافة إلى نجوم من الشاشتين الأميركية والأوروبية كانوا هنا لاضفاء المزيد من البريق على الحفل الذي جرى غداة عملية تسلم وتسليم السلطة بين ساركوزي وهولاند. في تشكيلة انتُقدت لأنها لا تتضمن كوميديات، لم يخلُ عرض فيلم الإفتتاح من قهقهات المشاهدين المتكررة. من الصعب مقاومة فيلم للمخرج ويس اندرسن الذي يكون دائماً على موعد مع طرافة هدامة تُخرج السينما الأميركية من الدروب المطروقة مراراً. جديده هذا الذي وضع نصه بالتعاون مع رومان كوبولا ابن فرانسيس، يُعرض في المسابقة، خلافاً لما جرت عليه العادة في الأعوام الأخيرة. عمل تختلط فيه الجانرات السينمائية (فيلم الكارثة، المغامرات، الرعب، الخ). في المؤتمر الصحافي سأل صحافي أندرسن ما إذا كان استعان بذكريات شخصية لتأليف النصّ، فكان رده انه استند بالأحرى الى الأحاسيس التي أراد ان يعيشها عندما كان طفلاً، قائلاً انه يحلو له العمل مع أصدقاء في إطار جو عائلي.

خمس سنوات بعد "دارجلينغ ليميتد"، يعود أندرسن بفيلم حبّ، ابطاله من الأطفال الذين يدخلون لتوهم المراهقة. تجري الحوادث في الستينات، ولا يُمكن اعتبار هذا الخيار غاية في البراءة. انه الزمن الذي يروق لأندرسن كي يبرز من خلاله لعبته التكريمية. المكان: جزيرة اميركية في منطقة "انكلترا الجديدة". سوزي وسام البالغ كلٌّ منهما الثانية عشرة من العمر، يُغرم أحدهما بالآخر. سام صبي يتيم يخدم في الكشاف، أما سوزي فمن عائلة ميسورة غريبة الأطوار يضطلع فيها موراي بدور الأب. ذات يوم، يهربان في البرية والطبيعة المشبعة بكل التناقضات والتجارب. لكن رحلتهما لن تفلت من الإضطهاد والمطاردة.

من حكاية بسيطة تنتقل بالمشاهد من الموقف البدائي الى الكارثة العظمى (وصول عاصفة الى الجزيرة)، يستقي اندرسن مرافعة ظريفة دفاعاً عن فكرة الإختلاف، وهو الشيء الذي تقوم عليه سينماه برمتها، منذ "راشمور" (1998). مقابل عالم الحسية الطفولية، يضع اندرسن عالماً يريده القائمون عليه عقلانياً وجادّاً بأيّ ثمن. لكن النصر للحبّ مهما طال الزمن. ولعل النقطة الأهم في الفيلم هي المراجع الفنية التي يستند اليها، بدءاً من المقطوعات الموسيقية (موازر، شوبرت، بنجامن بريتن، فرنسواز هاردي، ألكسندر ديبلا)، وهذه من الأشياء التي تُظهر مدى انفتاح اندرسن وسينماه على الثقافات الآتية من خلف المحيط.

بيرينيس بيجو، بطلة "الفنان" لميشال هازانافيسيوس هي التي قدمت الحفل. بدت متأثرة لحظة تقديم أعضاء لجنة التحكيم. لا يجب أن ننسى أن كل النجاح الذي سقط عليها وعلى حياتها فجأة، انطلق من هنا، قبل عام بالتمام والكمال، هذا المكان أتاح لها التعرف بنخبة الجمهور. قالت مستذكرة: "يا له من شيء جميل أن يحبك الناس في كل أنحاء العالم من خلال فيلم غير ناطق". ثم، كانت وقفة موسيقية مع بت ديتو اذ غنت "شمعة في الريح"، التي الفها التون جون عام 1973 تحية الى ماريلين مونرو، التي تملأ صورها جدران كانّ هذا العام كونها الوجه الرسمي للمهرجان.   

ونقلت مصادر أن هناك 4600 صحافي في دورة هذا العام. وان موازنة المهرجان بعد التضخم بلغت 20 مليون أورو، نصفها يأتي من أموال عامة عبر وزارة الثقافة الفرنسية. هذا الموعد السنوي ساهم ايضاً في خلق ثلاثة آلاف فرصة عمل. أما سكان المدينة، فيزداد عددهم ثلاثة اضعاف في شهر أيار من كل عام. المهرجان ليس فقط أفلاماً ونقاشات بين النقاد على أرصفة الـ"كروازيت"، انه ماكينة اقتصادية واستهلاكية تدر الأموال: احدى الصحف نقلت ان فندق "كارلتون" يستهلك وحده 25 كيلو من الكافيار وعشرة آلاف زجاجة شامبانيا. مظاهر ترف لا تجد صدى طيباً عند بعض من انصار فرنسوا هولاند. الرئيس المنتخب حديثاً لم يوفره الممثل الاستفزازي الأميركي ساشا بارون كوهين (بورات)، لدى زيارته لكانّ أمس، على ظهر جمل، اذ أعلن انه مول حملة هولاند الانتخابية بمبلغ 500 ألف أورو!

