في تعريف واسع وفضفاض لمفهوم (سينما الطريق)..
يمكننا الحديث عن أفلام تتناول "الطريق" من خلال
معاني كثيرة، منها
النفسي والمعنوي، الروحي والفلسفي، الميتافيزيقي
والعلمي.. كما يمكن الحديث عن
البحث عن الذات، عن الآخر، عن عالم خيالي،
افتراضي...
وقد اخترنا مناقشة هذا المفهوم في
أفلام الثمانينات المصرية.. التي أسست لتيار
سينمائي هام في تاريخ هذه السينما.. وهو "تيار
السينما المصرية الجديدة".. هذا التيار الذي قدم
فرساناً أنجزوا
تجارباً وأفلاماً مغايرة لم تعهدها السينما
المصرية من قبل.. تجارب متمردة على ما هو
سائد، استطاع صانعوها التصدي لذلك التيار التقليدي
المسيطر والثورة عليه. أبرز
هؤلاء الفرسان.. محمد خان، خيري بشارة، عاطف
الطيب، داود عبدالسيد.. مع قلة قليلة
آثروا الثورة على التقليد وصنع السينما التي
يعشقونها..!!
في أفلام السينما المصرية
الجديدة، وجدنا إشارات لسينما ذاتية وحميمية، تعكس
قضايا مجتمعية حساسة.. قضايا تهم
المواطن الفرد، لكنها نابعة من تفاصيل مجتمعية
لصيقة بالواقع المعاش.. أفلام نراها تنتمي لمفهوم
(سينما الطريق) الواسع، باعتبارها تدعو للثورة
والتحرر من قيود
مجتمعية.. وتدعو للتغيير، للهجرة والتحول من وضع
معيشي إلى آخر.. وتدعو لنقد الكائن
والبحث عن أسلوب آخر للحياة.. أسلوب يتناسب
والظروف الاجتماعية والنفسية الجديدة
التي طرأت على المجتمع..!!
المتاهة بوصفها طريق:
اللامنتمي تحت عجلة
سيارة
(طائر على الطريق ـ 1981) فيلم للمخرج محمد خان،
تناول من خلاله عالم سائقي التاكسي، لينتقي منه
شخصية فارس (أحمد زكي).. شخصية
تجسدت فيها صفات النقاء والتردد والخجل والجرأة
والتواضع والاندفاع.. شخصية غير
قادرة على الانتماء الشكلي، ورافضة لأية تشكيلات
أو تكوينات جاهزة.. شخصية يعتمل في
داخلها تكتل رهيب من القلق والألم والاكتئاب، رغم
إنها لا تعاني من أية ضغوطات
مادية في حياتها اليومية.
بهذه الصفات والتصرفات، يبرز الفيلم شخصية فارس..
كشاب منطلق غير متصل بالواقع، بل ويعيش عالمه
الخاص والمنفصل لممارسة حريته الشخصية.. جاعلاً من
إنفصاله بديلاً للواقع، ومن هنا تأتي أزمة فارس
والشخصيات التي تتصل به في واقع الفيلم.. وبرغم
التناقضات التي يحدثها الواقع ولاإنتمائية فارس
له، إلا أن الجميع في النهاية يسقط في طريق
المتاهة.
ففارس غير متزوج، ويحاول أن لا يربط نفسه بأحد..
لذا نراه يتهرب من الارتباط بسيدة متزوجة.. لكنه
يرتبط بعلاقة وجدانية عميقة بالفتاة البسيطة
الذكية، التي يلتقي معها في أشياء كثيرة. وبالرغم
من أنه لا يجد نفسه إلا معها، إلا أنه يتردد
كثيراً عندما تفاتحه في الزواج، ويتابع إحساسه
بأنه مجرد طائر محلق ومنطلق، ورافض لأي شكل من
أشكال القيود. ولأن فارس يعيش هذا الواقع، فكان
لابد له أن يخضع لهذا الواقع مهما كانت درجة تمرده
عليه.. حيث نراه في حالة أخرى، حين يدفعه إحساس
غريب، ويتحرك في داخله انجذاب خفي نحو تلك المرأة
المتزوجة.. يتحول فيما بعد إلى عشق مجنون. ليجد
فارس نفسه في موقف جديد عليه، يشده إلى أرض
الواقع، خصوصاً بعد أن تثمر هذه العلاقة جنيناً في
أحشاء حبيبته.. يجد نفسه سلبياً وعاجزاً عن القيام
بأي تصرف إزاء طبيعة وضعه الجديد هذا.
يعيش فارس حالة من التردد والقلق
والتحفز، ويحاول مقاومة تلك القوى الخفية التي
تشده للواقع. وعندما يتخلى عن
سلبيته وتهربه من مواجهة الواقع، يكون كل شيء قد
انتهى.. تكون نهاية فوزية بانتحارها، ونهاية فارس
اللامنتمي تحت عجلة سيارة.
المال بوصفه طريق
حقائب محشوة وحلم مزيف
يؤسس محمد خان في فيلمه (نصف أرنب ـ 1982)،
مفهوماً أخراً للطريق.. وهو المال، كقوة مسيطرة
على سلوك الفرد في بنية المجتمع الجديد، حيث
يتناول رحلة حقيبة تحوي نصف مليون جنيه، منذ
خروجها من البنك وحتى ضياعها في
النيل. ومن خلال هذه الرحلة تبرز لنا أحداث مثيرة
وشخصيات كثيرة أعطت للفيلم طابعه
البوليسي.
