في عام 1989 بدأ خيري بشارة مرحلة فنية جديدة بفيلمه (كابوريا)، حيث تمرد
على الواقعية الجديدة التي قدمها في السابق، وقدم كوميديا غنائية تسخر من
تناقضات الواقع الإجتماعي. فبعد أربعة أفلام صبغها بألوان واقعية شاعرية
تميل إلى السواد (الأقدار الدامية، العوامة 70، الطوق والآسرة، يوم مر ويوم
حلو) قفز خيري بشارة - وبلا مقدمات - إلى عالم الفنتازيا الساخرة وقدم
(كابوريا). وهو الفيلم الذي استقبله نقاد السينما في مصر بفتور وأحيانا
بعداوة، وأقبل عليه الجمهور المصري بحماس شديد، فحقق في الأسابيع الثلاثة
الأولى له على الشاشات المصريـة، إيرادات تـعـدت الثلاثمائة ألف جنيه وهو
رقم لم تسجله سوى أفلام قليلة، بينهما أفلام النجم عادل إمام.
شخصيا كان استقبالي للفيلم في مشاهدتي الأولى له استقبالا فاترا، بل أنني
صدمت بالفيلم واعتبرته أقل مستوى مما تعودته من خيري بشارة. هذه الصدمة،
ربما كانت نتيجة حتمية بعد كل ذلك الانبهار والتعاطف لما قدمه خيري بشارة
من قبل، وان هذا التحول المفاجئ في أسلوبه، هو بالضبط ما جعلني مرتبكا في
استقبالي لفيلمه الجديد.
يقول خيري بشارة: (...علي المستوى الشخصي، أنا طول عمري "كابوريا" أفلامي
الأربعة الأولى، على الرغم من كل العواطف التي تحملها، حققتها بوعي ذهني
شديد، وفي كل مرة كنت أسابق نفسي باحثا عن كيفية التخلص من سيطرة هذا الوعي
الذهني علي. كان كاتب الكابوريا في داخلي، وكبت رغبة التمرد الدائمة في
داخلي .. وأثناء تحقيقي لأفلامي التسجيلية وأعمالي الروائية الأربعة قبل
كابوريا، كنت أمينا مع رؤيتي في السينما هو دور تنويري (…) اليوم، من حقي
أن أتغير، أنا ديموقراطي مع نفسي قبل أن أكون ديموقراطياً مع الآخرين. في
داخلي أشياء مكبوتة لابد أن أعطيها فرصة للخروج، أشعر أنني كنت ديكتاتوريا
على نفسي، واليوم أعامل نفسي بمنتهى الرحابة، وأرى كابوريا اقرب فيلم
لتركيبتي الشخصية الحقيقية، وبداية مرحلة سأقلب فيها كل شئ من دون أي رقابة
ذاتية، وسأخرج من المياه العذبة لأستمتع بالمياه المالحة!!...).
ومن هنا يصبح ما قاله خيري بشارة أمراً مشروعا لأي مبدع، حيث يفترض أن يكون
الفنان صادقا مع نفسه، حتى يكون صادقا مع المتلقي، فمن حق أي فنان أن يقدم
ما يريده من فن، ومن حق المتلقي قبوله أو رفضه، فالاختلاف ليس ظاهرة سلبية،
بل هي على العكس إيجابية خاصة في مجـال الفن والإبداع، وليس صحيحا أن نهاجم
الفنان ونصادر حريته لمجرد اختلافنا معه.