هناك ثلاثة افلام على الاقل ينتظرها الرواد في الأيام المقبلة ومن المرجح أن تقلب موازين كانّ: "عن الصدء والعظم" لجاك أوديار: عام 2009، رفع هذا الابن لأهم كاتب حوارات في السينما الفرنسية، السقف عالياً، مع فيلمه الجوهرة "نبيّ". هل سيستطيع أن يعاود الكرة بأفلمته هذه لرواية كريغ دايفيدسن الصادرة عام 2006 بحيث ينجز معها فيلمه السادس؟ الرهان ليس سهلاً، ولاسيما ان الحكاية التي يرويها، كما دائماً عند أوديار، لا تحمل سمات الإبتكار، أقله ظاهرياً. ثم هناك "واقع" لماتيو غاروني. بعد الفيلم المافيوي "غومورا" الذي أعاد السينما الإيطالية الى الصدارة، يختار غاروني موضوعاً حساساً بات في ماضينا القريب: تلفزيون الواقع، انطلاقاً من النسخة الايطالية لبرنامج "بيغ براذر"، هذا البرنامج البليد الذي يراقب سلوكيات مجموعة أشخاص ويصورهم 24 ساعة على 24. عدوى البرنامح تنتقل الى صاحب متجر سمك، فيبدأ بالعيش كما لو كانت الكاميرات تنقل حياته وتفاصيلها. الفيلم سبق أن بدأ عرضه في الصالات الايطالية قبل اسبوعين، وهو الفيلم الايطالي الوحيد في المسابقة، فهل يلتفت اليه ناني موريتي، آخر ايطالي نال "السعفة الذهب" عام 2001 عن "غرفة الابن"؟ وأخيراً، "اقتناص" لتوماس فينتربرغ: العضو السابق في حركة "دوغما 95"، الحائز على جائزة عن "فستن" (1998)، يصور هنا اتهام فتاة في الخامسة لرجل مطلّق حديثاً بالتحرش الجنسي. موضوع حارق يعيد موضعة فينتربرغ على خارطة السينمائيين الذين يتغذون من الفضيحة والاستفزاز. لنصبر ونرَ ما الحجم الذي ستأخذه مخيلة صديق الرجل (لارس فون ترير) الذي كان غير مرغوب به السنة الماضية على الكروازيت.

أبوظبي السينمائي في

17/05/2012

 

عاصفة حبّ تهبّ على كانّ!

كانّ ــ هوفيك حبشيان 

في كانّ، الألسنة تلوك كل شيء، من الطقس الى أزياء النساء، فأسعار المطاعم الملتبهة. وطبعاً، الوليمة السينمائية التي في انتظار الجميع على مدار 12 يوما: ظهراً، صبحاً ومساء. هناك دائماً مشكلة أو قضية تطلّ علينا في مستهل كل دورة. غياب المخرجات، هذه السنة، عن لائحة المتسابقين الـ22 على "السعفة الذهب"، يعزز الخطاب "المتشائل" للنقاد وزوار المدينة الجنوبية المعروفة بمهرجانها الذي يبلغ هذه السنة ربيعه الـ65، من غير أن تكسو وجهه التجاعيد. المدير التنفيذي تييري فريمو لم يجد فيلماً من توقيع مخرجة يليق بالمسابقة الرسمية، على رغم الحضور البديهي والكثيف للوجوه النسائية قبالة الكاميرا. تم تعويض هذا الخلل، بالملصق الذي يغزو جدران المدينة، حاضناً ماريلين مونرو بالأسود والأبيض. عربياً، تحتل النساء الصدارة هذه السنة، اذ نجد ثلاثاً منهن في لجان تحكيم متفرقة: هيام عباس، ماريان خوري، ليلى بختي. هناك ايضاً الكوميديا. ما مشكلتها؟ هي أيضاً غائبة عن التشكيلة الرسمية. ولكن، هذا ليس ذنب أحد. فأحوال العالم على الحضيض، والسينمائيون يفضلون النقّ على الضحك