فنتابع شخصية يوسف، الموظف البسيط المليء بالأحلام
الشبابية، والواقع تحت ضغوط وظيفته وطموحات
خطيبته، الأمر الذي يدخله في طريق الجريمة، ليشكل
طريقاً آخراً للثروة. فيوسف يعمل في أحد البنوك
وليس له دخل سوى راتبه الشهري. متخرج من الجامعة
منذ خمس سنوات ويعمل على توفير عش
الزوجية مع خطيبته التي تحلم بالشقة التي تظهر في
إعلانات التليفزيون.
هذا الموظف.. نراه يستلف من
زميله جنيه واحد ويرده أخر الشهر، بينما تمر تحت
يده كل يوم ملايين الجنيهات. يتورط
في إحدى عمليات عصابة للمخدرات بطريق الخطأ،
وتدفعه رغبة خفية بالدخول في مغامرة
خطرة ومجنونة من أجل نصف مليون جنيه. فهو يعاني من
الكثير من الضغوط الاقتصادية
والاجتماعية، ويعيش حالة نفسية غير مستقرة من جراء
ما يشاهده ـ على صعيد أسرته فقط
ـ من تحولات سلوكية لمجارات الوضع السائد في
المجتمع ككل. فوالدته تصر على سلك طرق
ملتوية لطرد السكان الحاليين وزيادة الأجور،
وتوافق على زواج ابنتها خريجة كلية
الآداب من شاب ميكانيكي، ضاربة عرض الحائط
بالتكافؤ العلمي والفكري بين الزوجين، في
سبيل المال والثروة.
أما رفاعي (سعيد صالح) فهو عضو
صغير في العصابة ومضحوك عليه، وظيفته القيام
بعملية التبادل بين الفلوس والمخدرات،
دون معرفته بأنه يحمل الملايين ويأخذ بالمقابل
جنيهات قليلة. هو أيضاً دفعته ظروفه
الحياتية الاقتصادية الصعبة للدخول في هذه اللعبة
القذرة والخطرة. أما في الجانب
الآخر فيوجد الرؤوس الكبيرة في العصابة، الطبقة
الجديدة التي أثرت بطرق غير مشروعة
وبوسائل وأساليب مشبوهة، وأبرز هذه الأساليب ظاهرة
الاتجار بالمخدرات، تجارة تدر
الملايين، أو بالأحرى الأرانب بلغة هؤلاء
الانفتاحيين، وعلى رأسهم سراج منير (يحيي
الفخراني).
يسجل محمد خان في فيلمه (نصف
أرنب)، ذلك التحول الخطير الذي حصل لتصرفات الناس
وأسلوبهم في الحياة، فبعد أن كان
هدفهم هو الوصول إلى حياة إنسانية كريمة، أصبح
الآن الوصول إلى الحقائب المحشوة
بالأوراق النقدية والجري وراء الربح السريع والحلم
بالثروة المزيفة، هو ما يسعون
إليه اليوم. والفيلم لا يعالج هذه الفكرة بطريقة
الوعظ والإرشاد المباشر، وإنما
يبرزها من خلال مشاهد قصيرة وسريعة متفرقة هنا
وهناك بين ثنايا الفيلم.
اللامبالاة بوصفها طريق
بين الحلم والواقع والذهاب إلى الجحيم
في باكورة أعماله السينمائية الطويلة، يقدم المخرج
خيري بشارة في (العوامة 40 ـ 1982)، شخصية أحمد
الشاذلي، مخرج أفلام تسجيلية، يحلم بتقديم فيلم
روائي طويل، إلا أن ظروفه المحيطة لا تساعده
لتنفيذ حلمه هذا.. ونراه يعيش حلماً دائماً
بالتغيير، فهو ينتمي لجيل ممزق فقد الكثير من
حماسه والتزامه الثوري، وفقد كذلك القدرة على
مواجهة الواقع بشجاعة، ففضل الاستسلام.. مدعماً
بإحساس آخر أصعب هو اللامبالاة التي يحملها معه
ويصبغها على كل تصرفاته.
ومن خلال موضوع الإختلاس وقضية العامل عبدالعاطي،
تزداد حدة الصراع داخل أحمد الشاذلي، ويصبح رغماً
عنه طرفاً فيه، بل مجبراً على اتخاذ موقف.. ولم
يكن بالأمر السهل عليه، خصوصاً أن الفيلم يلقي
الضوء على تاريخه وأحلامه وعلى علاقاته بمن حوله..
فأحمد الذي ترك الريف ليتلقى تعليمه في القاهرة
يراوده شعور دائم بأن براءته قد سرقت،
عندما ترك مكان نشأته.. فهو يرفض السكن في قلب
القاهرة ويرفض أن ينصهر فيها.. نراه
يسكن في عوامة على النيل، تجسيداً لتلك الهامشية
التي فرضت على جيل كامل ودفعته إلى
الاستغراق في اللامبالاة.
في مقابل شخصية أحمد اللامبالية، هناك شخصية وداد
خطيبته، التي تعمل بالصحافة وتبدو أكثر إيجابية
منه.. فهي المرأة الجديدة المثقفة المتحررة
والملتزمة في نفس الوقت، والتي ترفض أن تكون
تابعاً للرجل بل نداً له. وهي أيضاً
نقيض النموذج النسائي الآخر الذي يقدمه خيري
بشارة.. نموذج المرأة الضائعة في شخصية
سعاد (ماجدة الخطيب)، الوجه النسائي لأحمد
الشاذلي، فهما ينتميان إلى الوسط الريفي
الذي يعيش تمزقاً بين قيم القرية وقيم المدينة.
من خلال علاقات أحمد الشاذلي بمن حوله، تتجسد
الأزمة في داخله.. بالرغم من وجود بقية شجاعة
قديمة يمتلكها، إضافة إلى الوعي الفكري الذي يتحلى
به.. يتوضح هذا في المشهد الأخير، عندما يعلن أحمد
موقفه الرافض لما يدور وإيمانه بأن الحل لن يكون
بعمل أفلام عن قضية مقتل عبدالعاطي، وإنما عن دودة
البلهارسيا التي تعيش في نخاع الفلاح المصري.