ففي فيلمه (كابوريا) يتحدث خيري بشارة عن أربعة شبان من الطبقة الشعبية
الفقيرة، يهوون الملاكمة ويحلمون بالمبـاريات الدولية. ويتحدث من جانب آخر
عن سيدة ثرية (رغدة) تبحث عن أحاسيس قوية تخرجها من سأم حياتها المخمليـة،
فتصطاد الشباب وتدخلهم في فيلتها، حيث تستبدل المراهنات علي مباريات الديوك
بالمراهنات على مباريات الملاكمة، ويعيش هدهد (أحمد زكى) وأصدقائه سلسلة من
المواقف، يلمسون فيها زيف المجتمع المخملي، فيعودون إلى ناديهم الشعبي
الصغير، ويرجع هدهد إلى حبيبته فتاة النافذة المواجهة للنادي. ولأن
"الكـابوريـا" يتم اصطيادها في غبش الفجر، عندما تسير منتشية علي الشاطئ،
ليتسلى بأكلها ليلا، كذلك يتم اصطياد صعاليك الشوارع فجرا، ليتسلى بهم
السادة ليلا، من هنا تعمد الفيلم أن يكون اللقاء الأول بين "رغدة" و"احمد
زكى" على سطح النيل في الفجر، حيت يتسلق منتشيا جدار باخرتها، وهو لا يعلم
أنها تصطاده للتسلي.
هذه هي الفكرة العامة التي صاغها خـيري بشارة مـع السيناريست (عصام الشماع)
للفيلم، فهما في هذه الصياغة الجديدة، قد تجاوزا ما يسمى بالواقعية، وقدما
كوميديا غنائية تسخر من تناقضات الواقع الاجتماعي والاقتصادي.
يقول خيري بشارة، في هذا الصدد: (...أثناء العمل علي سيناريو كابوريا، كنا
دائما نردد أننا نريد أن نكون صادقين كالكريستال، لا مكان في اهتمامـاتنـا
لخلفيـات الشخصيـات الاجتماعيـة والاقتصادية والزمن والمكان التاريخيين،
وكل هذه الأشياء المرتبطة بـالواقـعيـة الاشتراكية، ما قبل ذوبان ثلوج 56
إنتهت بالنسبة لي، عبرت عنها في أربعة أفلام ولا أرغب في المزيد من
الترداد...).
وبما أن خيري بشارة يعلن صراحة بأنه في فيلمه هذا، لا يتخذ من الواقعية
أسلوبا له، فلن يكون هناك مجال للحديث عن مواءمة تصرفـات أي من شخصياته في
الفيلم مع طبيعتها وأبعادها من عدمها، حيث من المفترض عدم التعرض لمناقشة
الفيلم بأدوات لا تتناسب والأسلوب الفني الذي يتبناه. وهذا بالضبط ما وقع
فيه بعض النقاد عندما انتقدوا فيلم كابوريا، حيث تعاملوا معه كفيلم واقعي.
أننا في (كابوريا) أمام فيلم فنتازي ساخر يتعرض لطبقة الأغنياء
(المليونيرات) وطبقة الفقراء (الصعاليك) يسخر منهما ويدينهما في نفس الوقت.
إنه يصور لنا شكلا من أشكال الاستغلال يمارسه أغنياء على فقراء.
أن خيري بشارة هنا يقدم لنا حياة هؤلاء المرفهين الباحثين عن المتعة
والتسلية لقتل الفراغ والملل الذي يعانون منه، وبالتالي. يسعون للبحث عن كل
ما هو جديد يكسر هذه الرتابة والملل، حتى ولو أدى إلى توظيف بعض الكـائنـات
البشريـة لتحقيق أغراضهم. كما انه يدين أيضا تلك السلبية واللامبالاة التي
تلازم أغنياء من هذا النوع، كذلك عندما يتناول حيـاة هؤلاء الصعاليك، فهو
لايتعاطف معم تماما، إنما يقدمهم كحيوانات سرك، يتسلى بهم الأغنياء، بل
ويدين سلبيتهم كذلك وقبولهم لمثل هذا الوضع المزري. ، لقد نجح خيري بشارة
في تقديم فيلم جديد، هادف وسريع، حيث وفق في إدارة فريقه الفني من فنانين
وفنيين، خصوصا في تلك المشاهد التي يرصد فيها، بحيوية ومهارة، أثر اللكمات
علي وجوه الملاكمين. |