مع ذلك، لم يسلم العرض الصحافي لفيلم الافتتاح من قهقهات المشاهدين المتكررة. من الصعب مقاومة فيلم للمخرج وس اندرسون الذي يكون دائماً على موعد مع طرافة هدامة تُخرج السينما الأميركية من الدروب المطروقة مراراً. جديده، "مملكة صعود القمر"، يُعرض في المسابقة، خلافاً لما جرت العادة في السنوات الأخيرة. عمل تختلط فيه الجانرات السينمائية (فيلم الكارثة، المغامرات، الرعب، الخ) ويغصّ بالأسماء الكبيرة: هارفي كايتل، فرانسز ماكدورماند، ادوارد نورتن، بيل موراي، تيلدا سوينتون وبروس ويليس. كلّ من كايتل وماكدورماند لم يأتيا الى كانّ، أما الأربعة الآخرون فأحدث مجيئهم الى قاعة المؤتمرات ظهر أمس بقيادة اندرسون هرجاً ومرجاً. مئات المصورين رشقوهم بالفلاشات. ثم كان اللقاء: سأل صحافي أندرسون ما اذا كان استعان بذكريات شخصية لتأليف النصّ، فكان رده انه استند بالاحرى الى الأحاسيس التي كان اراد ان يعيشها عندما كان طفلاً، قائلاً إنه يحلو له العمل مع أصدقاء في اطار جو عائلي. يجب ألا ننسى ان النصّ ألّفه اندرسون مع رومان كوبولا، ابن فرنسيس

اذاً، افتتح كانّ أمس دورة غنية جداً، بفيلم عن الحبّ، يترجح بين براءة شخصية انطوان دوانيل عند فرنسوا تروفو والصيغة الاختزالية الأحب الى قلب جان لوك غودار. لذا لا يُمكن اعتبار خيار الستينات كزمن لأحداث الفيلم خياراً اعتباطياً. انه الزمن الذي يبعث إليه اندرسون بغمزات تكريمية متعددة. نحن في هذا الفيلم على جزيرة اميركية في منطقة "انكلترا الجديدة". سوزي وسام البالغ كلٌّ منهما الثانية عشرة من العمر، يُغرمان أحدهما بالآخر. سام صبي يتيم يخدم في الكشاف، أما سوزي فمن عائلة ميسورة غريبة الأطوار يضطلع فيها موراي بدور الأب. ذات يوم، يهربان في البرية والطبيعة المشبعة بكل التناقضات والتجارب. لكن رحلتهما لن تفلت من الاضطهاد والمطاردة. يضعنا الفيلم صحبة شخصيات شبه كرتونية مدفوعة الى ذروتها مع تغليظ متعمد لملامحها

من حكاية بسيطة تنتقل بالمشاهد من الموقف البدائي الى الكارثة العظمى (وصول عاصفة الى الجزيرة)، يستقي اندرسون مرافعة ظريفة دفاعاً عن فكرة الاختلاف، وهو الشيء الذي تقوم عليه سينماه برمتها، منذ "راشمور" (1998) الى "دارجلينغ ليميتد"، مروراً بـ"الحياة البحرية" فـ"عائلة تننبوم". باسلوب "أولديز" حيناً، وباروكيّ في أحايين كثيرة، يتعامل الشريط مع شخصيات قاسية تقف على شفير الهاوية. مقابل عالم الحسية الطفولية، يضع اندرسون عالماً يريده القائمون عليه عقلانياً وجادّاً بأيّ ثمن. لكن النصر للحبّ مهما طال الزمن. ولعل النقطة الأهم في الفيلم هي المراجع الفنية التي يستند اليها، بدءاً من المقطوعات الموسيقية (موازر، شوبرت، بنجامن بريتن، فرنسواز هاردي، ألكسندر ديبلا)، وهذه من الأشياء التي تُظهر مدى انفتاح اندرسون وسينماه على الثقافات الآتية من خلف المحيط. أخيراً، سمى اندرسون المخيم الذي تجري فيه الاحداث "مخيم لبنان"، ربما هدية الى صاحبته، ابنة روائية لبنانية مشهورة

4600 صحافي يغطون نشاطات كانّ هذه السنة. بلغت موازنة المهرجان بعد التضخم 20 مليون أورو، نصفها يأتي من أموال عامة عبر وزارة الثقافة الفرنسية. هذا الموعد السنوي ساهم في إيجاد ثلاثة آلاف فرصة عمل. أما سكان المدينة، فيزداد عددهم ثلاثة اضعاف في شهر أيار من كل سنة. المهرجان ليس فقط أفلاماً ونقاشات بين النقاد على أرصفة الـ"كروازيت"، انه ماكينة اقتصادية واستهلاكية تدر الأموال: احدى الصحف نقلت ان فندق "كارلتون" يستهلك وحده 25 كيلو من الكافيار وعشرة آلاف زجاجة شامبانيا. مظاهر ترف لا تجد صدى طيباً عند بعض من انصار فرنسوا هولاند. الرئيس المنتخب حديثاً لم يوفره الممثل الاستفزازي الأميركي ساشا بارون كوهين (بورات)، لدى زيارته كانّ أمس، على ظهر جمل، اذ أعلن انه مول حملة هولاند الانتخابية بمبلغ 500 ألف أورو! بعد الفضيحة التي احدثها في آخر حفل لتوزيع جوائز الأوسكار عندما رمى أرضاً ما كان يفترض أنه رماد كيم جونغ - ايل، يبدو أن كوهين اختار كانّ لترويج فيلمه الجديد "الديكتاتور" الذي يستوحي شخصيته الأساسية من طغاة عرب صاروا في "خبر كان". 