يناقش الفيلم في مجمل أحداثه.. أزمة جيل بأكمله..
بل ويدينه بشدة من خلال جميع تلك النماذج البشرية
السلبية التي قدمها بجرأة.. مصراً على عدم خلق أي
تعاطف مع شخصياته لدى المتفرج.. باعتبار أن
المتفرج لا يجب أن يكون سلبياً، بل عليه أن يحكم
على هذه الشخصيات ويرفض سلوكها.
الصراع بوصفه طريق
المرور على معسكر الشرفاء
في فيلم (سواق الأتوبيس ـ 1982)، نحنن أمام شخصية
ندر تناولها في السينما المصرية.. شخصية حسن..
الشاب الذي أنضجته أربع حروب خاضها
بالتوالي، حرب اليمن وحرب 67 ثم حرب الاستنزاف
وحرب 73. وبالتالي فهو شاب عاش أجمل
سنوات عمره بين البارود والنار يواجه الخطر في كل
لحظة. وبعد عودته إلى أهله، كان
عليه أن يخوض حرباً أخرى حياتية. إنه الآن متزوج
من الفتاة التي أحبها وأحبته (ميرفت أمين)، بالرغم
من معارضة والدتها. وكانا قد تعاونا لتوفير حياة
سعيدة مع
ابنهما.
لكن.. هل انتهت المعارك بالنسبة
لحسن؟ بالطبع لا.. فهناك أشرس معركة قدر لحسن أن
يخوضها.. إنها معركة أسرية تدور
بينه وبين أخواته البنات وأزواجهن. فورشة الأخشاب
الخاصة بوالده الحاج سلطان (عماد
حمدي) على وشك البيع في المزاد العلني، فالكل يريد
الاصطياد في الماء العكر، حتى
زوجة حسن. صحيح بأنه ينجح في تدبير المبلغ المطلوب
لمنع البيع، بعد كفاح مرير مع
الجميع وبمساعدة رفاقه في الحرب، إلا أن ذلك لا
يتم إلا بعد فوات الأوان.. أي بعد
وفاة الوالد.
الفيلم يبدأ بمشهد استهلالي، يظهر
فيه سواق الأتوبيس حسن (نور الشريف)، وهو يتنبه
لحادثة سرقة في الأتوبيس، فيهم
بمطاردة اللص، ولكنه يتوقف لحظة ويتابع السير بلا
مبالاة، تماماً مثل الآخرين. ونهاية الفيلم ـ
أيضاً ـ تكون بمشهد مشابه لحادثة مشابهة، إنما
موقف حسن يتغير هنا،
ويصبح أكثر جرأة وضراوة، إذ يقفز من مقعده ليطارد
اللص حتى يقبض عليه. وبكل الألم
والمرارة والغيظ الذي يعتمل في داخله، ينهال على
اللص باللكمات وهو يلعنه ويلعن
الآخرين، في صيحة غضب مدوية.
نرى كيف أن حسن قد خاض صراعاً
شخصياً للمحافظة على القيم الأخلاقية والتقاليد
الاجتماعية الأصيلة، ومحاربة ما
أفرزته مرحلة الانفتاح من قيم استهلاكية. وهذا ما
جعله يتحول إلى إنسان إيجابي عندما يرى حادثة
السرقة في نهاية الفيلم، حيث يطارد اللص هذه
المرة، ويصرخ في
المتفرج ليقول بأن التفسخ والفساد الاجتماعي الذي
يعيشه المجتمع هو نتاج سلبيتنا
جميعاً.
نرى بأن الفيلم من خلال أحداثه السريعة، يتخذ
الصراع طريقاً للخلاص، ويقدم لنا صراعاً وحرباً في
معركة اجتماعية خاضها حسن بكل جوارحه وهمومه،
معركة حقق من خلالها انتصارا رئيسياً، حيث اكتشف
فرسان المعسكر الآخر.. معسكر الشرفاء،
رفاق الحرب القدامى، والذين تشتتوا كل منهم في
مكان يبحث عن رزقه. إنما حين التقوا
جمعتهم الذكريات في مشهد بالغ الرقة والشفافية،
مشهد يتجمع فيه رفاق السلاح في نزهة
خلوية عند سفح الهرم.. فهم جيل من الشباب أعطى
وضحى وعاش لحظات البطولة والانكسار، وجمعهم المعدن
الأصيل، الرجولة والشهامة.
نحن هنا أمام فيلم ريادي، يحدثنا عن الأشياء
العادية التي يتصور البعض بأنها ليست موضوعاً
للسينما. ثم
أن الفيلم قد تحدث عنها بمرارة وبوعي وصدق وحرارة،
دون الوقوع في المباشرة. فيلم يدين التخاذل ويدعو
إلى الصراع المستمر ضد كل السلبية واللامبالاة
التي حلت بهذا المجتمع.. فيلم ينتقد بقوة ذلك
الخراب الذي حل بالإنسان المصري العادي في عصر
الانفتاح،
ويتناول ذلك التفكك الأسري والتفسخ الأخلاقي إزاء
التغير المفاجئ في العلاقات
الاجتماعية في ذلك العصر.
الصداقة بوصفها طريق
ثمة فقد فادح باتجاه الرفاهية
في باكورة أفلامه الروائية (الصعاليك ـ 1984)،
يقدم
المخرج داود عبدالسيد قصة صداقة حميمية وساخنة
جداً، بل آسرة وحزينة.. صداقة بين صعلوكين، صلاح
(محمود عبد العزيز) ومرسي (نور الشريف).. يعيشان
حياة اللامبالاة
والصعلكة، ويمران بمراحل تصاعدية في السلم
الاجتماعي إلى أن يصلا إلى عالم الصفقات
والمال. مستعرضاً حركة المجتمع المصري وما صاحبها
من تغيرات اقتصادية واجتماعية، حولت البعض من
صعاليك إلى أصحاب ملايين.
