(التخشيبة) هو الفيلم الثالث في مشوار عاطف الطيب السينمائي. ولأنه كذلك،
فقد كان التساؤل المطروح في الوسط الفني.. ما الذي سيقدمه هذا المخرج الشاب
بعد ذلك النجاح الذي المدوي الذي حظي به فيلمه السابق (سواق الأتوبيس)، ومن
الطبيعي في أن النجاح قد يكون ـ في الغالب ـ دافعاً للتردد والحيرة قبل
إتخاذ الخطوة التالية، فبعد النجاح هناك الرغبة في الحفاظ على المستوى
الفني وتأكيد الثقة، وفي أحيان كثيرة يتحول هذا النجاح الى لعنة. فقد كان
تحدياً كبيراً لعاطف الطيب، حيث أنه لم يستسلم لذلك التردد والحيرة، وقدم
(التخشيبة). هذا بالرغم من أن هذا الفيلم قد جاء أقل مستوى من فيلم (سواق
الأتوبيس)، وكان المأخذ أساساً على السيناريو.
يقول الطيب ، في هذا الصدد: (...تحمست »للتخشيبة« وإنتهى عام الحيرة، وعدت
للعمل بحب كما بدأت.. وكم أتمنى ألا يعقد النقاد أو الجمهور مقارنة بين
»سواق الأتوبيس« وكل فيلم جديد لي.. لأن كل فيلم يعبر عن مرحلة يعيشها
المخرج والكاتب.. وكل فيلم له مقاييسه وظروفه وكل ما أتمناه أن يحاسبوني
على مدى إرتباط أعمالي بالواقع ومدى تعبير الكاميرا وحركات الممثلين عن
الموضوع الذي يطرحه الفيلم . وأعتقد بأن »التخشيبة« قد توافرت فيه هذه
العناصر...).
يحكي فيلم (التخشيبة) عن الطبيبة (نبيلة عبيد) التي تجد نفسها متورطة في
تهمة لا أساس لها من الصحة، إنطلاقاً من حادث سيارة بسيط جر عليها مصائب لم
تتوقعها تماماً. لذلك تمضي أيامها بين أقسام الشرطة وأجهزة الأمن وغرف
المستشفيات، منتظرة أن ينجح محاميها (أحمد زكي) في إثبات براءتها. وفي هذه
الأيام العصيبة، تشهد الطبيبة تهاوي القيم الإجتماعية والمباديء الإنسانية
من حولها، فنراها تندفع للإنتقام من الرجل سبب الفضيحة (حمدي الوزير).
الفيلم في نصفه الأول ذو إيقاع سريع موحٍ ومناسب للتفاصيل التي تتعرض
بالنقد للإجراءات الروتينية التي تتعرض لها الطبيبة داخل قسم الشرطة
وخارجه. فقد تبدت مهارة السيناريست وحيد حامد في تجميعه لأغرب مواد القانون
والإجراءات الحكومية ليصنع منها ما يشبه بيت العنكبوت الذي يلتف حول الضحية
ليزهق أنفاسها. كما نجح السيناريو في الإحتفاظ بعنصر التشويق في بناء
الأحداث، فكان النصف الأول من الفيلم مغلفاً بالغموض والتوتر. فالفيلم لا
ينفي ولا يؤكد ما إذا كانت الطبيبة بريئة أم مذنبة، إنما يدع المتفرج يلهث
وراء الأحداث. إن المتفرج هنا، يبدو مشوشاً، تماماً كالطبيبة والمحامي.
ولكن في سبيل تحقيق هذا الهدف، فقد ضحى السيناريست بالتعمق في جزئيات هامة،
كأن يقترب مثلاً من معانات المحجوزين داخل التخشيبة، فهناك بالقطع نماذج
إنسانية تستحق التوقف عندها. كما أنه ضحى بالتعمق في موقف المجتمع من
إنسانة تجد نفسها فجأة متهمة في سمعتها وشرفها. وإكتفى فقط برسم تلك
الشخصيات الثانوية السطحية التي تعلن موقفها الإجتماعي من الضحية بشكل
متسرع ودون أية مبررات منطقية. وكأن السيناريست قد تعمد بأن يلغي كل هذه
الشخصيات من حول بطلته، حتى تواجه مصيرها بمفردها. كما أن الفيلم قد وقع في
الخلط بين قضيتين، الأولى نقد هذه الإجراءات، والثانية المطالبة بوضع خاص
لهذه المرأة بحكم مهنتها كطبيبة متعلمة و»بنت ناس«. وهذا مما جعل الفيلم
يفقد أرضيته الإجتماعية ليتحول الى قضية خاصة وفردية. ويتأكد ذلك في النصف
الثاني من الفيلم، حيث أصبحت تلك الإجراءات التي أدانها الفيلم في نصفه
الأول، إجراءات سليمة وضرورية بالرغم من تعقيدها.
لقد كان على الفيلم التركيز أكثر على سوء المعاملة داخل أقسام الشرطة، وعدم
الإهتمام في توفير الأماكن اللائقة بالبشر اللذين تلقى بهم الظروف داخل
حجرات الحجز الكئيبة، ويقعون تحت رحمة مسؤولين يتلذذون بإستعراض عضلاتهم
وسلطاتهم.
أما الفيلم في الربع ساعة الأخيرة منه، فقد تحول الى فيلم بوليسي مثير،
يؤكد المنطق الفردي. خصوصاً النهاية التي جاءت غير مقنعة، بل إنها ـ في
تصورنا ـ جاءت لتلبي رغبة الجمهور العريض في رؤية الشر وهو ينال عقابه،
ولكنها درامياً قد أضرت بالفيلم كثيراً وبدت مفتعلة.
بالنسبة للإخراج، فقد تميز أسلوب عاطف الطيب بالبساطة الشديدة في إختيار
زوايا التصوير واللقطات حتى لا تكاد تشعر بوجود المخرج. فقد إنسجم أسلوب
المخرج هنا مع أسلوب السيناريست وتوحدا معاً، فإختلطت رؤية المخرج وإحساسه
الفني بالروح الدرامية للشخصيات الرئيسية والثانوية. إلا أن هذا الإنسجام
لم يمنع في أننا لمسنا نوعاً من التكنيك الجيد، فالمونتاج المتناغم
والمنسجم مع روح الأحداث، وزوايا التصوير والكوادر الفنية الموفقة، والأداء
التمثيلي الجيد من أبطال الفيلم، كلها أمور ساهمت كثيراً في نجاح الفيلم
وإرتفاع مستواه الفني. |