 (*) مزيد من التفاصيل عن "كانّ 2012" في صفحة "أدب فكر فنّ ـــ سينما". 

النهار اللبنانية في

17/05/2012

 

مهرجان كانّ 2012 يضمن دورة عالية المستوى بأسماء اعتادت السجادة الحمراء

غياب نسائي وطغيان أدبي وموريتي لا يريد "أفلاماً شاهد مثلها خمسة آلاف مرة"

هوفيك حبشيان - كانّ 

22 فيلماً في مسابقة كانّ: عشرة منها أوروبية، ثمانية من القارة الأميركية، واحد (عربيّ) من أفريقيا، وثلاثة من آسيا. كلٌّ من جيل جاكوب وتييري فريمو أعدّ لنا وليمة سينيفيلية لم تمتد اليها أيادي المخرجات النساء. في المقابل نلحظ "عودة" الى الاقتباسات الروائية. المهرجان الذي يناهز السادسة والستين لا يبدو انه في طريقه الى التقاعد، فهو لا يزال خير مَن ينبش القبور، غير مكتف بأن يُسنَد اليه دور حارس الموتى، وغير مكترث بالكوابيس جراء النوم فوق المقابر. الأسماء التي ستصنع "كانّ 2012"، ليست لهواة أو مبتدئين؛ جميعها (باستثناء جون هيلكوت واندرو دومينيك) سبق أن مشت فوق السجادة الحمراء، على المتن أو في الهامش، في هذا المكان العابق بالتاريخ، ولقد سبق لأربعة من المخرجين المشاركين أن نالوا "السعفة". هذه السنة، ليس من تجارب اخراجية أولى في المسابقة، ليس من فيلم ألماني، ليس من أحد يدعى لارس فون ترير، وإن يكن أصحاب "النيات المبيتة" يستعدون لملاقاة الفضيحة الجديدة لـ"بديله" الكندي، ديفيد كروننبرغ. هناك قامات كبيرة، لا يُمكن الاعتماد عليها بالضرورة لاستقبال الصورة الاذكى والانقى عن عالمنا، لكن هؤلاء يشكلون الواجهة الأمامية لتظاهرة ثقافية تدعو دائماً الى البحث في باحتها الخلفية. ترى كيف سيتعامل رئيس لجنة التحكيم ناني موريتي، الذي سبق أن قال في تصريح انه لا يريد "أفلاماً شاهد مثلها خمسة آلاف مرة" مع هذه التشكيلة المتنوعة؟ وما ردود الأفعال التي ستحدثها عناوين قادرة على خطف أنفاس الرواد في الأيام الأحد عشر المقبلة؟    

¶ "هولي موترز" لليو كاراكس:

شاعر الكاميرا الملعون غاب دهراً وعودته الى حضن كانّ منتظرة بالتأكيد. دائماً مع ذاته الأخرى دوني لافان في دور البطولة، يتنازل به هذه المرة ــ نعم! ـــ لايفا منديس وكايلي مينوغ. ملخص الفيلم انه "بضع ساعات في حياة أوسكار، من الفجر الى الليل"، علماً ان أوسكار هذا كائن متحول، حيناً شحاذ وحيناً مجرم. ما من سرّ: الكلّ يتخيل ماذا يعني ان كائناً متحولاً يسافر من حياة الى اخرى ويحمل ملامح لافان ويتبلور ضمن تلك البقعة الضوئية التي يرسلها كاراكس. المسألة مرجحة ان تكون واحدة من اثنتين: إما انتكاسة وإما عظمة

¶ "كوزموبوليس" لديفيد كروننبرغ:

هذا من الأفلام التي ستشغل الكروازيت، من دون أدنى شكّ. نيويورك، الرأسمالية، ملياردير في الثامنة والعشرين (روبرت باتينسون) مصاب بالبارانويا، هذا كله في اقتباس لرواية دون دوليلو. في حين تبدأ أمبراطوريته المالية في الانهيار، لا يفكر بطلنا الا في الذهاب الى الحلاق لقص شعره. ينطوي الشريط على أجواء كروننبرغية خالصة: عدائية جسمانية، حدية، كائنات غريبة، باروك، توتر نفسي واستفزاز سينمائي يقرب العمل الى "اصطدام"، الفيلم الصدمة لمهرجان كانّ 1996. المنتج البرتغالي باولو برانكو مدّ يد العون الى كروننبرغ مالياً لهذا الانتاج الكندي - الفرنسي الذي بلغت موازنته عشرين مليوناً فقط! اما باتينسون، بطل سلسلة "توايلايت"، فيروي ان العمل مع كروننبرغ زاده شجاعة

¶ "عن الصدأ والعظم" لجاك أوديار:

عام 2009، رفع إبن أهمّ كاتب حوارات في السينما الفرنسية، السقف عالياً، مع فيلمه الجوهرة "نبيّ". هل يستطيع أن يعاود الكرة بأفلمته هذه لرواية كريغ دافيدسون الصادرة عام 2006 بحيث ينجز معها فيلمه السادس؟ الرهان ليس سهلاً، خصوصاً ان الحكاية التي يرويها، كما دائماً عند أوديار، لا تحمل سمات الابتكار، أقله ظاهرياً: انه لقاء بين علي (ماتياس شونارتس) وستيفاني (ماريون كوتيار)، الأول أب بائس وعاطل عن العمل، والثانية فقدت للتو ساقها بعد تعرضها لحادثة. هذا اللقاء يعد بالكثير، خصوصاً ان أوديار يدرجه في سياق ميلودرامي، "مندساً" في مملكة لم يغامر فيها من قبل

¶ "بايبربوي" للي دانيالز:

اقتباس آخر في دورة حافلة بالأصول الأدبية المنقولة الى الشاشة، لكن، هذه المرة، بتوقيع أميركي اسمه لي دانيالز (1959) أطلّ علينا فجأة في كانّ الدورة 62، قسم "نظرة ما"، مع "بريشس". انها حكاية صحافيين شقيقين يعودان الى مسقطهما في فلوريدا للتحقيق في جريمة قتل واستجواب محكوم بالاعدام على تلك الجريمة التي كلفت حياة "شريف" المنطقة. يقال ان بيدرو ألمودوفار حاول العمل على نصّ الفيلم مع كاتبه بيتر دكستر، قبل أن يقع في يد دانيالز، الذي يبدو انه في طريقه الى المزيد من الاعتراف، كونه حصل على أسماء "محترمة" في هذا الفيلم، من نيكول كيدمان الى ماتيو ماكغونوغي فجون كيوزاك.  

¶ "واقع" لماتيو غاروني:

بعد الفيلم المافيوي "غومورا" الذي أعاد السينما الايطالية الى الصدارة، يختار غاروني موضوعاً حساساً بات في ماضينا القريب: تلفزيون الواقع، انطلاقاً من النسخة الايطالية لبرنامج "بيغ براذر"، هذا البرنامج البليد الذي يراقب سلوكيات مجموعة أشخاص ويصورهم 24 ساعة على 24. عدوى البرنامح تنتقل الى صاحب مسمكة، فيبدأ بالعيش كما لو كانت الكاميرات تنقل حياته وتفاصيلها. الفيلم سبق أن بدأ عرضه في الصالات الايطالية قبل اسبوعين، وهو الفيلم الايطالي الوحيد في المسابقة، فهل يلتفت اليه ناني موريتي، آخر ايطالي نال "السعفة الذهب" عام 2001 عن "غرفة الابن"؟

¶ "حبّ" لميشاييل هانيكه:

فائز آخر بـ"السعفة" سيتسلق هذه السنة سلالم مسرح "لوميير": النمسوي هانيكه. مأساة أخرى تنضم الى السجل السينمائي لهذا الخلاق الذي عرف دوماً كيف يصور لحظات السقوط في الألم: جورج وآن، زوجان في الثمانين، كانا يعلّمان الموسيقى، لكنهما اليوم ينعمان بالتقاعد، عندما تتعرض ابنتهما، عازفة الموسيقى ايضاً، لحادث مفجع. هذا كله سيهز استقرار العائلة، وحبّ الواحد للآخر. أمام الكاميرا هناك ثلاث "شخصيات" سينمائية: ايمانويل ريفا وجان لوي ترانتينيان وايزابيل أوبير، الوجه المفضل لدى مخرج "عازفة البيانو".

¶ "في بلدٍ آخر" لهونغ سانغ سو:

ايزابيل أوبير هي العنصر المشترك بين هانيكه وسانغ سو. فبعد مشاركتها في "أسيرة" لبريانت مندوزا، يبدو انها بدأت تثير رغبات المخرجين الآسيويين. المخرج الكوري الجنوبي المعروف صوّر حكاية امرأة وابنتها تهربان من سيول للاقامة في مدينة على ضفاف البحر. تبدأ الفتاة في تأليف نصّ لفيلم قصير يحكي عن ثلاث نساء اسمهن آن وينلن المصير عينه. أوبير مكلفة للاضطلاع بالأدوار الثلاثة... الحياة والسينما تختلطان أمام كاميرا سانغ سو، المرشح لـ"سعفة" لم تنلها قطّ بلاده من قبل، برغم صعود نجم السينما الكورية في السنوات الأخيرة

¶ "ككائن مغرم" لعباس كيارستمي:

على غرار زميله الأميركي وودي آلن، بات كيارستمي سينمائياً متنقلاً من مدينة الى أخرى. بعد توسكانا في "نسخة طبق الأصل"، ها انه تصل مواصيله الى طوكيو البعيدة من السياسة ومشكلاتها، ليأتينا بفيلم لا يقل غرابة عن عمله الأخير. هكذا يقدم الفيلم شخصياته الثلاث: استاذ جامعي مسنّ ومحافظ، طالبة شابة تبيع مفاتنها لتحمّل نفقات الدراسة، وشاب غيور لا تنتظر غريزته العنفية الا لحظة انفجار. بين هؤلاء الثلاثة، ستنشأ علاقة في يوم واحد تغير حياتهم الى الأبد

¶ "حصة الملائكة" لكنّ لوتش:

بعد فيلم سيئ هو "طريق ايرلندية"، يعود لوتش الى كانّ، من دون أن تثير مشاركته هذه أي مفاجأة، فهو من الذين قدّموا معظم ما انجزوه في المهرجان الفرنسي، دورة بعد دورة، وتستمر الحالة هذه منذ سنوات. الفيلم يبدو انه استراحة هذا المحارب اليساري، الذي يُمِرّ "كوميديا حلوة مرّة" بين الفينة والفينة في فيلموغرافيته. النصّ الذي ألّفه لوتش مع معاونه المخلص بول لافرتي، لا يزال وفياً لأجواء لوتش: واقعية وتقشف في التقاط النبض الحياتي لدى شريحة من المجتمع البريطاني. ونظرة قاسية ورحومة في الآن نفسه على هؤلاء، ينبغي أن يكون المرء على مرتبة عالية من الانسانية لنقلها الى الجمهور بهذين الحبّ والصدق

¶ "خلف التلال" لكريستيان مونجيو:

الفتى الأروع للسينما الرومانية في كانّ مجدداً. ماذا يتأبط معه؟ كلّ ما نعرفه اننا سنكون أمام قضية نسائية، لكنّ هذه المرة تأخذ المسألة أبعاداً شيطانية، اذ ان البطلة فتاة مسكونة وفي حاجة الى مَن يطرد من دواخلها الأرواح الشريرة. لا شيء بريئاً عند مونجيو الذي يقدم هنا ما يتبدى انه استعارة جديدة يلتقي فيها الحبّ بالايمان وأحاسيس أخرى تذهب الى الحدود القصوى

¶ "بعد الظلمات، الضوء" لكارلوس ريغاداس:

عشر سنين مذ نال ريغاداس "الكاميرا الذهبية" (جائزة أول فيلم) في كانّ. مذذاك يستقطب الاعتراف بعمله الرصين والمفاجئ. وها انه يحمل الينا فيلماً يستند في جزء منه إلى السيرة الذاتية ويلفّه الكثير من الغموض، تزيده غموضاً عبارة أيوب التي استعين بها للعنوان. لكن المخرج المكسيكي يقدّمه على أنه ردّ اعتبار الى الحواس والذكريات والأحلام والمخاوف التي ازدحمت بها حياته منذ يوم ولادته، مقارناً عمله بلوحة رسام لا يترك مكاناً للعقل.     

¶ "على الطريق" لوالتر ساليس

انه الفيلم ــ التحدي في هذه الدورة. هل يكون ساليس وفيلمه بمستوى رواية جاك كيرواك التي اقتُبس منها؟ مهمة مخرج "يوميات دراجة" لم تكن سهلة، وان جنّد في سبيلها ألذّ ما على الساحة السينمائية اليوم من وجوه (غاريت هيدلوند، كرستن دانست، الخ) وتقنيين. لكن ما يطمئن هو ان ساليس يعرف الطريق جيداً، يبقى ان ينفخ فيها بعضاً من روح الرواية التي شكلت لسان حال جيل كامل من الباحثين عن الحرية والعيش في الهامش والاختلاف...

أفلام أخرى:

¶ "مملكة صعود القمر" لوَس اندرسون (افتتاحاً).

¶ "بعد الموقعة" ليسري نصرالله.

¶ "سَكَر المال" لايم سانغ سو.

¶ "اقتلهم بحنان" لأندرو دومينيك

¶ "خارج القانون" لجون هيلكوت.

¶ "طمى" لجيف نيكولز.

¶ "جنة: حبّ" لأولريش سيدل.

¶ "في الضباب" لسيرغي لوزنيتسا.

¶ "لم تشاهدوا شيئاً بعد" لرينه.

¶ "اقتناص" لتوماس فينتربرغ.

 في موازاة المسابقة...