يقترح علينا عبدالسيد الصداقة كطريق لمواجهة مجتمع
الصفقات والملايين.. ويحاول البحث عن المنطق
النفسي والاجتماعي في تصرفات شخصياته.. كما استطاع
الكشف عن ما يعتمل في داخلها من الحب والاشتهاء
والندم أو الخيانة والجشع. كل ذلك من خلال عرض
واقعي صادق لحياة
صعلوكيه، في محاولتهما تأمين احتياجاتهما
المعيشية، التي تبقيهما أحياء بواسطة أي عمل شريف
(الشيالة، السياقة، مسح السيارات وتنظيفها
والمناداة على الركاب)، أو غير
شريف (النصب، السرقة، أو العيش بقوة الذراع).
في النصف الأول من الفيلم، نجح
عبد السيد في تجسيد معنى تلك الصداقة بين صلاح
ومرسي، في مرحلة الفقر والتشرد
والصعلكة، وذلك من خلال مشاهد قوية وقصيرة ذات
إيقاع سريع، وبشكل عفوي وواقعي ندر
تناوله في السينما المصرية.
أما النصف الثاني من (الصعاليك)،
فقد جاء مختلفاً في أسلوب الطرح والمعالجة،
وفاقداً لبعض قوة التأثير والجمال. هنا
يتابع عبد السيد مسار شخصياته، مقدماً لنا تفاصيل
كثيرة ومعقدة. فالصديقان الآن يعيشان فتوراً
وتوتراً في علاقتهما، تلك العلاقة التي بدأت تفقد
بريقها الأول. فقد
وصل عبد السيد بالفيلم إلى المنطقة الحرجة في
علاقة صلاح مع مرسي، أو بالأحرى إلى
ثنائية العقل والقلب أو العقل والمشاعر.
يصل الفيلم إلى النهاية
المأساوية، نهاية العلاقة الحميمية بين الاثنين..
نهاية لحياة صلاح الذي رفض الخضوع
لابتزاز مافيا الانفتاح. وهي بالطبع ثمناً غالياً
لاحتفاظ مرسي بكل ما وصل إليه.
إنها نهاية للفيلم، لكنها بداية جديدة لصعلوك
آخر.. نهاية تعني الكثير وتنقل واقعاً
قائماً.. إنه عالم الصراع في دنيا المال.
وعبدالسيد هنا لا يعبر عن هذه الثنائية
(العلاقة) كأمر طبيعي لا مفر منه، وإنما يعتبر أن
الطبيعي هو عدم وجود هذه الثنائية
واستمرارها، حيث أن نهاية الفيلم هي النتيجة
الوحيدة لهذه الثنائية على أرض
الواقع.
إن فيلم (الصعاليك) ، كتابة
وإخراجاً، يقدم نظرة جديدة للعلاقات الشخصية..
نظرة متحررة من كل حكم وأفكار
مسبقة.. نظرة غير أخلاقية، بمعنى أنها لا تنجر
وراء الأحكام الأخلاقية على السلوك
البشري، بل تبحث وتتفهم الدوافع. فالشخصيات التي
يقدمها عبدالسيد، يلفها بالحنان
دون التقاضي عن نقاط ضعفها. وفي منأى عن ثقل فكرة
الخطيئة، يلتقط نماذج شفافة تحيا
مشاعرها بقوة.. بتطرف، تحترق من ركضها اللاهث وراء
شعاع سعادة
ورفاهية.
الهامشية بوصفها طريق
طريقان متوازيان.. الشخص والمجتمع
في فيلم (مشوار عمر ـ 1985) يتناول محمد خان
التحولات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع،
وتأثيراتها النفسية على الإنسان
المصري، بأسلوب سينمائي جديد وخلاق وغير مباشر في
نفس الوقت.
يأخذنا محمد خان في مشوار مليء
بالمفاجآت، استغرقت أحداثه ثمان وأربعون ساعة فقط،
مع بطله عمر (فاروق الفيشاوي)،
ذلك الشاب الذي يملك كل شيء دون أن يؤدي أي شيء.
فبالرغم من أنه يحمل مؤهلاً
جامعياً إلا أنه لا يجد ضرورة لأن يعمل، معتمدا
علي ثروة والده تاجر المجوهرات في
تأمين حياة رغدة وسهلة له. ولهذا نراه شاباً
مدللاً ومستهتراً وغير مسئول، لا يخطط
للوصول إلى هدف معين ويعيش حياته بلا معنى بعيدة
عن الاستقرار الاجتماعي والنفسي.
فهو يملك سيارة فخمة وثمينة اشتراها له والده ..
هذه السيارة بشكلها وطرازها الأخاذ
تتحدى كل من يراها، وتترك في عيونه نظرة هي مزيج
من الحسد والإعجاب، وهي بالطبع جزء
لا يتجزأ من شخصية عمر، لا يعيش إلا بها ولها، ولا
يتركها إلا ليعود إليها. فكل أحداث الفيلم تسير
بشكل متواز معه ومعها، لذلك تظل ماثلة أمامنا
دائماً حتى عندما
تسرق، وذلك عندما نلاحظ التغيير المفاجئ الذي يحدث
لشخصية عمر بسبب فقدها، وكأنما
يفقد بذلك كل مكونات شخصيته.
في البدء يلتقي بشاب قروي اسمه
عمر أيضاً (ممدوح عبدالعليم)، شاب بسيط فقير
وساذج، ليست لديه طموحات من أي نوع،
مستسلم لقدره بالعمل في محطة بنزين حيث يلتقيه عمر
الأول عندما ينفذ بنزين سيارته.
لكنه يقبل بسرعة عرض عمر له بمصاحبته في مشواره
وتوفير عمل مناسب له في القاهرة،
وذلك رغبة منه في تحقيق حلمه بالتخلص من حالة
الفقر والواقع الصعب الذي يعيشه، وذلك
رغم معارضة والده الفلاح لفكرة السفر. كما يلتقي
عمر بسائق الشاحنة (أحمد
عبدالوارث) الحرامي الحاقد على مجتمعه، هذا
المجتمع الذي علمه أن يكره ويقتل ويتحدى
كل القوانين. أيضاً هناك نجاح (مديحة كامل) المرأة
التي دفعتها ظروفها إلى
الانحراف.
ومع نهاية الفيلم نرى عمر وقد
قذفت به ظروف مشواره في مكان مهجور، بعد أن نجح
سائق الشاحنة في سرقة المجوهرات،
وعاد عمر الثاني إلى مكانه الطبيعي وهو العمل في
الأرض، بعد ضياع أحلامه وتبخرها. وواصلت نجاح
مسيرتها الخاصة جداً. كما لا يفوتنا أن نشير إلى
أن محمد خان قد جعل من نجاح وعمر الثاني شخصيتين
مساندتين للشخصية المحورية، حتى يبرز ما في أعماق
الأخيرة
من متناقضات سلوكية أخلاقية ونفسية. وهو لا يتخذ
موقفاً مباشراً من هاتين
الشخصيتين، فهما مناسبتان لظروف ذاتية وموضوعية،
ولكنه يعرض مبرراتهما بشكل صادق
وموضوعي، تاركاً للمتفرج الحرية في إصدار الحكم
عليهما.
قضية الفيلم هي قضية
الشباب الفاقد لكل الأحلام والطموحات والذي ينحدر
من سلالة الطبقة البورجوازية الجديدة، التي ساهمت
بشكل كبير في بروز المجتمع الاستهلاكي. ومن ثم
ظهرت ثروات مادية ضخمة وخيالية.. ثروات تحطمت
فوقها كل أحلام وطموحات أبناء هؤلاء الانفتاحيين
الأثرياء. حيث لم يعد هؤلاء الشباب في حاجة إلى
الحلم بالحصول على سيارة مثلاً.. أو
الحاجة للدخول في أية مشاريع استثمارية لضمان
المستقبل، فكل شيء سهل وميسور وفي
متناول أيديهم. ومع ضياع الحلم والطموح لدى هؤلاء
الشباب، أصبحوا يفتقدون لأي هدف
حقيقي واضح، وانعدمت في داخلهم روح تحمل
المسئولية، كما أصبحوا يعيشون على هامش هذه
الحياة.
الحرية بوصفها طريق
حلم الفقراء يسكنه الوحش
في (أحلام هند وكاميليا ـ 1988) يكشف
محمد خان عن حياة الناس البسطاء والمسحوقين
وصراعهم من أجل حياة أفضل تحت وطأة
مجتمع المدينة الكبيرة. حيث يتناول عالم الشخصيات
العادية التي تعيش بيننا ونتعامل
معها يومياً لكننا لا نعرفها جيداً ولا نلاحظ فيها
ما قدمه هو خلال فيلمه هذا..
يتناول عالم الخادمات، بما يحتويه من تفاصيل
وإيحاءات عميقة صادقة، تختلط فيها
المرارة بالبراءة.. وحشية الفقر وقسوة العيش
بعفوية الكدح اليومي وبراءة الكادحين وطببتهم
الصادقة..!!
هند (عايدة رياض) أرملة ريفية
بسيطة ساذجة وحالمة، نزحت إلى المدينة بعد وفاة
زوجها. تبحث عن الاستقرار وتعمل
كخادمة قنوعة في البيوت، لإعالة أمها وأخواتها.
هذا بالرغم من سخطها على خالها الذي
يبتزها ويحصل على أجرها بحجة توصيله لوالدتها.
تعتقد بأنها لا تصلح إلا أن تكون ست
بيت، لذلك نراها تجري وراء حب نقي لإنقاذ نفسها من
المهانة، وتحقيق حلمها بانتشالها
من حضيضها وتكوين أسرة سعيدة.
وكاميليا (نجلاء فتحي) امرأة
مطلقة تعيش مع أخيها، وتعمل هي مضطرة في خدمة
البيوت لتعوله هو وأسرته. ولكنها
بالمقابل ذات شخصية نشطة ومتمردة يمتزج فيها النبل
والطهارة بحالة من البؤس وشظف العيش.. لا تكتفي
بما لديها وتبحث عن الأفضل دائماً. تحلم بحياة
هادئة نظيفة
وميسورة تنقلها من الحضيض الاجتماعي والعيش في
حجرة بمفردها والتمتع بحريتها. تضطر للزواج مرة
أخرى
من رجل متكرش وبخيل بسبب الحاجة الملحَّة إلى
المال. ولأنها تملك طاقة هائلة من التمرد على
واقعها، فهي تفكر في الهرب من بيت الزوجية، والذي
تحولت فيه من خادمة بأجر إلى خادمة بدون أجر،
مباحة
الجسد لزوجها الذي لا تحبه وتضطر لسرقة أمواله
لتشتري حريتها.