الأقسام الموازية في المهرجان ليست أقل بريقاً: خارج المنافسة مثلاً، يُعرض جديد كل من داريو أرجنتو وبرناردو برتوللوتشي وتاكاشي ميك وفيليب كوفمان الذي سيكون محلّ تحية خاصة. حفاظاً على الذاكرة التي جاء على ذكرها سيد كانّ جيل جاكوب خلال المؤتمر الصحافي في 19 نيسان الماضي، تُستعاد جواهر عدة ضمن "كلاسيكيات كانّ"، بنسخ مرممّة أو مزودة مشاهد اضافية: "لورنس العرب" لديفيد لين، "ذات زمن في أميركا" لسرجيو ليوني، "جوز" لستيفن سبيلبرغ، "رحلة الى ايطاليا" لروبرتو روسيلليني، والقائمة طويلة تلامس الدهشة. قسم "العروض الخاصة" هو الآخر محمّل عناوين مثيرة: عودة نيلسون بيريرا دوس سانتوس، وعبور فاتح أكين بالوثائقي الشخصي، وتورط برنار هنري ليفي في "تحرير" ليبيا من خلال الشريط الذي انجزه... بيد ان مركز الثقل في المهرجان، حيث الحضن الدافئ للمواهب الفتية والواعدة، هو "نظرة ما" (20 فيلماً) الذي يستقبل أفلام كوجي واكاماتسو وبابلو ترابيرو ونبيل عيوش وكاترين كورسيني، الخ...

hauvick.habechian@annahar.com.lb

سينمائيون في المسابقة

¶ أفلامه معقودة على أمرين: كوميديا فتراجيديا. انه اولريش سيدل (1952)، هذا النمسوي الغريب الذي يعاين ناسه بتأنٍّ وطول أناة مستقطباً الطرافة الهدامة، تقوم سينماه على تضارب عنيف بين الحقيقة والمتخيل. سينمائي كلبيّ، لكن هذا لا يزيل عنه صفة الرقة والعاطفة

سيرغي لوزنيتسا كان في الدورة 2010 مع "يا فرحتي" (مسابقة). لكن لهذا الأوكراني الفذّ سجّل من الأفلام الوثائقية عددها 8. انه "معلم صغير" في كيفية وضع الكاميرا وتصوير الحياة اليومية في قرى تغمرها الثلوج أو في المصانع والساحات العامة، ملتقطاً نبضها بحنين لا مثيل له.  

يسري نصرالله واحد من ألمع مخرجي جيله، يدخل المسابقة مع "بعد الموقعة"، بعدما شارك العام الماضي في كانّ ضمن فيلم جماعي. هذا الفرنكوفونيّ والمثقف سينمائياً، لا يزال البعض يقول عنه "تلميذ شاهين"، برغم انه بلغ الستين، ولا تحمل سينماه أياً من الأعراض الـ"شاهينية". مع ذلك، تبقى سينماه صعبة جماهيرياً، الأمر الذي يدافع عنه قائلاً: لا أعتبر أفلامي ذات لغة سينمائية صعبة، لكنْ محسوب عليّ أشياء كثيرة، منها انني أعمل مع ممثلين جدد وأنني بدلاً من إنجاز "باب الشمس" باللهجة المصرية أنجزته باللهجة الفلسطينية.  

النهار اللبنانية في

17/05/2012

 

... وألان رينه يقول "لم تشاهدوا شيئاً بعد"!

هوفيك حبشيان 

في ألان رينه، يُمكن قول الآتي: "يصنع الأفلام لأنه لا يجرؤ على عدم فعل شيء". الجملة قالتها مارغريت دوراس عن واقعها المعيش، لكنها تنسحب أيضاً على صاحب "مورييل" و"الحرب انتهت"، الذي واكب ثلاثة أجيال من السينمائيين الفرنسيين. وهو يشارك في مسابقة مهرجان كانّ هذه السنة، الذي، مع الدورة الحالية، يصبح عمره من عمر رينه السينمائي. في الحقيقة، يصعب الكلام عن رينه، شأنه شأن كلّ خلاق ترتفع بينه وبين التصنيف الجدران العازلة. الرجل الهادئ والمحتشم الذي رفض كلّ أشكال الاستعراضية طوال حياته، كان ولا يزال، بعد 65 عاماً على حمله الكاميرا للمرة الاولى، من أشدّ المناهضين للعنف. تحوّل رينه الى الاخراج من خلال حلم اعتلاء خشبة المسرح. في سنّ مبكرة، ظهرت عنده رغبتان: مطالعة القصص المصورة ومتابعة السينما. هذا القارئ النهم والسينيفيلي الأكول باشر اتمام أفلام صغيرة بالـ8 ملم، مذ كان في الثالثة عشرة

منذ بداية مساره، كان رينه يولي اهتماماً خاصاً بالتفاصيل، وكان موسوساً بها. لا يترك المرء وشأنه الى أن يأخذ منه ما يريد. سيد حرفة ممتاز، يضع المعرفة التقنية في سبيل صوغ نمط اسلوبي لا يشبه النمط الذي تبنّاه أسلافه ولا ذلك الذي تبنّاه أحفاده. كان ولا يزال حالة خاصة في السينما الفرنسية والأوروبية. منعزل عن أقرانه عزلة محببة. لا أحد يشبهه ولا يشبه أحداً. حتى مراجعه السينمائية تأخذك الى عشرينات القرن الفائت حيث الأفلام التي صاغت ذائقته وشكلت وعيه الفكري، وهي في غالبها الأعظم أفلام صامتة، في مقدمها السينما السوفياتية. يُحكى انه كان ضد السينما الناطقة، الى ان بدأت الميوزيكالات الأميركية تجتاح الشاشات