أما عيد (أحمد زكي) فهو ذلك الشاب
الذي يعاكس هند ويشتهيها في البداية، ولكنه يرتبط
معها بعلاقة حب ليتزوجها فيما
بعد. إنه ابن الحارة الشعبية.. الحرامي والبلطجي
الذي لا يتوانى عن فعل الكبيرة والصغيرة والاحتيال
بشتى الطرق حتى يعيش.. لا تعوزه الظرافة ويقظة
الضمير رغم الفجاجة الممزوجة بالبلاهة حيناً
والبراءة حيناً آخر. ولأنه يعيش دائماً في الفضاء
الاجتماعي المتعدد الأطراف، نراه لا يستقر في مهنة
واحدة، ويعيش كل يوم في مكان
مختلف. نراه يعيش عدم استقرار نفسي واجتماعي
لشعوره بأن كل تصرفاته إنما ناتجة عن
عدم وعي ودراية، وكأنما هناك قوى خفية تدفعه إلى
فعل كل شيء.. نراه يردد دائماً (مسيرها تروق
وتحلى).
في فيلم (أحلام هند وكاميليا)،
يقدم لنا محمد خان مجتمع القاهرة الحقيقي من خلال
خادمتين ولص ظريف.. القاهرة التي
تحتل موقعاً هاماً وبارزاً من أحداث الفيلم،
وتتحكم في مصائر الشخصيات.. القاهرة
بشوارعها وأزقتها وبكل ضجيجها وفوضويتها. ويقدم في
نفس الوقت فيلماً بسيطاً وممتعاً
تتداعى فيه الأحداث مع الشخصيات، التي انتقاها
بحذر وذكاء شديدين.. يقدم لنا فيلماً
عن العلاقات الاجتماعية المفككة في المدينة،
وفيلماً عن الحرية الشخصية. فشخصيات
الفيلم لا تنتمي إلى طبقة مستقرة اجتماعيا
وإنتاجياً، وبالتالي فهي لا تمثل إلا
ذاتها، ولا تربطها بالآخرين إلا علاقات تحكمها
عوامل معيشية قائمة أساساً على المصلحة والمنفعة
المشتركة.
الفساد بوصفه طريق
بوصلة العنف والكراهية
في (فارس المدنية ـ 1991) يتناول محمد خان
عالم تجـارة الـعملـة
وغسيل الأموال من الأعمال غير المشروعة،
ويدينها ويكشف عن ذلك الزيف والكراهية التي هي
الوقود الضروري لطريق الفساد.
يأخذنا محمد خان في فيلمه هذا مع بطله الشاب الذي
خرج من قاع المدينة، وبدأ حياته كسائق لسيارة أجرة
أشتغل في تجـارة الـعملـة
وتـهريـب الدولارات، واستطاع أن يغسل ثروته التي
تضخمت من الأعمال غير المشروعة،
بأن بدا يشتغل في مشروعات نظيفة، فأصبح يتاجر في
اللحوم واشترى ثلاجة ضخمة وشارك ونصف مصنع للجلود،
وغدت له شقة فاخرة في القاهرة وفيـلا جميلـة في
الإسكندرية، كما
ساهم بخمسة ملايين جنيه في إحدى شركات توظيف
الأموال.
تبدأ أحداث الفيلم، عندما يتلقى
فارس في صباح أحد الأيام، مكـالمة تليفونية على
جهاز التسجيل، يطلب فيها ادهم
الوزان (عبد العزيز مخيون) من فارس أن يسدد له
الدين الذي عليه خلال خمسة أيام ـ هي زمن أحداث
الفيلم ـ لأنه في حاجة إليها لتمويل صفقة لحوم،
نعرف فيما بعد أنها صفقة
مخدرات، مشيرا من طرف خفي إلى القرار الذي تصدر
صحف صباح أحد أيام شهر يونيو 1988،
والذي يقضي بالتحفظ على شركـات تـوظيـف الأموال
وتجميـد أرصدتها. ذلك القرار الذي
طال أموال فارس أيضا.
هنا يبدأ فارس رحلته/ معركته لجمع الدين
الذي عليه. فيبدأ ممتطيا سيارته
الفارهة، مديرا معركته عبر هاتف السيارة، ويناور
لاسترداد بعض المال ممن يدينون له،
وبيع معظم ممتلكاته العلنيـة والسرية، وتصفية كل
تعاملاته، ليبدأ من جديد من نقطة
الصفر، لا يملك سوى قناعته الخاصة بأنه لن يتنازل
عن شهامته وفروسيته المتبقية
لسداد هذا الدين.
ومن خلال هذه الرحلة/المعركة، يكشف الفيلم عن ذلك
العالم المليء
بالفساد والعنف والكراهية.. يكشف عن عالم لا وزن
فيه للعواطف أو القيم، تحكمه فقط
المصالح الخاصة، ويتحول فيه الأفراد إلى وحوش
يلتهم كبيرهم صغيرهم في نشوة وتلذذ..
عالم مافيا التهريب والمخـدرات وتجـارة العملـة
واللحوم الفاسدة والصفقات المريبة وشركات توظيف
الأموال المشبوهة.. عالم يتسيد فيه ادهم الوزان،
أحد كبار رجال هذه المافيا، الذي يدير شبكة
أخطبوطية تمتد أذرعتها لتطال كل شئ يعبث بالاقتصاد
والسياسة، ولا يتورع عن سحق فارس بأعصاب هادئة من
اجل الملايين المطلوبة.. مستخـدما
أصدقاء فارس أنفسهم، حين نراهم يبيعونه الواحد تلو
الآخر لحساب الوزان.
هذه الشخصيات مع أخرى مثلها، تمثل
مزيجا غريبا ومدهشا، جسدها محمد خان في (فارس
المدينة)، فهو فيلم حاشد
يلهث بين الشخصيات والأحداث.. تعبيرا عن عالم لاهث
يجري وراء المال والربـح السريع.. ولا تكاد تلتقط
أنفاسك إلا مع مشهد النهاية.. حيث يستقر فارس، بعد
سداد
دينه، في هذه الشقة المتواضعة بالحي الشعبي بجوار
حبيبته هدى وصديقه العجوز
القرنفلي، ليبدأ صفحة جديدة.
الشفافية
بوصفها طريق
رصد حكايات وحالات خاصة
يتناول فيلم (إشارة مرور ـ 1995) رصداً جميلاً
وجريئاً لحالات مفعمة بالحيوية والمعاناة، ليؤكد
بأن الشفافية في العلاقات الاجتماعية تشكل طريقاً
سلساً للحياة الإنسانية المفتقدة في مجتمع مليء
بالمتناقضات.
يأخذنا خيري بشارة في فيلمه (إشارة مرور) في رحلة
ممتعة، وفي يوم غير عادي، إلى مدينة القاهرة
الصاخبة والمزدحمة.. وفي
موقع إحدى إشارات المرور الكثيرة التي تمتلئ بها
هذه المدينة الكبيرة. والمناسبة،
هي مرور موكب رسمي في أحد الشوارع الرئيسية. وحادث
مرور عند الإشارة في الطريق الفرعي المحاذي والذي
من المفترض أن يكون احتياطياً للشارع الرئيسي..
عند إشارة
المرور هذه، تتوقف حركة المرور تماماً، وتبدأ
الحكايات.. أنماط مختلفة من البشر
تتجمع في وسط الزحمة، كل له حكايته. حيث ينجح
المؤلف في انتقاء شخصياته بدقة وعناية، ليصيغ
حولها حكايات، منها المضحك الساخر، ومنها المأساوي
الميلودرامي.
فهناك سوسو أو سمية (ليلى علوي) الممرضة الباحثة
عن الشهرة من خلال هوايتها للغناء. وهناك أيضاً
ريعو (محمد فؤاد) كبير المشجعين وعامل البناء الذي
يبحث عن والد خطيبته شرطي المرور، فيقع في حب سوسو
الممرضة ويتفقان على الزواج. وكذلك الموسيقي الشاب
نبيل (عماد رشاد) الذي يعاني حادث غريب تعرض له في
صباح نفس اليوم. أما المدرس زكريا (سمير العصفوري)
الذي حملت زوجته نعمات (إنعام سالوسة) بعد خمسة
وعشرون سنة زواج. فيكاد أن يصاب بالجنون لمجرد
إحساسه بأنه سيفقد ابنه الوحيد. وحكاية رجل
الأعمال علي ظاظا (عزت أبو عوف)، المتجه إلى
المطار لإنهاء صفقة رابحة والذي على علاقة عاطفية
بسكرتيرته وزوجته على علم بذلك ومصرة على الفوز
به. وضابط المرور (سامي العدل) الذي يكتب الشعر
ولا يملك سيارة خاصة، والذي يريد أن يخلي الشارع
بأسرع ما يمكن تفادياً لأي ارتباك في حركة المرور
في الشارع الرئيسي. وكذلك المراهق المهووس
بحبيبته، والذي يخجل من البوح بمشاعره. وعندما
تواجهه وتطلب منه الكف عن ملاحقتها، يصارحها بحبه
ومعرفة مشاعرها تجاهه، حيث يخرجان مع بعض ويطلب
منها مسك يدها بشكل صريح، ويتزوجان في النهاية.
أما بائع الآيس كريم (محمد لطفي) الذي يتورط مع
عصابة إرهابية في محاولة تفجير الموكب الرسمي،
فتكون نهايته في فتحة المجاري حيث يموت، والقنبلة
تنفجر في يد طفلة بريئة. والكثير من الحكايات
والشخصيات التي صاغها السيناريو لتعطي للفيلم مذاق
خاص.
يقدم خيري بشارة في فيلمه هذا،
أسلوب السهل الممتنع.. ويبتعد كثيراً عن الحكاية
التقليدية، مع أنه يقدم فكرة
بسيطة، مع حادث ومواقف يومية يمكن أن تحدث كل يوم.
هنا يتشكل مجتمع صغير، يتكون من أنماط مختلفة من
البشر.. يتعايشون مع بعض، لتظهر
كافة التناقضات، جراء تلك الحكايات المتداخلة في
نسيج درامي واحد.. إنها حالات
وحكايات جسدها السيناريو ونجح خيري بشارة مع طاقمه
الفني في إيصالها على شكل أحاسيس
ومشاعر أخاذة.
الطريق
بوصفه طريق
الأمل يتركهم في مهب الطريق
بتناول عاطف الطيب في فيلمه (ليلة ساخنة ـ 1995)،
مفهوم الطريق بطريقة مباشرة.. الطريق كظاهرة
حياتية للكشف عن متناقضات المجتمع بكافة طبقاته..
الطريق بزخمه وعنفوانه.
فيلم (ليلة ساخنة ـ 1995)، يقدم أحداثاً تدور في
زمن قصير جداً، وهي ليلة رأس السنة واليوم السابق
لها،
اليوم الذي تتم فيه الترتيبات للاحتفال بهذه
الليلة، فهي بالطبع ليلة غير تقليدية للجميع..
وتعد مصدر فرح وبهجة للكثيرين من جهة، ومن جهة
أخرى تمثل مصدر رزق
للآخرين.
أما شخصيات الطيب في هذا الفيلم،
فتدور في فلك شخصيتين محوريتين فقط، الأولى شخصية
سيد (نور الشريف) المواطن البسيط
الذي يعمل سائق تاكسي يكسب منه لتربية وتعليم ابنه
المعاق ذهنياً بعد أن توفيت
زوجته وتركت له هذا الحمل، فبالإضافة إلى الطفل،
هناك أمها المريضة يتحمل أعباء
مرضها، حيث تصاب بجلطة في المخ، ويكون عليه أن
يدبر مبلغ 200 جنيه تكلفة العملية
التي قررتها الممرضة. لذلك فهو يطمح في أن يجمع
هذا المبلغ من خلال عمله في ليلة
رأس السنة.