انها خمسينات القرن الماضي، ورينه سيكون أول مَن يضع أسس الفيلم الذي يتخذ من الفنّ مادة نقاش له. منذ البداية، ظهر عنده ميل واضح الى الأدب، في مرحلة كانت الاقتباسات الأدبية سائدة. "هيروشيما حبي"، سيأتي في اللحظة التي سيتحول فيها مسار السينما الفرنسية. في العام نفسه الذي شهد ولادة "الموجة الجديدة"، أي عام 1959، قدّم رينه هذا الفيلم الذي أعدّت له السيناريو مارغريت دوراس. عبر مصير امرأة احبت جندياً مات أمام عينيها، صوّر رينه أشياء كثيرة: بارات، علب ليل، مطاعم، شقق ومحطة. على الرغم من ان الفيلم شكل قمة من قمم ما بات يُعرف منذ نهاية الخمسينات بـ"الموجة الجديدة"، فإن رينه لم يشعر بنفسه قريباً من تلك الموجة

كرت سبحة أفلام كبيرة في الستينات: "السنة الماضية في ماريينباد"، "مورييل أو زمن العودة"، "الحرب انتهت"، "بعيداً من فيتنام"، "أحبك أحبك". في "السنة الماضية..."، استعان بنصّ كبير لبابا "الرواية الجديدة" ألان روب غرييه. في قصر من القصور ذات الهندسة الباروكية، يجزم رجل بأنه التقى العام الماضي امرأة متزوجة. يأتي الفيلم مثقلاً بتأثيراته الأدبية ومشبعاً بأرث اللغة، اللغة الفرنسية. لكن، كما عهدناه دائماً، يقتل رينه الأدب بالأدب. انه واحد من الذين تنجو سينماهم من الأدب على رغم الحضور المكثف للأخير

فيلماً بعد فيلم، بلور رينه تقنيات تصويرية خاصة، وطريقة في العمل يمكن نعتها بـ"السقراطية"، أي انها قائمة على الانتظار والترقب وعدم فلش جميع الأوراق على الطاولة دفعة واحدة. ينبغي التذكير بأنه ظل يعمل، مع فريق واحد، في السنوات الأخيرة، علماً انه يعزو هذا الشيء الى المصادفة. التعاون مع الكاتب الاسباني الكبير خورخي سمبرون أتاح له عام 1966 انجاز واحد من أهم اعماله: "الحرب انتهت". سمبرون كتب له السكريبت. العنوان مستوحى من الملف الشهير الذي اعلن فرنكو من خلاله نهاية الحرب الأهلية الاسبانية عام 1939

على مدار كل هذه السنوات، أبدى رينه اهتماماً كبيراً بتيمة الذاكرة وتماسك العدائية في المجتمعات، التي تقودنا عنده الى نوع من تدمير ذاتي وانتحار. هذا كله جعل سينما رينه متفوقة فكرياً وثقافياً على سينما كثر من معاصريه، هواجسها الحرية وعلم النفس والظروف الثقافية الاجتماعية التي تؤثر في خيارات الفرد

لم تبقَ تجربة التعاون بين رينه وسمبرون يتيمة، اذ تولّى سمبرون تأليف "ستافيسكي" (1974)، واحد من أفضل أفلامه، مع بلموندو بطلاً. تطرق نصّ سمبرون الى شخصية المغامر ستافيسكي وتعمّق في ابعادها النفسية. ثم فجأة، عام 1980، اختار رينه المنحى الاختباري المتطرف في واحد من أكثر افلامه تجريباً: "عمّي الأميركي". من خلال الغوص في نظريات لابوري في السلوك البشري، سعى رينه الى اثارة الضحك. في التسعينات، انفتح على تجارب أخرى، نافضاً الغبار عن سينماه. محدثاً الاجماع المنشود سواء عند الجمهور أو النقاد. مع "تدخين/ لا تدخين"، تطرق الى المسرح المصور، مستعيناً بممثلين هما انييس جاوي وجان بيار بكري لأفلمة النصّ المسرحي لألان أيكبورن. على رغم بلوغه التسعين، لا يهدأ له بال. احزروا ماذا عنون فيلمه الجديد؟: "لم تشاهدوا شيئاً بعد". بات يمشي كالأحدب، ظهره ملتو تحت ثقل السنوات وحكاياتها، لكنه لا يزال في ذروة العطاء والشباب

hauvick.habechian@annahar.com.lb

النهار اللبنانية في

18/05/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)