الشخصية الثانية هي حورية
(لبلبة)،
فتاة الليل التائبة، والتي تعمل كخادمة في البيوت
لتربية أختها الصغيرة،
وتطمح لجمع مبلغ 300 جنيه لتدفع حصتها في ترميم
البيت المتضرر من الزلزال. وتدفعها
ظروفها هذه لطريق الفحشاء مرة أخرى وأخيرة. حيث
توافق على قضاء ليلة مع أحد
الأثرياء في مقابل مبلغ كبير هي في أمس
الحاجة إليه.
يلتقي سيد مع حورية مصادفة في
ليلة ساخنة كهذه، هو كسائق تاكسي وهي كزبونة. تركب
حورية التاكسي وهي في حالة غضب
بعد أن تتعرض للسرقة من قبل بعض البلطجية، والذين
يأخذون منها المبلغ التي حصلت علية
من الثري بعد ليلة ساخنة. ونرى كيف أن سيد يتعاطف
معها ويقبل أن يشترك معها في مطاردتهم، بعد أن
تعود عن نيتها في التبليغ عنهم في قسم الشرطة،
تحاشياً لأي بهدلة.
وتبدأ رحلة حورية مع سيد في البحث عن هذه الشلة في
الملاهي الليلية.
وفي هذه الرحلة غير العادية، يقدم
عاطف الطيب رصداً جريئاً لأبرز ظواهر الواقع
المعاصر. ففي واحد من أبرز المشاهد في
الفيلم، ترصد الكاميرا ظاهرة التيار الديني
المتطرف ومدى ميل أفراده إلى التعنت والعنف. حيث
يغلقون الشارع عقب صلاة العشاء للاستماع إلى خطبة
أحدهم، غير مراعين
بأنهم بذلك يعطلون أعمال الآخرين. إلا أن سيد يقرر
التحدي ومواجهة هذا التعنت وعدم
الخضوع لهم. فيتجه نحو الحشد بسيارته مخترقاً تجمع
هؤلاء في مشهد بالغ التعبير، غير
آبه بما سيحدث له، ضارباً بالخوف عرض الحائط،
ومؤمناً بأن الخوف منهم يزيدهم قوة
وبطشاً. كما يرصد الفيلم ظاهرة الشباب الطائش
المتوجه للسهر في الملاهي والكباريهات
في تلك الليلة بالذات، وذلك عندما يهم حفنة منهم
للاعتداء على حورية. ويستمر الفيلم
في رصده للكثير من الظواهر، حيث نرى خريجي الجامعة
يعملون كمناوبين للسيارات أمام
الملاهي الليلية. تعبيراً عن عدم رغبتهم في البقاء
عاطلين عن العمل.
طريق آخر مفتون بالواقع..!!
خلاصة:
في حضرة "الطريق" تكون الأشياء ذات معنى ووزن في
آن واحد، فمنذ اللحظة الأولى لكلمات هذه الدراسة،
صرت أسير الطريق وأسير فيه، بدأت أرى أفلاما قديمة
بصورة جديدة بفعل مفهوم "الطريق"، الذي كان جديدا
ومباغتا بالنسبة لي.
أضفى "الطريق" بمفهومه السينمائي قيمة أدبية هائلة
على كافة الأفلام التي تناولتها عبر الدراسة، لقد
رأيت أبطال الأفلام يعبرون الطريق تلو الطريق،
يذرعون السيناريو باتجاه رؤية المخرج الذي أثث
طريقه بهم.
صار الطريق مسيطرا علي إلى درجة أن كلمة "طريق"
تحولت إلى ثيمة رئيسية في الدراسة، اندمجت وأصبحت
بمثابة الموسيقى التصويرية ـ إذا جاز التعبير ـ
ليس لشيء سوى لفتنة المكتشفات ولحضور الطريق بشكل
طاغ على مجريات الأفلام وطبيعة شخصياتها التي تم
استعراضها.
حينما أصبحت تحت تأثير "سينما الطريق"، أو
"الطريق" كمفهوم سينمائي، بدأت شراك الأفلام تحيط
بي، فصار اختيار الأفلام للحديث عنها كنماذج
لسينما الطريق في غاية الصعوبة، حتى وصل بي الطريق
إلى أفلام "تيار السينما المصرية الجديدة"، التي
اخترناها لتكون مثالاً، ولمعت أمامي أسماء مخرجي
هذا التيار ومؤسسيه. اكتشفت وأنا ذاهب باتجاه
أولائك المخرجين، أن غالبية أفلامهم قد تناولت
الطريق بمفهومه السينمائي، واستطيع أن ازعم بان
أهم أولائك المخرجين، هم محمد خان وعاطف الطيب
وخيري بشارة وداود عبدالسيد.
صار – من وجهة نظري - من المتيسر على المتفرج أن
يختار الطريق الذي يريد وهو أمام الشاشة الفضية،
بل إنني استطيع أن ازعم أن مكمن الإبداع في صناعة
السينما هي تلك الطرق الأجمل الموازية لطرق
الحياة، كأننا أمام خلق.. كأننا أمام حياة مقترحة
نتفادى فيها ما يصيبنا في الواقع، وأحيانا أخرى
نمعن في تكرار ما يصيبنا في الحياة كنوع من أنواع
الماسوشية التي ستبقى سرا تحفظها الطرق لنا.
الطريق إذن.. هو الطقس السينمائي الذي سيمارسه
المخرجون كل حسب رؤيته، وهو في ذات الوقت نفس
الطقس الذي سيمارسه المتفرج كلما تقطعت به طرق
الحياة. |